الجواب الاجمالي:
أنّ المقصود من عبارة السّیئات جزاء الأعمال السیئة وعقوبة المعاصی التی ینزلها الله بالعاصین، ولما کانت العقوبة هی نتیجة لأفعال العاصین من العباد لذلک تنسب أحیاناً إلى العباد أنفسهم وأحیاناً اُخرى إلى الله، وکلا النسبتین صحیحتان، إذ یمکن القول فی قضیة قطع ید السارق إنّ القاضی هو الذی قطع ید السارق، کما یجوز أن یقال إنّ السارق هو السبب فی قطع یده لارتکابه السرقة
الجواب التفصيلي:
من خلال قراءة الآیات 78ـ79 من سورة «النساء» التی یقول الله تعالى فیهما: (أَیْنَما تَکُونُوا یُدْرِکْکُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ کُنْتُمْ فی بُرُوج مُشَیَّدَة وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ یَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَیِّئَةٌ یـَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِکَ قُلْ کُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا یَکادُونَ یَفْقَهُونَ حَدیثاً*ما أَصابَکَ مِنْ حَسَنَة فَمِنَ اللّهِ وَما أَصابَکَ مِنْ سَیِّئَة فَمِنْ نَفْسِکَ وَأَرْسَلْناکَ لِلنّاسِ رَسُولاً وَ کَفى بِاللّهِ شَهیداً)
یتبادر إلى الذهن سّؤال مهم وهو: لماذا نسب الخیر والشر فی الآیة الاُولى کلّه لله؟ ولماذا حصرت الآیة التالیة الخیر ـ وحده ـ لله، ونسبت الشرّ إلى الإنسان؟
والجواب: حین نمعن النظر فی الآیتین تواجهنا عدّة اُمور، یمکن لکل منها أن یکون هو الجواب على هذا السؤال.
1ـ لو أجرینا تحلیلا على عناصر تکوین الشر لرأینا أنّ لها اتجاهین: أحدهما إیجابی والآخر سلبی، والإتجاه الأخیر هو الذی یجسد شکل الشر أو السیئة ویبرزه على صورة «خسارة نسبیة» فالإنسان الذی یقدم على قتل نظیره بسلاح ناری أو سلاح بارد یکون قد ارتکب بالطبع عملا شریراً وسیئاً، فما هی إذن عوامل حدوث هذا العمل الشریر؟
إنّها تتکون من: قدرة الإنسان وعقله، وقدرة السلاح، والقدرة على الرمی اصابة الهدف، واختیار المکان والزمان المناسبین، وهذه تشکل عناصر الإتجاه الإیجابی للقضیة، لأنّ کل عنصر منها یستطیع فی حدّ ذاته أن یستخدم کعامل لفعل حسن إذا استغل الاستغلال الحکیم، أمّا الإتجاه السلبی فهو فی استغلال کل من هذه العناصر فی غیر محله، فبدلا من أن یستخدم السلاح لدرء خطر حیوان مفترس أو للتصدی لقاتل ومجرم خطیر، یُستخدم فی قتل إنسان بریء، فیجسد بذلک فعل الشر، وإلاّ فإنّ قدرة الإنسان وعقله وقدرته على الرمی والتهدیف، وأصل السلاح وکل هذه العناصر، یمکن أن یستفاد منها فی مجال الخیر.
وحین تنسب الآیة الاُولى الخیر والشرّ کلّه لله، فإن ذلک معناه أنّ مصادر القوّة جمیعها بید الله العلیم القدیر حتى تلک القوّة التی یساء استخدامها، ومن هذا المنطلق تنسب الخیر والشرّ لله، لأنّه هو واهب القوى.
والآیة الثّانیة: تنسب «السیئات» إلى الناس إنطلاقاً من مفهوم «الجوانب السلبیة» للقضیة ومن الإساءة فی استخدام المواهب الإلهیة.
تماماً مثل والد وهب ابنه مالا لیبنی به داراً جدیدة، لکن هذا الولد بدلا من أن یستخدم هذا المال فی بناء البیت المطلوب، اشترى مخدرات ضارة أو صرفه فی مجالات الفساد والفحشاء، لا شک أنّ الوالد هو مصدر هذا المال، لکن أحداً لا ینسب تصرف الإبن لوالده، لأنه أعطاه للولد لغرض خیری حسن، لکن الولد أساء استغلال المال، فهو فاعل الشرّ، ولیس لوالده دخل فی فعلته هذه.
2ـ ویمکن القول ـ أیضاً ـ بأنّ الآیة الکریمة إنّما تشیر إلى موضوع «الأمر بین الأمرین».
وهذه قضیة بحثت فی مسألة الجبر والتفویض، وخلاصة القول فیها أنّ جمیع وقائع العالم خیراً کانت أم شرّاً ـ هی من جانب واحد تتصل بالله سبحانه القدیر لأنّه هو الذی وهب الإنسان القدرة والقوّة وحریة الإنتخاب والاختیار، وعلى هذا الأساس فإنّ کل ما یختاره الإنسان ویفعله بإرادته وحریته لا یخرج عن إرادة الله، لکن هذا الفعل ینسب للإنسان لأنّه صادر عن وجوده، وإرادته هی التی تحدد اتجاه الفعل.
ومن هنا فإنّنا مسؤولون عن أعمالنا، واستناد أعمالنا إلى الله ـ بالشکل الذی أوضحناه ـ لا یسلب عنّا المسؤولیة ولا یؤدّی إلى الاعتقاد بالجبر.
وعلى هذا الأساس حین تنسب «الحسنات» و«السیئات» إلى الله سبحانه وتعالى، فلفاعلیة الله فی کل شیء، وحین تنسب السیئة إلى الإنسان فلإرادته وحریته فی الاختیار.
وحصیلة هذا البحث إنّ الآیتین معاً تثبتان قضیة الأمر «الأمر بین الأمرین» (تأمل بدقّة)!
3ـ هناک تفسیر ثالث للآیتین ورد فیما أثر عن أهل البیت(علیهم السلام)، وهو أنّ المقصود من عبارة السّیئات جزاء الأعمال السیئة وعقوبة المعاصی التی ینزلها الله بالعاصین، ولما کانت العقوبة هی نتیجة لأفعال العاصین من العباد(1) لذلک تنسب أحیاناً إلى العباد أنفسهم وأحیاناً اُخرى إلى الله، وکلا النسبتین صحیحتان، إذ یمکن القول فی قضیة قطع ید السارق إنّ القاضی هو الذی قطع ید السارق، کما یجوز أن یقال إنّ السارق هو السبب فی قطع یده لارتکابه السرقة(2)
لا يوجد تعليق