يجب النظر إلى واقعة "المباهلة" على أنها من معاجز النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله) وقد وقعت تصديا لانحرافات وادعاءات نصارى نجران، وهي دليل واضح لا غنى عنه في إثبات أحقية الديانة الإسلامية التامة ورسالة النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله) وتقدمها على سائر الأديان السماوية، إن هذه المعجزة العميقة يمكنها أن تكون في مجال إثبات أحقية الإسلام وتقدمه على سائر الأديان التوحيدية دليلا يجمع حوله كل علماء الأديان الإلهية، فيستفاد منها باعتبارها من أدلة تقدم وأفضلية الدين الإسلامي كدين يتصف بالكمال أمام سائر الأديان التوحيدية، ومن هنا فإن هذا البحث يدور حول حقيقة هذه الواقعة العظيمة وخاصة في مجال بيان حقائقها والنقاط والتعاليم الاستثنائية التي تشتمل عليها، وبيان حقائق آية المباهلة على ضوء أفكار المفسر الكبير سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي لأتباع مدرسة أهل البيت(عليهم السلام) مما يساهم أكثر بمعرفة ماهية وحقيقة واقعة المباهلة.
واقعة المباهلة في رؤية سماحته
يقول سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي(مد ظله) في بيان حقيقة واقعة المباهلة: وفقا لما ورد في التاريخ، أرسل نصارى نجران أرسلوا وفدا متكونا من ستين شخصا إلى المدينة المنورة للحوار مع النبي صلى الله عليه وآله. ومن جملة المسائل التي طُرحت في هذا الحوار هي أنهم سألوا نبي الإسلام صلى الله عليه وآله عن الأشياء التي يدعوهم إليها، فقال لهم النبي صلى الله عليه وآله أنا أدعوكم لعبادة الله الواحد الأحد، والإيمان بأن المسيح عبد من عباده، وكان بشرا، فلم يقبلوا هذا الكلام، وأشاروا إلى ولادة عيسى(عليه السلام) مستدلين بولادته من غير أب على ألوهيته، فنزلت آيات[1] ترد على ادعائهم هذا، وبما أنهم لم يقبلوا الجواب دعتهم إلى المباهلة[2].
ولهذا عرض النبي صلى الله عليه وآله مسألة المباهلة وكيفيتها على نصارى نجران، وحدد يوما للمباهلة، فقال الأسف الأعظم للمسيحيين – وهو أعلى سلطة دينية مسيحية – لمن معه:
"استعدوا للمباهلة، وأتوا في اليوم المحدد، فإذا جاء نبي الإسلام في يوم المباهلة مع أصحابه، والشخصيات الإسلامية المعروفة فسوف نباهله، وإذا جاء مع أهل بيته فلا نباهله؛ لأنه في الحالة الأولى يثبت عدم صدق ادعاءه النبوة، وسوف يُغلب، ولكن في الحالة الثانية يتضح أن لديه ارتباط بالله وقد حضر إلى المباهلة متوكلا عليه"[3].
وعلى أي حال فقد جاء اليوم الموعود، وشاهد النصارى نبي الإسلام الأكرم صلى الله عليه وآله وقد أخذ بيد الحسن والحسين ومعه علي وفاطمة عليهم السلام.
وحينما رأى الأسقف الأعظم هذا المشهد قال: "إني لأرى وجوها لو سألوا الله أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله فلا تبتهلوا فتهلكوا و لا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة"[4]، وأمرهم القس بالامتناع عن المباهلة ومصالحة المسلمين والعيش بينهم كأقلية مسالمة ويدفعون الضريبة مقابل ذلك"[5]، فوافق النبي صلى الله عليه وآله على طلبهم، وغض النظر عن المباهلة. وقد أوردنا المباهلة مختصرا، والقصة مذكورة بشكل مفصل في جميع كتب التاريخ الإسلامية[6].
ماهية مفهوم المباهلة
حينما يتصدى سماحة آية الله العظمى مكارم الشيرازي للبيان اللغوي والاصطلاحي لمصطلح المباهلة يقول: «مُباهَلة» في الأصل من مادة «بَهْل»(على وزن أهل) بمعنى اطلاق وفك القيد عن الشيء وبذلك يقال للحيوان الطلق حيث لا توضع محالبها في كيس كي يستطيع وليدها أن يرضع بسهولة يقال له: «باهل»، و «ابتهال» في الدعاء بمعنى التضرع وتفويض الأمر إلى الله، واذا فسّروها بمعنى الهلاك واللعن والبعد عن الله كذلك بسبب ترك العبد طلقاً وحراً في كلّ شيء تترتب عليه هذه النتائج، هذا معنى «المباهلة» لغةً. وفي المصطلح الديني فإن المباهلة فإن المباهلة تعني أن يتنازع فريقان في أمر ديني، ويلعن كل منهما الآخر، وكل من يؤثر لعنه في الآخر فهو على حق[7]. وعليه فإن كل شخصين إذا اختلفا ولم يستطع أيا منهما إقناع الأخر بالاستدلال العقلي والبراهين الواضحة، فحينئذ يقوم كل منهما بلعن الآخر قائلا: "إذا كان الحق معي، وما تدعيه أنت يخالف الحق فلعنة الله وعذابه عليك"، ويكرر الآخر نفس هذا الكلام. ويتوسلان إلى الله ويدعوانه أن يفضح الكاذب ويعاقبه؛ وهو ما فعله النبي صلى الله عليه وآله مع نصارى نجران[8]. ويسمى هذا العمل مع الشروط الخاصة به "المباهلة"[9].
والعلاقة بين معنى "المباهلة" لغةً واصطلاحا واضحة؛ حيث أنه في المباهلة الشخص الذي يدّعي قول الحق يترك الطرف الآخر ويوكل أمره إلى الله[10].
أهمية واقعة المباهلة
حقانية نبي الإسلام في ادعاء الرسالة
يتحدث المرجع الشيعي الكبير في مقام بيان حقيقة أهمية واقعة المباهلة ودورها في إثبات حقانية رسالة النبي صلى الله عليه وآله قائلا: أول شيء يلاحظ في آية المباهلة[11] هو أن مسألة المباهلة يمكن اعتبارها علامة واضحة على حقانية وصدق نبي الإسلام صلى الله عليه وآله في ادعاءه الرسالة؛ لأنه لا يمكن لشخص ليس واثقا من علاقته مع الله ويجرؤ على الولوج في هذا المضمار. يعني أن يقوم بدعوة من يخالف دعوته إلى الاحتكام إلى الله والطلب منه أن يفضح الكاذب[12]، ويدعي أمامهم قائلا إن لعنتي في حق الخصم ستكون مؤثرة وسوف ترون نتائجها![13].
ولا ريب الدخول في هذا المجال خطير للغاية؛ لأنه إذا يُستجب للّعن ولم تظهر أي عقوبة للمخالف؛ فسوف يُفتضح أمر المدعّي؛ ولا يوجد إنسان عاقل يُقدِم على مثل هذه المخاطرة دون أن يكون واثقا من نتائجها[14].
ولهذا الدليل ورد في الأحاديث والروايات الإسلامية أنه لما: جاء النّبي(صلى الله عليه وآله) آخذاً بيدي علي بن أبي طالب والحسن والحسين عليهم السلام بين يديه يمشيان وفاطمة(عليها السلام) تمشي خلفه، وخرج النصارى يتقدمهم أسقفهم. فلمّا رأى النّبي(صلى الله عليه وآله) قد أقبل بمِن معه فسأل عنهم فقيل له: هذا ابن عمّه وزوج ابنته وأحب الخلق إليه، وهذان ابنا بنته من علي وهذه الجارية بنته فاطمة أعزّ الناس عليه وأقربهم إلى قلبه، وتقدّم رسول الله(صلى الله عليه وآله) فجثا على ركبتيه. قال أبو حارثة الأسقف جثا والله كما جثا الأنبياء للمباهلة. فرجع ولم يقدم على المباهلة، فقال السيد: اُدن يا أبا حارثة للمباهلة! فقال: لا. إنّي لأرى رجلاً جريئاً على المباهلة وأنا أخاف أن يكون صادقاً ولئن كان صادقاً لم يحل والله علينا حول وفي الدنيا نصراني يطعم الماء. فقال الأسقف: يا أبا القاسم! إنا لا نباهلك ولكن نصالحك فصالحنا على ما ينهض به[15].
تأمل قرآني في واقعة المباهلة
قال سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ[16].
المباهلة نفيٌ لألوهية المسيح
سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي حينما يصل إلى تفسير الآية 61 من سورة آل عمران يشير إلى شيوع الانحرافات الفكرية والاعتقادية في المسيحية ويقول في بيانه للسبب الذي يقف وراء واقعة المباهلة:
الآية المتقدمة حينما نلاحظها مع الآيات السابقة عليها واللاحقة لها توضح أنه بعد إصرار النصارى في ذلك الوقت على عقائدهم الباطلة ومنها الاعتقاد بإلوهية السيد المسيح عليه السلام، وعدم نفع المنطق والاستدلال معهم، صدر الأمر إلى النبي صلى الله عليه وآله بسلوك طريق المباهلة، ليثبت صدق دعواه عن هذا الطريق الغيبي؛ يعني تباهل معهم لينكشف من هو الصادق من هو الكاذب![17].
يتصدى المفسر الكبير صاحب التفسير الأمثل في تفسيره لآية المباهلة إلى بيان العوامل الوجودية المؤدية إلى القيام بالمباهلة قائلا: «فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ» - يا رسولنا! إذا حاول أي واحد من النصارى والمسيحيين بعد كل هذه البحوث والحوارات المرتبطة بعيسى بن مريم عليهما السلام، والاستدلالات المتقنة والقوية حول مختلف شؤونه عليه السلام، إذا استمر بعضهم بالمجادلة واللجاج بسبب الحجاب والغشاوة المانعة لهم من الوصول إلى الحق والحقيقة، فهناك طريق آخر عليك أن تختاره في سبيل الاستمرار في دعوتهم إلى الحق، وهو المباهلة معهم[18]. «فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ»، وهذا المقطع من الآية يحدد الأشخاص الذين يجب دعوتهم للمشاركة في مراسم المباهلة.
قل لهم يا نبينا أنه سيشارك في المباهلة من واحدة من الجهتين أربع مجاميع:
1 – رئيس المسلمين، يعني النبي صلى الله عليه وآله ورئيس نصارى نجران.
2 – أبنائنا وأبنائكم.
3 – نسائنا ونسائكم.
4 – أنفسنا وأنفسكم.
«ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ»- ثم تجرى المباهلة من الطرفين المشاركين فيها بالنحو التالي: أن أي طرف يكذب في ما يدعيه، فإن لعنة الله ستصيبه، لكي تتضح بذلك الحقيقة للناس[19].
من هم "أبناءنا" و"نساءنا" و"أنفسنا"؟
يوضح المرجع الشيعي الكبير في تفسيره لآية المباهلة من هم المقصودون في قوله تعالى "أبنائنا"، و"نسائنا"، وأنفسنا" قائلا:
المقصود من كلمة "أبنائنا" في الآية الشريفة هما الحسن والحسين(عليهما السلام)، والمقصود من كلمة "نسائنا" وهي جمعٌ فاطمة الزهراء(سلام الله عليها)، والمقصود من "أنفسنا" والتي هي جمعٌ أيضا، علي بن أبي طالب عليه السلام[20].
وعليه فإنه في هذه الآية الشريفة استعملت صيغ الجمع وهي "نسائنا"، و"أنفسنا" في المرفد أي في "فاطمة" و"علي"[21].
ويقول سماحته في سياق نفس هذا الكلام، الظاهر أنه لا خلاف بيننا وبين إخواننا أبناء السنة في أن المقصود من "نسائنا" هي البنت الوحيدة للنبي الأكرم صلى الله عليه وآله فقط يعني فاطمة الزهراء سلام الله عليها، كما أن علماء الشيعة والسنة فسروا بالاتفاق "أبنائنا" في الحسن والحسين عليهما السلام، ولا خلاف في أن الإمام الحسن والإمام الحسين عليهما السلام مشمولان للفظ أبنائنا[22]. وعليه فإن المحور الأصلي والمركزي للبحث يجب أن ينصب على تفسير "أنفسنا"[23].
ويقول سماحته في بيان انطباق كلمة "أنفسنا" على الإمام علي(عليه السلام):
نقل المرحوم القاضي نور الله التستري في كتابه القيّم "إحقاق الحق" ما يلي: "أجمع المفسرون على أن... "أنفسنا" إشارة إلى عليٍّ عليه السلام"[24].
وكذلك أية الله العظمى المرعشي النجفي(رحمه الله) ينقل نفس الأمر عن ما يقارب ستين كتابا(من كتب أهل السنة)[25]. وهذا الكلام يدل على أن الأمر واضح جدا بحيث نقله جميع كتب أهل السنة.
ومن هنا فإن آية المباهلة جعلت الإمام علي عليه السلام بمنزلة نفس وروح رسول الله صلى الله عليه وآله، وفاطمة الزهراء و[26]أبنيها الحسن والحسين عليهم السلام أقرب الناس إلى النبي وإلى الله، بحيث يكون دعاؤهم مستجابا ولا يُرد[27]، [28].
ردّ سماحته على ادعاء الآلوسي
بعد أن يشرح سماحة أية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي طبيعة مصطلح "أبنائنا" و"أبنائهم" و"أنفسنا"، ينتقد كلام الآلوسي الذي يسعى إلى تطبيق لفظ "أنفسنا" على شخص النبي(صلى الله عليه وآله)؛ فالآلوسي بعد أن يعترف في تفسيره "روح المعاني" أن لم يرافق النبي صلى الله عليه وآله في المباهلة سوى علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، وتأكيده على أنه لا ينبغي لمؤمن أن يشك في هذه الحقيقة، يتعرض لبيان استدلال علماء الشيعة، ثم يرد عليهم قائلا: "فبأنا لا نسلم أن المراد بأنفسنا الأمير بل المراد نفسه الشريفة صلى الله عليه وسلم، ويجعل الأمير داخلاً في الأبناء، وفي العرف يعد الختن ابناً من غير ريبة!"[29].
وجواب هذا الكلام واضح جدا؛ لأنه طبقا للآية الشريفة فإن النبي قد دعا كلام من "أبنائنا" و"أنفسنا" و"نسائنا". فإذا كان المقصود من "أنفسنا" نفس النبي صلى الله عليه وآله، فهل هناك معنى لأن يدعو نفسه؟ ومع ملاحظة أن القرآن الكريم أبلغ الكلام، فإن مثل هذا الكلام غير البليغ لا يصدر منه، ولا يأمر النبي بأن يدعو نفسه. إذا قطعا المقصود من "أنفسنا" ليس نفس النبي صلى الله عليه وآله. مضافا إلى أنه لم نلاحظ في كلام العرب إطلاق الابن على الصهر، ومثل هذا الاستعمال غير مألوف ويعتبر من المجاز[30].
نسبة الكذب إلى النبي(صلى الله عليه وآله) تستوجب لعن الله
لاشك أن واقعة المباهلة يمكن أن تكشف النقاب عن بعضا من أهم نتائج الكذب على النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله) وقد ورد في كلام سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي أن إحدى تلك نتائج هذه الصفة الرذيلة والشائبة الأخلاقية والاعتقادية هي نزول لعنة الله على الكاذبين، ويتحدث سماحته في جانب من كلامه قائلا: في آية المباهلة يتم الحديث عن قسم آخر من الكذب، وهو الكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله، ولعنة الله هي نتيجة الكاذبين؛ حيث قال الله سبحانه في ذيل آية المباهلة: فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ[31].
واقعة المباهلة؛ حقيقة الإيمان الراسخ في ذات النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله)
لقد تجلى الإيمان الراسخ في ذات الرسول الأكرم(ص) بوضوح في واقعة المباهلة؛ لذا نرى سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي في تفسيره لهذه العنصر الهام يتحدث قائلا: لعلّ قضية المباهلة بهذا الشكل لم تكن معروفة عند العرب، بل كانت أُسلوباً يبيّن صدق النبيّ وإيمانه بشكل قاطع[32]. لذا فإن واقعة تكشف إلى أي مدى كان النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله) مؤمنا برسالته[33]. إذ كيف يمكن لمن لا يؤمن كلّ الإيمان بعلاقته بالله أن يدخل هذا الميدان، فيطلب من معارضيه أن يتقدّموا معه إلى الله يدعونه أن ينزل لعناته على الكاذب[34].
خاصة إن دراسة سيرة نبي الإسلام تكشف أنه لم يكن من المغامرين، بل كانت كل خطواته مدروسة، وعليه فإن مثل هذا الادعاء من هكذا شخص يكون كاشفا عن أنه يعتمد على عالم ما وراء الطبيعة، ومسدد بالوحي والعلم الإلهي اللامتناهي[35].
وعليه فإن قصة المباهلة يمكن اعتبارها دليلا آخر على إيمان النبي الراسخ بدينه ودعوته لأن النبي صلى الله عليه وآله قال لخصومه إذا كنتم صادقين تعالوا إلى مباهلتي، وكل فريق منّا يطلب من الله أن يُنزل عليه العذاب ويفضح أمره إذا لم يكن صادقا، وهذا يكشف استعداده الكامل في هذا الطريق، وطبيعي أن مخالفيه وخصومه تراجعوا؛ لأنهم لم يكن لديهم عقيدة وإيمان بدينهم وما يدعونه[36].
إثبات الولاية على ضوء واقعة المباهلة
يتمسك سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي بآية المباهلة في بيان أهمية ولاية الإمام علي عليه السلام، ويجب على بعض شبهات المشككين قائلا: من البديهي أن آية المباهلة هي من الآيات المحكمة والصريحة والتي تدل على دلالة واضحة على ولاية أمير المؤمنين عليه السلام وأبناءه عليهم السلام.
ويستمر سماحته في توضيح إثبات أصل الولاية في واقعة المباهلة قائلا: وهنا ربما يُطرح هذه السؤال وهو: صحيح إن آية المباهلة تعد فضيلة ومنقبة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام؛ ولكن ما هي علاقتها بمسألة ولايته وخلافته، بحيث يتم بحثها هنا كواحدة من آيات الولاية والخلافة[37]؟
ويجيب سماحته عن هذه الشبهة قائلا: يقينا المقصود من "أنفسنا" في آية المباهلة هو الإمام علي عليه السلام. وحينما يخاطبه النبي صلى الله عليه وآله بـ"نفسي" فهل المراد منه المعنى الحقيقي، او التنزيل المقامي؟
لاشك أن المعنى الحقيقي ليس مقصودا؛ يعني "علي" ليس النبي! بل المقصود هو أن عليا عليه السلام مثل النبي صلى الله عليه وآله في الفضائل والكمال وسائر الصفات. والنتيجة هي أن عليا عليه السلام في المنازل والكمال منزّل منزلة النبي صلى الله عليه وآله، ويتلوه ويأتي بعده[38].
وبملاحظة هذا الأمر إذا تقرر تنصيب خليفة النبي صلى الله عليه وآله من قبل الله سبحانه، أو أرادت الأمة اختيار شخص لهذا المنصب، ألا يجب أن يكون هذا الشخص من قبيل النبي، أو على الأقل يأتي بعده مباشرة؟
ألا يجب أن يكون الشخص الذي يختاره الناس، أو الذي ينصبه الله في مسألة الفضائل والكمال وخاصة التقوى والعصمة مثل نبي الإسلام صلى الله عليه وآله؟
ومع وجود مثل هذا ألا يكون اختيار شخص غيره أمرا قبيحا عند العقل؟
وعليه فإن انطباق كلمة "أنفسنا" على شخص "الإمام علي عليه السلام" يمكن أن يكون جسرا يوصل إلى الولاية والإمامة، فتثبت الولاية عن هذا الطريق[39].
واقعة المباهلة؛ تبلورٌ لمقام ومنزلة أهل البيت(عليهم السلام) السامية
يستند سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي إلى الآية 61 من سورة آل عمران لإثبات أن أهم النتائج المستخلصة من واقعة الغدير هي إثبات مكانة ومنزلة أهل البيت(عليهم السلام) السامية حيث يقول: آية المباهلة تعتبر دليلا واضحا على مكانة ومنزلة أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله، وهم علي عليه السلام، وفاطمة عليها السلام، والحسنان عليهما السلام؛ لأنه ورد في الآية: "أنفسنا"، و"نسائنا"، و"أبنائنا"، ولا ريب أن المقصود من "أنبائنا" الإمام الحسن، والإمام الحسين ولا خلاف في هذا الأمر أبدا، و"نسائنا" لا ينطبق إلا على فاطمة الزهراء عليها السلام؛ وأما "أنفسنا" فيقينا ليس هو إشارة إلى النبي صلى الله عليه وآله[40].
لأن الآية تقول: نَدْعُ... وأنفسنا، وإذا كان المقصود النبي صلى الله عليه وآله، فلا معنى لدعوة الإنسان نفسه؛ وعليه لا سبيل إلا أن نقول إن علي عليه السلام فقط هو المقصود من "أنفسنا"[41].
نزول آية المباهلة في شأن أهل البيت(عليهم السلام) في كلام أهل السنة
يشير سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي إلى إجماع علماء أهل السنة البارزين القطعي في موضوع نزول آية "المباهلة" في أهل بيت النبي عليهم السلام – مضافا إلى المصادر الشيعية الكثيرة - حيث يقول: وردت روايات كثيرة في المصادر المعروفة والمعتبرة لأهل السنة وكذلك في مصادر أهل البيت(عليهم السلام) المعتبرة، كلها تصرح بأن: آية المباهلة نزلت في علي عليه السلام، وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام[42].
ومن أكد على نزول آية "المباهلة" في حق أهل بيت النبي عليهم السلام وهم علي وفاطمة وابناهما(عليهم السلام) أكثر من عشرين شخصية من كبار علماء ومفسري أهل السنة الكبار، منهم" الإمام الفخر الرازي في تفسيره المعروف(ج 8، ص 85)، والطبري المفسر السني الكبير(تاريخ الطبري، ج 3، ص 407)، والسيوطي في تفسيره "الدر المنثور"(ج 2، ص 39)، والواحدي في "أسباب النزول"(ص 68)، والبيضاوي في تفسيره الشهير(ج 2، ص 47)....[43]
وكذلك إمام الحنابلة أحمد بن حنبل في "المسند" ج 1، ص 185، ومسلم في "الصحيح"، ج 7، ص 120، والحاكم في كتابه "المستدرك" ج 3، ص 150، وابن حجر العسقلاني في "الإصابة" ج 2، ص 503، وغيرهم[44].
وكنموذج ننقل هنا ما ورد في صحيح مسلم في كتاب فضائل الصحابة، في باب فضائل علي بن أبي طالب عليه السلام: عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ أَمَرَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ سَعْدًا فَقَالَ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسُبَّ أَبَا التُّرَابِ، فَقَالَ أَمَّا مَا ذَكَرْتُ ثَلَاثًا قَالَهُنَّ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَنْ أَسُبَّهُ[45] لَأَنْ تَكُونَ لِي وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَهُ خَلَّفَهُ فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ يَا رَسُولَ اللَّهِ خَلَّفْتَنِي مَعَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلَّا أَنَّهُ لَا نُبُوَّةَ بَعْدِي وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ يَوْمَ خَيْبَرَ لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ رَجُلًا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ قَالَ فَتَطَاوَلْنَا لَهَا فَقَالَ ادْعُوا لِي عَلِيًّا فَأُتِيَ بِهِ أَرْمَدَ فَبَصَقَ فِي عَيْنِهِ وَدَفَعَ الرَّايَةَ إِلَيْهِ فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ { فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ } دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا وَفَاطِمَةَ وَحَسَنًا وَحُسَيْنًا فَقَالَ اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْلِي[46].[47].
وعلى أي حال فإن الروايات المتقدمة وبشهادة جمع من كبار علماء السنة بلغت من الكثرة حتى أنها وصلت إلى حد التواتر[48].
كلمة أخيرة
(المباهلة السلاح الأخير)
يجب الإذعان بأن تعامل الإسلام مع سائر الأديان الإلهية كان مليئا بالمحبة والاحترام. فالقرآن كتاب الوحي في الدين الإسلامي يأمر المسلمين قائلا: "وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ"[49]. لذلك يجب القول بأنه لا ريب بأن الأنبياء الإلهيين يبذلون جهودهم إلى أقصى ما يمكنهم في سبيل هداية المجتمع، ويدعون الناس إلى الله، ويطلبون المغفرة لهم من الله، ومن هنا فإن نبي الإسلام(ص) لم يلعن أبدا[50]، وإنما حصل ذلك فقط في حادثة المباهلة حيث أراد النبي(ص) لعن جمع من النصارى، ولكن ذلك لم يحدث[51]، لذلك نرى القرآن يتحدث عن نبي الله عيسى عليه السلام في الآيات 35 إلى 60 من سورة آل عمران. فيتحدث عن ولادته ومنزلته، وشخصية أمه مريم بنت عمران وفضائلها عليها السلام. وكلامها مع الملائكة، والمائدة السماوية، وقضايا أخرى. وبعد هذا البحث الطويل حول عيسى عليه السلام يأمر الله نبي الإسلام صلى الله عليه وآله بأن هؤلاء النصارى اذا لم يقنعوا بكل هذا الكلام المنطقي والأدلة، ولم يرضوا الإسلام دينا، فعليك أن تختار طريقا آخر للتعامل معهم، وهو المباهلة، ليتضح الحق من الباطل[52].
لا يوجد تعليق