تعتبر قضية الحج فريضة اسلامية عظيمة وكبيرة، وهي من أهم الواجبات والشعائر الدينية، بل هي من أفضل الاعمال للتقرب الى الله عز وجل، من هنا فمراسم الحج الرائعة هي عبارة عن عبادة اخرى، تحتوي على بركات واثار عظيمة تعود على الفرد وعلى المجمتع المسلم ايضا الخير الوفير، ولو أقيمت هذه الفريضة الجماعية المميزة على النحو الصحيح، ووظّفت توظيفا دينيا صحيحا، فإنها يمكن أن تتحول الى مصدر للحيوية والحركية في صفوف المجتمعات المسلمة(1). ومن هنا تنبثق اهمية بيان وتفسير اهم اجزاء الحج والوقوف على مناسكه العظيمة، عبر الاستفادة من اراء وافكار المرجع الكبير آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرزاي(مد ظله)، اذ يمكن ان تكون هذه الافكار والاراء الخاصة بهذه الشعيرة المقدسة كرّاسا او كتابا جامعا يتناول ماهية فريضة الحج وفلسفته وأبعاده، وتكون مضامينه خطوطا عريضة تمكّن من الوصول الى بركات هذا العمل العبادي الرائع وثماره الطيبة في مديات وابعاد مختلفة، وهنا سوف نستعرض للقراء الكرام بعض تلك الابعاد:
1 ـ إن الحج من اكبر الأركان في الاسلام، وفيما يتعلق بمعنى هذه الفريضة وماهيتها قال آية الله المرجع الكبير مكارم الشيرزاي: إن من اعظم اركان الاسلام من وجهة نظر الشيعة الامامية هو الحج(2). وتعود حقيقة الحج في الواقع الى نوع من انواع الجهاد البدني والمالي، بل إن الحج هو جهاد معنوي، مثلما يكون الجهاد حج حقيقي ايضا، عند ملاحظة اسرار واداب الحج بدقة في النظام الاسلامي تجد لونا من الوان الوحدة والانسجام والتلاحم بين هذين الركنين(3).
2ـ كيف ومتى يجب الحج على ضوء ما بيّنه سماحته حفظه الله، من خلال عرض الشروط الوجودية الموجبة لتحقق ووجوب هذه الفريضة على المسلمين، فقد قال آية الله الشيخ مكارم الشيرزاي عن ذلك ما يلي: في حال توفر الشروط العامة لوجوب الحج من قبيل "البلوغ والعقل" وحصول الشروط الخاصة ايضا، من قبيل كون الفرد مستطيعا بأن يجتمع لديه(الزاد والمؤونة والراحلة والسلامة في البدن، والاطمئنان لسلامة وأمن الطريق) حينها يكون الحج واجبا وهذا الوجوب مرة واحدة في عمر الانسان، وهذا الوجوب هو وجوب فوري، لايجوز التأخير او التبطاؤ فيه(4).
3 ـ إن الحج مظهر للمساواة ورمز لالغاء كل الوان التمايز بشتى الوان التمايز بين عباد الله، وبهذا الخصوص قال الشيخ المرجع والمفسر الكبيرالشيخ مكارم الشيرازي: إن مناسك الحج وطقوسه من جملة العبادات الجماعية المشتركة يبدأها الانسان بتجرد كامل وتنزه عن كل شئ سوى ما يلبس من ملابس الاحرام البسيطة جدا، وتلك المراسم تدل على المساواة بين خلق الله وعباده في حضرته، ومعلوم أن المساواة والغاء الفوارق الطبيعية هي أمل وطموح البشر بأن يأتي اليوم الذي تتحقق فيه العدالة بين الناس وتتلاشي فيه كل الوان التمييز والاختلاف بين الوان البشر وعناصرهم من قبيل الشكل والثروة والعرق واللغة ونحو ذلك، فيتساوى الجميع ويتشابهون في الوقوف بين يدي الله ويذعن الانسان أن جميع البشر سواسيه عند الله جل شأنه.
إن اعمال الحج من العبادات التي تهدف الى تحقق هذا الغرض الذي يؤدي أن يعتقد المشاركون فيها أن الايمان هو السبب الوحيد الذي يوجب التمايز بينهم فقط، وليس هي الامتيازات والاختلافات الطبقية والاجتماعية ونحوها(5).
4 ـ إن أهم ما يكشف عن حقيقة وجوهر الحج الابراهيمي هو أن هذه الشعيرة المقدسة هي هجرة كبرى، ورحلة الهية غاية في اللّذة والجمال، لانها حلقة كبيرة وواسعة لبناء الذات وصناعة النفس، وهي مركز للجهاد الاكبر(6).
إن مناسك الحج في الواقع هي عبادة يستذكر بها عبادة الله بعمق وانبهار نكران الذات والايثار العظيم الذي مثله النبي ابراهيم وولده اسماعيل وزوجته هاجر عليهم السلام، فتختلط مناسك الحجيج وطقوسهم بتلك الحكايات والقصص الرائعة، ولو اردنا دراسة اسرار الحج والبحث في حقيقة اعماله من دون الالتفات الى تلك اللوحة المشرقة من حياة نبي الله ابراهيم عليه السلام ستضحى تلك المراسم والطقوس غامضة وستختفي الكثير من روعتها وجمالها، اجل فان مفتاح فك لغز شعائر الحج العظيم يكمن في المعرفة الحقيقية للامتداد العميق بين هذه الطقوس والقصة الرائعة التي سطرها ابراهيم عليه السلام، وبالتالي فالاستذكار الواعي واليقظ لتلك اللوحات المشرقة تفسّر الكثير من اسرار الحج والغازه(7).
وعندما نأتي الى ارض ومذبح منى ونستذكر تضحية النبي ابراهيم، ونعيش معه لحظات الايثار والتسليم التي عاشها مع الله تبارك وتعالى عندما ضحى بابنه وثمرة عمره الغالية التي كان ينتظرها طويلا في سبيل الله وانصياعا لامره وتقديمه أعز ما يملك قربانا لله، الامر الذي اصبح فيما بعد عبارة عن التضحية في منى وهي الشعيرة المستوحاة من تلك القصة واللوحة الرائعة، وهذه القصة تدعونا للبحث عن فلسفة هذا العمل والتقصي عن اسرار وتفصايل هذه الشعيرة ومناسكها، واما عندما نلاحظ منسك رمي الجمرات(وهي الاعمدة الثلاثة الخاصة التي على الحاج ان يرميها بالحصى، ويجب عليه ان يرمي كل جمرة من تلك الجمرات في كل مرة بسبع حصاة في مراسم وطقوس واذكار خاصة) وفي هذا العمل تحديدا نستذكر صراع النبي ابراهيم بطل التوحيد مع الوساوس الشيطانية واصنام الشرك.
وذلك عندما عرض له الشيطان ثلاث مرات وهو في طريقه الى تلك الجمرات الذي حاول ثني ابراهيم عن تحقيق ما يريد، لكن كان ابراهيم هو الغالب، عندما رماه بالحصى وابعده عن طريقه. وعندما نغدو ونروح الى جبلي الصفا والمروة، نشاهد ان الحجيج يسعون زرافات زرافات من هذا الجبل الصغير نحو ذلك الجبل الاصغر وما ان يصلون اليه يعودون ادراجهم الى حيث بدأوا، لايشغلهم شاغل ولاينقلون اي شئ من هنا الى هناك ولايعودون كذلك بامر اخر يلهيهم عن ذلك السعي الحثيث الذي يتجلى تارة بالمشي واخرى بالهرولة، وهذا السعي هو القصد دون غيره، اجل ان قصة هذا السعي تعود الى جهود تلك المرأة المؤمنة " هاجر " وكفاحها المرّ من اجل نجاة ولدها الرضيع اسماعيل الذي اودى به العطش في ارض قاحلة جرداء، وبذلك نستذكر التماسها للماء، وكيف ان الله سبحانه وتعالى رأف بها وبولدها الرضيع وفجر عين زمزم من تحت قدمه الغض، وهنا تعود عقارب الزمن الى الوراء وتميط اللثام بشكل مفاجئ عن بعض حلقات القصة فنرى أن ذلك الطفل كان يسعى هو الاخر ويجتهد ايضا للحصول على قطرات الماء التي تلزمه للحياة، ويلح في الطلب من رب العزة والجلالة، ومن ذلك نستنتج أن السير في الطريق الله لاينفع من دون الجهد والسعي الحثيث والجلادة والصبر، من هنا يمكن أن نقول وبسهولة أن الحج لابد يستلهم منه كل الفضائل والقيم من خلال هذه الرموز التي يقتبس منها معناه وقيمته، ومن خلال استذكار ما صنعه ابراهيم النبي وهاجر وابنهما الرضيع تتجلى قيمة الايمان والاعتقاد والتعلق بالله، ومن خلال تلك المعطيات والحكايات التي اسست لهذه الشعيرة العظيمة تتضح فلسفة الحج ويكون لها الاثر العميق في نفوس الحجاج واخلاقهم وسلوكهم، والذي بدون انعكاس تلك الاثار وتلك الثمار على الواقع الفردي والجماعي يتحول هذا المحفل العظيم والتجمع الالهي الكبير الى اجتماع سطحي ومناسك قشرية(8).
5 ـ قراءة في بعض المواطن التفسيرية لاحكام الحج، اذ يقول آية الله العظمى مكارم الشيرازي ومفسر القران الكبير في بيان وعرض بعض المؤشرات الدلالات التفسيرية لبعض احكام الحج:
يتحدث الباري جل اسمه في القران الكريم وفي الآية 197 من سورة البقرة عن احكام الحج، ويصدر بحقها احكاما وظوابط جديدة، وتلك الاحكام على النحو التالي:
1 ـ يقول تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ). والمقصود من هذه الاشهر هي شهر شوال وذي القعدة وذي الحجة، وعلى ضوء ذلك فان الحج انما يتحقق في ضوء فترة زمنية محددة وليس في طول العام.
2 ـ ثم يتعرض القران الكريم الى حكم اخر من احكام الحج وهو الحكم المتعلق بمن ارتدى الاحرام وبدأ بمناسك الحج، حيث عبّر عن ذلك بما يلي: "فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ فِي الْحَجِّ".
وعلى ضوء ذلك فان الفضاء الطاهر لمناسك الحج لابد ان يكون نقيا من كل الاستمتاعات الجنسية، مضافا الى انه يجب أن يخلو من كل الذنوب والمعاصي، والاقاويل الفارغة، ولابد أن يبتعد الحجيج فيه عن كل الوان الصراع والجدل والبحث الخالي من الفائدة، لان ذلك المحيط هو المكان والفضاء الذي تتزود منه روح الانسان، ومن ذلك المكان ينطلق للتجرد من المادة والعالم الهابط، ويسلك السبيل الى عالم ما وراء المادة، وفي نفس الوقت فان حضور الملايين من الناس في تلك المناسك هو مؤشر مهم ودليل على اتحاد واشتراك المسلمين وتماسكهم القوي، وكل عمل ينافي هذه الامور يكون مرفوضا.
3 ـ ومن ثم يشير القران الكريم الى المسائل المعنوية المتعلقة بالحج والقضايا المتعلقة بالاخلاص، قال تعالى: "وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ" وهذا المقطع القراني فيه معنى غاية في اللذة والحلاوة، اذ أن كل ما تفعلوه وتصنعه ايديكم من خير وصلاح يكون حاضرا عند الله(9) وفي نهاية هذه الاية وحتى تكتمل الصورة المتعلقة بالاخلاص في عمل الخير يقول تعالى: "وَ تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَ اتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ" وهنا اشارة لطيفة الى حقيقة غاية في الروعة وهي أن هناك العديد من مواطن الاستزادة المعنوية في مناسك الحج ورحلة العروج الى الله، على الانسان الا يغفل تلك المواطن ويوظّفها في الابعاد المعنوية والروحية والقرب من الله، وبالتالي فان تلك الابعاد المعنوية والجوانب الروحية الخالدة الحية يمكن أن تزود حياة الانسان وتغذي عمره وهو في هذه الرحلة الفريدة بالطاقة المعنوية والزاد الروحي(10).
ومن البديهي فان وجود الابعاد والجوانب المختلفة في فريضة الحج امر لا يمكن انكاره ابدا، ولكن تسليط الضوء على تلك الابعاد العظيمة وتحليلها من خلال الرؤية العميقة لآية الله العظمى مكارم الشيرزاي مد ظله يمكن ان يكون سراجا ينير الطريق في كسب العلم والمعرفة واثراء الوعي بالجوانب الروحية لشعيرة الحج المباركة، كالجانب العبادي والسياسي والاجتماعي والثقافي والاخلاقي والاقتصادي، وسنتعرض الى هذه الجوانب والابعاد واحدا تلو الاخر حسب ما يراه سماحته.
الابعاد والجوانب العبادية لفريضة الحج
1ـ تعزيز قواعد الاخلاص والتقوى، ويعتبر آية الله الشيرازي في بيان الجانب العبادي لفريضة الحج ان تربية النفوس وتعزيز الاخلاق وتوثيق عرى التقوى هي المظهر الاساسي في فلسفة الحج واسراره العبادية، ثم قال: إن البعد الاخلاقي والعبادي اللذان يعدان الركنان الاساسيان لبلورة فلسفة الحج، يتجليان في تهذيب النفوس وتربيتها وبناء الاخلاق وتعزيز اواصر التقوى والاخلاص(11). فقد جاء في الاحاديث الشريفة ما اشتهر من التعبير عن حالة النقاء والطهارة من الذنوب التي يتصف به الحاج بعد أداء مناسك الحج، حيث تقول الرواية "يخرج من ذنوبه كهيئته يوم ولدته امّه" وسر تلك الطهارة والنقاء من الذنوب هو التوجه الى الله وحده والاخلاص اليه سبحانه، من خلال حفظ الضوابط والقوانين وعبر الوعي الحقيقي بفلسفة الحج(12). وهذا دليل على التأثير العميق الذي يخلقه الحج العظيم على روح ونفس الانسان، وهو تطهير باطنه من كل الذنوب والمعاصي والخبائث التي سيطرت على قلبه وسكنت اعماقه، ودون شك فان ذلك من اكبر فوائد الحج واعظمها التي يجنيها زوار بيت الله الحرام(13).
2 ـ الحج ولادة وحياة جديدة، ويمضي سماحته في بيان اعمال ومناسك الحج وابعادها العبادية الرائعة، وهو بذلك ينعش الحقل المعرفي لطلاب البحث والتقصي من الطلبة والمؤمنين عن هذه الفريضة برؤى وافكار جديدة، اذ يقول: ان المؤمنين كلما تقدموا خطوة الى الامام تقربوا الى الله سبحانه اكثر، ويزداد يقينهم بأن المعبود والمحبوب الحقيقي حاضر في كل مكان، من هنا فان الحج يعني ولادة وحياة جديدة للانسان الحاج، والحجاج الذين يدركون بكل وجودهم الابعاد المعنوية والاثار الروحانية الحقيقية لشعيرة الحج، فان تلك الاثار والابعاد الرائعة ستظل تسكن نفوسهم وارواحهم وقلوبهم حتى نهاية اعمارهم، وربما يكون ذلك هو السر في وجوب الحج مرة واحدة في حياة الانسان(14).
وتتجلى هذه الحقيقة اكثر حينما يستذكر حجاج بيت الله النبي ابراهيم محطم الاصنام واسماعيل ذبيح الله وامه السيدة هاجر، ويتصفحون حياتهم الحافلة بالتوحيد والايمان والتوكل والاخلاص والتسليم والتضحية والايثار، وتتجسد امام اعينهم جميع المواقف التي سطروها والتي تهز الانسان من الاعماق، وكذلك يلتفتون الى ان ارض مكة بشكل عام والمسجد الحرام والبناء الشامخ للكعبة المشرفة ومكان الطواف، هو حضور لسيرة النبي(صلى الله عليه وآله) العطرة واصحابه العظام وكذلك استذكار للمجاهدين الذين ضحوا بأعز ما يملكون في سبيل الله في الصدر الاول من الاسلام، فان الثورة الاخلاقية سوف تتعمق اكثر في نفوس الحجاج والمعتمرين، على نحو أن الانسان سوف يتذكر في كل جانب وزاوية من زوايا المسجد الحرام وارض مكة المكرمة شخص النبي الكريم(صلى الله عليه وآله) والامام علي(عليه السلام) وسائر الصحابة الكرام، ويسمع اصواتهم الهادرة التي تجلت فيها الحماسة والاقدام والتضحية في سبيل الله.
أجل فان كل عباد الله وهم في البيت العتيق يمدون ايديهم لبعض وفي اتحاد وانسجام ملفت وبذلك يتبلور الاعداد لثورة اخلاقية كبيرة تنبثق من قلوب ناظجة ومستعدة، وفي مشهد وصورة غاية في الاعجاب والروعة سيقلب اوراق حياة الانسان الى الوراء لينتهي الى صفحة جديدة ناصعة هي الصفحة الاولى واللحظة الاولى من حياة ذلك الانسان معلنا بذلك بداية حياة وعمر جديد(15).
الابعاد الاخلاقية في مناسك الحج
1 ـ التحول الاخلاقي، فانه وعلى ضوء ما يراه سماحة آية الله العظمى مكارم الشيرزاي أن اهم ما يميز فلسفة الحج وماهيتها الحقيقية هو التحول والثورة الاخلاقية، التي تنبعث في اعماق الانسان وتتدفق في روحه، فان طقوس الاحرام تجرّد الانسان بصورة كلية عن الحدود المادية والفوارق الظاهرية سواء كانت تتعلق بالثياب ام باللون ام بالاناقة او الزخرفة، ومن خلال تحريم الملذات والبدء بصناعة وبناء الذات التي تعد من وظائف المحرم، تعزل المحرم عن العالم المادي وتقذفه في عالم النور والصفاء والروحانية، في حين تجد الانسان وهو يعيش حياته الطبيعة يتحمل الوانا من الفوارق الشكلية الثقيلة سواء كانت طبقية ام غيرها، بخلاف ما عليه في الحج حيث يشعر بالمساوة وتلاشي جميع الفوارق مضافا الى احساسه بالراحة والسكون؛ وذلك لان لباس الحج يخرج كل الوان الغرور والاعتداد بالذات من اعماق الانسان، ويغذي اعماقه دورسا في التواضع والاخلاص والايثار(16).
2 ـ محاربة النفس، وأضاف سماحته في شرح التعاليم والقواعد الاخلاقية لمناسك الحج وقال في بيانها لزائرين الحرم المكي الاقدس ما يلي: لا شك أن الطقوس العبادية التي يمارسها الحجاج تضع الانسان في تحد امام شهواته وهوى نفسه، وتغرس فيه روح الجهاد والمواجهة ازاء وساوس الشيطان ومزالقه، وكلما كانت مشقة تلك الطقوس قليلة كان مستوى محاربة النفس ومجاهدتها ضعيفة، ولكن عندما تكون المشقة اكبر والتعب اكثر يكون مستوى محاربة النفس اقوى واكبر وتكون وساوس الشيطان اوسع واعنف وهنا ميدان جهاد النفس، وفي هذا المجال يتميز عباد الله ويظهر إيمانهم بشكل اجلى واقوى، وفي هذا النطاق تبرز اهمية ودور التربية في الحج، وتاثير مناسكهه في نفوسهم(17).
المكتسبات السياسية لفريضة الحج
1ـ وحدة الامة الاسلامية ثمرة اساسية من ثمار فريضة الحج، فمن الثابت جزما هو ضرورة دعم وتعضيد وحدة الامة وتماسكها، من هنا لابد من اسثمار الاعمال العبادية والسياسية لفريضة الحج في تحقيق هذه القضية المهمة، وعلينا توظيف تلك المناسك لبلورة نتائح ومكتسبات فريدة في اتحاد وتماسك الامة الاسلامية. من هنا فان الفكر النير الذي يتمتع به سماحة آية الله العظمى مكارم الشيرزاي(مد ظله الوارف) يعتبر أن وحدة الامة الاسلامية وانسجامها مؤشر استراتيجي مهم في فريضة الحج، لذا يقول سماحته في هذا السياق: أن روح العبادة هو التوجة الى الله تعالى وروح السياسة هو التوجة والعناية بالخلق، وهاتان الروحان تعانقتا في مراسم ومناسك الحج حتى اصبحتا قطعة واحدة وجسم واحد، من هنا فإن الحج عامل مؤثر في وحدة الصف وتكاتف المسلمين(18). والحج ايضا عامل لمواجهة التعصب القومي والعرقي والمذهبي، وهو يختزل المسافات الشاسعة بين الشعوب ويتجاوز الحدود الجغرافية بين البلدان(19).
وقد عبرت بعض الروايات الشريفة عن الحج بانه جهاد الضعفاء، فهو جهاد يشارك فيه كبار السن من الرجال والنساء العاجزين، حيث يشكل حضورهم في طقوس الحج ومراسمه عنصر قوة وعظمة للامة المسلمة، مضافا الى أن الصلاة الموحدة التي يشارك فيها كافة المسلمين وطوافهم العظيم حول الكعبة الشريفة حينما تصدح حناجرهم بالتكبير والتوحيد الالهي يعكس عظمة هذا الدين، ويقض عروش الظلمة ويغضب اعداءه(20). وهنا يتأكد حجم ودور الحج في وحدة المسلمين وقوة الاسلام وعظمته(21).
2 ـ المؤتمر السنوي للحج، هو اكبر واعظم حلقة لتواصل المسلمين وتعارفهم
يقول سماحته عبر تشبيهه موسم الحج الكبير بالمؤتمر العظيم للامة الاسلامية وشرحه للفعاليات الفريدة لهذا الاجتماع المهيب: ان الاسلام عندما وضع القوانين السياسية ودعى الى انعقاد المؤتمر السنوي للحج في ارض مكة المكرمة ضمن بذلك بقاء وخلود وسلامة هذا الدين الحنيف، وبالطبع فان هذا المؤتمر سيكون تأثيره اكبر بكثير من المؤتمرات السنوية التي تعقدها الاحزاب والكتل السياسية(22).
ورغم أن بعض السياسيين التفت في العصور المتأخرة الى اهمية ودور مثل هذه المناسك والاجتماعات العظيمة في حين أن الاسلام تناول اهمية هذه الشعيرة ودورها قبل اربعة عشر قرنا واثار النتائج المهمة لهذه المناسك منذ فترة طويلة، هذا ويمكن لمفكري الاسلام الذين سيساهمون ويشاركون في هذا المحفل الالهي والاجتماع الكبير أن يتناولوا ويطرحوا اخر التطورات على الساحة الاسلامية ويبحثون طبيعة المتغيرات في العالم المسلم، ومن ثم وبعد جمع المعلومات الدقيقة وتبادل وجهات النظر السعي في تحسين وضع المسلمين والمساعدة في تطهير الارض المسلمة مما يحول دون حرية واستقلال وتقدم وتطور العالم الاسلامي في كافة المجالات(23).
فهل هناك اجمتاع او محفل اكثر فائدة من الحج وافضل ثمار يجنيه المسلمين من هذا اللون من التواصل والتعارف بين المسلمين في العالم واطلاع كل واحد من قادتهم لاوضاع ومشاكل الاخر(24)؟
من هنا فان مؤتمر الحج السنوي العظيم دائما ما يلهم الكثير من جوانب الحرية والثورة والنهضة العظيمة، وعادة ما يكون له دور كبير في مواجهة الظلم والفساد والوان عديدة من الحيف، وتتجلى هذه النقطة عند مراجعة التاريخ الاسلامي والاطلاع على الثورات التي قام بها ابناء الاسلام ورجاله المؤمنين؛ وذلك لان شعلة الكثير من الثورات الاسلامية ضد حكومات الجور والطغيان عادة من تتصل وتتبلور من خلال اتصالها بهذا الاجتماع وشعائر الحج العظيمة، فان تلك الارض الطيبة هي الملهمة لهكذا حرية وثورة(25).
من هنا فان الاجتماع الاسلامي العظيم في الحج هو عملية لاستحكام وثبات قواعد واصول الاسلام الحنيف، وهو تعزيز لقوة المسلمين وتماسكهم في المجالات الفكرية والثقافية والعسكرية المختلفة(26).
3 ـ عزة الامة الاسلامية وكرامتها
وقال سماحة المرجع مكارم الشيرزاي في بيان النتائج الطيبة والثمار الغنية الفريدة لفريضة الحج في تحقيق عزة وعظمة المسلمين، ما يلي: ان الحج ـ لو كان هو نفسه الذي دعى اليه الاسلام وحثّ فيه ابراهيم العالم الى تحطيم الاصنام مبادرا الى ذلك بنفسه ـ فهو سبب لعزة وكرامة المسلين، وتعزيز لقواعد الدين ووحدة الكلمة، وتوطيد لاصول القدرة والشوكة امام الاعداء، والبراءة من المشركين في العالم، وهذا المحفل الالهي العظيم الذي يعقد في كل عام بجوار بيت الله الحرام، هو افضل فرصة للمسلمين من اجل التخطيط واعادة بناء وهيكلية وتنظيم مواطن القوة وتشخيص مواطن الخلل والنقص، وهو فرصة مؤاتية ايضا لتدعيم اواصر الاخوة والتعاون، واحباط كل المؤامرات والخطط التي تحاك ضد المسلمين على طول السنة(27).
4 ـ الحج عنصر اساسي ضد الغطرسة والاستبداد
يجب الاعتراف أن اثار وبركات الحج المتعلقة بالجانب السياسي يجب أن تنتهي بعد تحقق الوحدة والتماسك والعزة والكرامة الى كبح جماح الظلم والقضاء على الاستكبار والطغيان، من هنا بادر سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي حفظه الله الى بيان هذا الامر الهام كما يلي: ان الحج وسيلة للقضاء على الهيمنة والوان التحكم الظالم بمصائر الشعوب في الدول الاسلامية(28). والحج ايضا وسيلة لوصول وانتقال الاخبار السياسية للدول الاسلامية من نقطة الى اخرى، وبالتالي سيكون الحج فرصة سانحة للخلاص من ربقة الاستعمار وكسر قيوده التي يحاول بها أسر الشعوب المسلمة، وبعبارة فان هذا المحفل الالهي الكبير هو محطة لصناعة الحرية والاستقلال(29). لذلك يقول الامام امير المؤمنين حينما يريد بيان فلسفة الفرائض والهدف من الطقوس، يقول عن الحج ما يلي: "الحج تقوية للدين"(30). مضافا الى ذلك فانه ليس جزافا ان يقول احد السياسيين الاجانب المعروفين في كلمة تحتوي على الكثير من المعنى: "ويل للمسلمين اذا لم يدركوا معنى الحج وحقيقيته، وويل لاعدائهم اذا ادركوا معنى الحج"(31).
إن مجموعة من المناسك التي تتصف بالجماهرية والتأثير الواسع والتي تحتوي على الكثير من الحوافر والبواعث المعنوية يقل نظيرها في عالم الدنيا، ولكن للاسف لم يدرك المسلمين القوة العظيمة للحج ولم يستثمروا الفائدة الكبيرة لهذه الشعيرة، والا فان بإمكانهم ان يقدموا للاسلام كل عام افضل واكبر خدمة، وبالتالي سيوجهون ضربة قاضية لقواعد الكفر واصول الطغيان(32).
الثمرات الاقتصادية لفريضة الحج
1 ـ الحج وضرورة التأسيس لسوق اسلامي مشترك
إن دعم البنى الاقتصادية للامة الاسلامية من جملة الاستراتيجيات الاساسية في قوة وعزة وكرامة الشعوب والبلدان، من هنا فان اجتماع الحج العظيم يمكن ان يؤدي دورا كبيرا في تحقق القوة والجودة في اقتصاد البلدان الاسلامية، ورفاهية الشعوب المسلمة، الامر الذي يتطلب وعي ويقضة وبصيرة تلك الدول وقادتها والمسؤلين فيها، ولكن للأسف حتى الان وبسبب غفلة بعض الدول التي تتظاهر بالاسلام، صارت الفلسفة الاقتصادية لفريضة الحج امرا منسيا، وتلك الدول غير مبالية تماما بنتائج تلك الغفلة الكارثية.
ولكن على ضوء الرؤية العميقة التي يتبناها المرجع الكبير مكارم الشيرزاي، ووفي ضوء تأكيده المتزايد على الدور الممتاز الذي يلعبه تواجد المسلمين وحضورهم في الحج في دعم وتعزيز اقتصاد ورفاهية الامة الاسلامية، كاشفا بذلك عن السبل الصحيحة في هذا السياق وهو الامر الذي يتجلى فيه عمق المعرفة والبصيرة واهتمام المرجعية وقلقها بمصير الامة الاسلامية ومصيرها، من هنا عبّر سماحته عن ذلك بما يلي: على خلاف ما يذهب اليه البعض فان اعتبار مؤتمر الحج العظيم عاملا مهما لدعم القواعد والاسس الاقتصادية للدول الاسمية غير مخالف لروح الحج وفلسفته فحسب، بل وعلى ضوء الروايات الشريفة أنه واحد من اسرار واهداف الحج وغاياته(33). من هنا فما الذي يمنع المسلمين في هذا الجمع الغفير من تأسيس سوق اسلامي مشترك، وتهئية الارضية المناسبة للتبادل التجاري بين دولهم وشعوبهم، وتتجلى اهمية هذا التبادل والسوق التجارية ليس فقط في الحيلولة دون حصول العدو على اموالهم وبضائعهم ولايقف عند استقلال الاقتصاد الاسلامي عن اقتصاد وسوق الاجنبي، بل هو عين العبادة والجهاد في سبيل الله ايضاً(34).
ومن هنا فان الفلسفة الاقتصادية للحج كانت محطة لاهتمام الروايات الشريفة، بمعنى ان الحج يمكن ان يكون قوة اقتصادية تضاعف الجهد والثمار الربحية للدول الاسلامية، وتنفع جدا في التخلص من الازمات المالية والاقتصادية.
2ـ مؤتمر الحج العظيم ودعم الاقتصاد العام للامة المسلمين
يقول المرجع الشيعي الكبير آية الله العظمى مكارم الشيرزاي عبر التأكيد على ضرورة عقد الندوات الاقتصادية للدول الاسلامية وجدوى تبادل الافكار والرؤى المنبعثة عن ضرورة التأسيس لاقتصاد اسلامي ناضح كما يلي: جاء في الروايات الشريفة عن المعصومين عليهم السلام ان البعد الاقتصادي يعدّ من اسرار واهداف الحج ايضا، وقد يتسائل البعض عما يلي: ما دخل الحج بالقضايا الاقتصادية وما علاقة هذه الشعيرة بمواضيع السوق وعالم الاقتصاد؟ ولكن حينما نلتفت الى أن اهم ازمة تواجه المسلمين في العصر الراهن هي الازمة المتعلقة بالوضع الاقتصادي والتبعية والتقهقر الذي تشهده السوق الاسلامية، بسبب حضور العدو القوي والمسيطر على السوق العالمية ماسكا مقود الاقتصاد يديره كيف يشاء، من هنا فان اجتماع الحج العظيم وطقوسه المشتركة يمكنه أن يخلق مناخا اقتصاديا من خلال حضور الخبراء المسلمين والمعنين بهذا الشأن، فيتداولوا الامر وبالتالي يخلصوا المسلمين من تسلط الاجنبي على مفاصل الاقتصاد والسوق، عند ذلك سوف تتجلى اهمية هذا الموضوع وضرورة توظيف هذه الشعيرة لدعم قوة المسلمين وتماسكهم(35).
لذلك فان سفر المسملين وانطلاقهم من بلاد ودول مختلفة من العالم لتكون محطتهم الاخيرة هي بيت الله الحرام مشكلين بذلك اجتماعا واشتراكا فريدا ومميزا يمكن أن يؤسس لتحول اقتصادي ملفت ومهم يصب في مصلحة عامة المسلمين في المجتمعات الاسلامية المختلفة، وعلى هذا النحو يمكن أن تجتمع العقول الاقتصادية المتفتحة قبل مراسم الحج او بعده وتتداول الوضع الاقتصادي الراهن الذي تعيشه البلاد المسلمة، وتتعاون في وضع حلول ناجعة وقواعد رصينة للحيلولة دون ركود واخفاق الاقتصاد الاسلامي، من خلال التخطيط المناسب للتبادل التجاري الصحيح، وبذلك يستقل الاقتصاد الاسلامي عن عون ومساعدة اقتصاد العدو الاجنبي(36).
وهنا وعلى ضوء هذه الترتيبات وهذه المعاملات والمبادلات التجارية التي تعتبر احدى وسائل دعم المجتمع المسلم امام اعداء الاسلام؛ وذلك لأننا نعلم ان أي شعب لايبلغ الاستقلال الكامل من دون القوة والتخطيط الاقتصادي المتقن، ولكن علينا التذكير هنا ان كل الفعاليات الاقتصادية التي اشرنا اليها والتي تستمد قوتها وحضورها من اجتماع المسلمين في الحج العظيم لابد أن تكون ذات بعد عبادي واخلاقي تفرضه القيم والمبادئ العظيمة لمناسك الحج، لا أن تكون حاكمة او مقدمة عليها، ولحسن الحظ فان لدى حجاج بيت الله الحرام وقتا كافيا للقيام بمثل هذه الندوات وعقد تلك الاجتماعات التي يتبادلون فيها واقعهم الاقتصادي(37).
ولذا علينا الاعتراف أن اخطر ما يواجه المسلمين اليوم هو التبعية الاقتصادية للاجنبي وازماتها المتفاقمة، فلا مانع أن يكون الى جانب طقوس الحج ومراسمه العظيمة، ندوة كبيرة واجتماع سنوي واسع لخبراء الاقتصاد المسلمين يقصد منه العبادة والتقرب إلى الله وحده، عبر انقاذ المسلمين من ربقة الفقر والتبعية الاقتصادية للاجنبي، حيث تتناول فيها المشاكل الاقتصادية في العالم الاسلامي، وتطرح فيها الاسس والقواعد الرامية للتخلص من تلك العقد والمشاكل. إن هذا الموضوع ليس موضوعا شخصيا قصد منه أمراً دنيوياً بسيطاً، بل الهدف منه دعم وتقوية العالم الاسلامي وغايته انقاد المجتمع المسلم من العوز والفقر، وبالتالي فهو تعزيز لدور المسلمين وعظمتهم(38).
الابعاد الاجتماعية لفريضة الحج
1 ـ فريضة الحج: تأكيد الاسلام النبوي ورفض الاسلام العلماني
إن من جملة آثار وبركات فريضة الحج هو تعزيز الاواصر الاجتماعية من خلال المناسك الفريدة لهذه الشعيرة النابعة من القيم الاسلامية التي يشترك في الانقياد اليها طوائف واسعة من العالم المسلم، من هنا قال سماحة المرجع مكارم الشيرزاي(مد ظله) في شرح هذه النقطة ما يلي: إٍن العبادات في الدين الاسلامي الحنيف كالحج مثلا تحتوي على اسرار تعود بالنفع مباشرة على الممارس لتلك العبادة او على المجتمع الذي يعيش فيه(39). ولكن من اكثر تلك العبادات التي تتضمن جانبا وبعدا اجتماعيا كبيرا هي فريضة الحج(40).
ولا شك أن الاسلام هو دين اجتماعي ومن هنا فان المجتمع يعد الاصل والافراد هم الفرع حيث عليهم أن يذوبوا وينصهروا في ذلك المجمتع. وعليه فان من يعتقد ان الصلاة في البيت لو كانت تتصف بحضور القلب والخشوع بشكل اكثر منها في المسجد يكون ادائها في البيت افضل، وبذريعة ذلك يمتنع المصلي عن الحضور في المسجد فهو واهم، من هنا نجد اكثر ضمائر الصلاة جاءت في القران الكريم بهيئة الجمع لا المفرد، مثال ذلك: «ايّاكَ نَعْبُدُ» «وَايَّاكَ نَسْتَعينُ»«وَاهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقيمِ» ونحو ذلك من الامثلة(41).
2 ـ فرضية الحج: تصالح لقلوب المجتمعات الاسلامية المختلفة وتعانقها
يقول سماحته في أهمية مناسك الحج وطقوسه في تصالح المسلمين وتماسكهم ودورها في الحد من وقوع بعض المشاكل ومواجهة بعض التحديات وحل بعض النزاعات بين بعض المجتمعات والبلدان المسلمة، ما يلي: إن القضايا الاجتماعية على ضوء ما يراه الاسلام من الاهمية بمكان بحيث أن كل امر يكون مفيدا ونافعا في وحدة المسلمين ويساعد على التصالح بينهم يكون أمراً مطلوبا ومرغوبا فيه، وكل أمر يكون سبباً في الشقاق والخصام بين المسلمين يكون منهيا عنه، من هنا اعتبر الاتحاد والتوافق واصلاح ذات البين على قدر عال من الاهمية حتى صار مرادفا للجهاد في الصف الامامي من ساحة المعركة(42).
وعلى ضوء هذه البيانات والتفاسير فان أساس وأصل التعليمات الاسلامية هي الاجتماع والمشاركة، اي أن الاسلام يعد المجتمع اصلا وركيزة اساسية تقوم بالافراد الذين يتربون في احضان ذلك المجتمع، من هنا نشاهد الطقوس والعبادات في الاسلام تكون بشكل جمعي تشاركي وليس بشكل فردي انزوائي، وكلما وهنت وضعفت الجماعة كانت مبغوضة.
إن الافتراء والوشاية والغيبة ونحوها تشضي اواصر المجتمع، في حين أن اصلاح ذات البين والتعاون والتنسيق المستمر بين افراد المجتمع وقضاء حوائج الناس هي امور مرغوبة ومحبوبة؛ لانها تؤدي لتقوية وتدعيم تلك الاوصر وتنمّيها
كلمة أخيرة
في الختام يجب القول الى جانب الالتفات والعناية بجسم العبادة يجب ايضا الاهتمام بروحها؛ وذلك لأن الذين يعتنون بجسم العبادة وشكلها ولا يبالون بروح ومحتوى تلك العبادة، مخطئون، والذين يصنعون العكس مخطئون ايضا، إن صورة الحج وشكله الظاهري هو الاحرام والوقوف بعرفات والمشعر الحرام ومزاولة اعمال منى والطواف والسعي والحلق والتقصير ونحوها، واما روح الحج وعمقه فهو يتجلى بعد عودة الحاج من مكة، عندما يصبح الانسان كأنما ولدا توّاً، وليس أن يعود بأموال او ثروة كبيرة او أن يجلب بعض البضائع المصنوعة في الصين او امريكا او اسرائيل، أجل ان روح الحج تكمن في التحول الكبير الذي تخلقه طقوس الحج ومناخاته واروقته، انها رحله فيما تركه رسول الله(صلى الله عليه وآله) من مواقف خالدة وربوع طيبة، انها رجوع الى التاريخ الحي للاسلام في مكة والمدينة انها طواف روحاني في قلب الحاضرة الاسلامية، واستذكار لرجالها في زمن نبي الاسلام ابّان قيادته لتك الدولة العظيمة، ومن خلال العين يمكن للقلب ان يشاهد كيف ان النبي(صلى الله عليه وآله) ومعه خديجة والامام علي عليهما السلام وقفوا في مواجهة كفر اعداء الاسلام وطغيانهم، إنها استذكار حي لوقوف النبي الكريم بين يدي الحق تعالى للصلاة حيث كان طامعا في رضاه وليس شيئا سواه(44).
وعليه وحتى تقتطف ثمرة الحج الحقيقية ونعيش روح وعقل فريضة الحج العظيمة لاسيما الابعاد الاخلاقية لها لابد من الحذر من الكابوس المسمى بالهدايا او الصوغات حتى من تلك الرحاب الشريفة؛ لان بعض الحجاج لا ينفك مشغولا بذلك الامر ويضيّع وقته منشغلا بالبحث والتقصي عن بعض البضائع متجولا بين الاسواق والدكاكين بغية الشراء وجمع الهدايا، وبعض الناس يستنزف وقته للاسف في البحث عن بعض السلع المتوفرة بكثرة في بلده ومدينته، لابد من معالجة هذا الثقافة الخاطئة والتدبر في ايجاد البدائل لها، حتى لا يبلغ هذا المرض درجة الاستفحال على فلسفة الحج الاخلاقية او يقلل من حضورها في ارواح الحجيج(45).
لا يوجد تعليق