الجواب الاجمالي:
إنّ الحاضرین فی غزوة بدر، تنازعوا وتشاجروا فی أمرین، ونزل الوحی فی ذمّهم وقدحهم، و إلیک الأمرین:
الاوّل. تنازعهم فی الغنائم الحربیة، الثانی: تنازعهم فی الأسرى:
ثمّ إنّه یستفاد من الآیات أمران:
الأوّل: انّ الحافز لأکثرهم أو لفئة منهم هو الاستیلاء على عرض الدنیا دون الآخرة
الثانی: لقد بلغ عملهم من الشناعة درجةً، بحیث استحقّوا مسَّ عذابٍ عظیم
الجواب التفصيلي:
یقول المدّعی(1): أنزل الله عزّ وجلّ فی أحداث غزوة بدر سورة الأنفال، وقد تضمنت (سورة الأنفال) لطائف و دلالات على التّنزیه الصّحابة کلّهم وهی کثیرة نقف مع ثلاث آیات منها:
قال الله تعالى: «إِذْ یُغَشِّیکُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَ ینزِّلُ عَلَیْکُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِیُطَهِّرَکُمْ بِهِ وَ یُذْهِبَ عَنْکُمْ رِجْزَ الشَّیْطانِ وَ لیربِطَ عَلى قُلُوبِکُمْ وَ یُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدام»(2)
تأمّل فی الآیة و تدبّر معانیها، فکّر فی معنى التطهیر وإذهاب رجس الشیطان، والآیة التی بعدها شهد الله لهم بالإیمان «فَثَبِّتُوا الَّذِینَ آمَنُوا» لذا قال الرسول- صلَّى الله علیه و اله وسلَّم-: « و لعلّ الله اطّلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لکم»(3)
فالله سبحانه حکم بأنّ المهاجرین و الأنصار بعضهم أولیاء بعض، وقال أیضاً: «والّذینَ آمَنُوا وَهاجَرُوا و جاهَدُوا فِی سَبیلِ الله وَالَّذِینَ آوَوا وَنَصَرُوا أُولئک هُمُ المُؤْمنُون حَقّاً لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ کَریم* وَالّذینَ آمنوا مِنْ بعد وهاجَرُوا وجاهَدُوا مَعَکُمْ فأُولئکَ مِنْکُم وَ أُولُوا الأَرْحامِ بَعْضُهُم أَوْلى بِبَعْضٍ فی کِتابِ الله إِنَّ الله بِکُلِّ شَیءٍ عَلِیم»(4)
الله أکبر، هنیئاً لهم، أی وربّی انّها والله الشهادة عن المولى سبحانه للسابقین الأوّلین من المهاجرین والأنصار بالإیمان لهم مغفرة و رزق کریم، فهل لمؤمن أن یطعن بهم مع هذه الشهادات والتأکیدات؟(5)
المناقشة:
إنّ ما استعرضه المدّعی من الآیات، لا یثبت مدّعاه من تزکیة کلّ من حضر فی غزوة بدر من أوّلهم إلى آخرهم، و ذلک لأنّ القضاء الحاسم فی الموضوع رهن استعراض جمیع الآیات النازلة فی تلک الغزوة، و عند ذلک یخرج الباحث بنتیجة قطعیة.
فنقول: إنّ الحاضرین فی غزوة بدر، تنازعوا و تشاجروا فی أمرین، و نزل الوحی فی ذمّهم و قدحهم، و إلیک الأمرین:
الاوّل. تنازعهم فی الغنائم الحربیة:
إنّ صحابة النبی - صلَّى الله علیه وآله وسلَّم - بعد انتصارهم على المشرکین فی غزوة بدر استولوا على أموال المشرکین و تنازعوا فی أمر الغنائم إلى حد التخاصم، کما یحکیه سبحانه و یقول: « یَسْأَلُونَکَ عَنِ الأَنْفالِ قُلِ الأَنْفالُ للَّهِ وَ الرَّسُولِ فَاتَّقُوا الله وَ أَصْلِحُوا ذاتَ بَیْنِکُمْ وَ أَطِیعُوا الله وَ رَسُولَهُ إِنْ کُنْتُمْ مُؤْمِنین»(6)
إنّ ظاهر الآیة بسیاقها یدلّ على أنّه کان بین هؤلاء المشار إلیهم بقوله: «یسألونک» تخاصم، حیث خاصم بعضهم بعضاً فأخذ کلّ جانباً من القول، لا یرضى به خصمه.
والتفریع الذی فی قوله: «فاتَّقُوا الله وأَصلحوا ذات بَیْنکم» یدلّ على أنّ الخصومة کانت فی أمر الأنفال، و لازم ذلک أن یکون السؤال الواقع منهم إنّما وقع لقطع الخصومة کأنّهم تخاصموا فی أمر الأنفال ثمّ راجعوا رسول الله یسألونه عن حکمها لرفع الخصومة.
والمراد من الأنفال فی هذه الآیة هی غنائم غزوة بدر، أو مطلق الغنائم- لأنّ المورد لا یخصص- فعند ذلک نزل قوله سبحانه: «قُل الأَنفال للَّه و الرَّسُول فاتَّقُوا الله وأَصلحوا ذات بَیْنکم» فالآیة تخطّئهم فیما زعموا أنّهم یملکون الأنفال. و یؤید ذلک الرّوایاتُ الصّحیحة التی رواها أصحابُ الصِّحاح و السّنن فی کتبهم.
أخرج أحمد و عبد بن حمید و ابن جریر و أبو الشیخ و ابن مردویه و الحاکم والبیهقی فی سننه عن أبی أمامة، قال: سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال؟ فقال: فینا أصحاب بدر نزلت حین اختلفنا فی النفل فساءت فیه أخلاقُنا، فانتزعه الله من أیدینا و جعله إلى رسول الله، فقسّمه رسول الله بین المسلمین(7)
وأخرج سعید بن منصور وأحمد وابن المنذر وابن أبی حاتم وابن حبان وأبو الشیخ والحاکم وصححه والبیهقی وابن مردویه عن عبادة بن الصامت، قال: خرجنا مع رسول الله - صلَّى الله علیه وآله وسلَّم- فشهدتُ معه بدراً، فالتقى الناس فهزم الله العدو، فانطلقت طائفة فی آثارهم منهزمون یقتلون، واکبّت طائفة على العسکر یحوزونه و یجمعونه، و أحدقت طائفة برسول الله- صلَّى الله علیه و آله وسلَّم - لا یصیب العدو منه غرة، حتّى إذا کان اللیل، وفاء الناس بعضهم إلى بعض، قال الذین جمعوا الغنائم: نحن حویناها وجمعناها فلیس لأحد فیها نصیب.
وقال الذین خرجوا فی طلب العدو: لستم أحقّ بها منّا، نحن نفینا عنها العدو وهزمناهم.
وقال الذین أحدقوا برسول الله- صلَّى الله علیه وآله وسلَّم-: لستم بأحق بها منّا نحن أحدقنا برسول الله- صلَّى الله علیه وآله و سلَّم - وخفنا أن یصیب العدو منه غرة و اشتغلنا به، فنزل «یسألونک عن الأَنفال قُل الأَنفال للَّه و الرسول فاتَّقُوا الله و أَصلحوا ذات بینکم»(8)
وأُبطل منطق المتنازعین وجُعل الأنفالُ للَّه و للرسول، لا للغزاة، و الرّسولُ یضعها حیث یشاء وفق المصالح العامة الإسلامیة.
و أخرج ابن أبی شیبة فی المصنف و الترمذی و صححه و النسائی و ابن المنذر و ابن أبی حاتم و أبو الشیخ و مردویه و البیهقی فی سننه من طریق أبی صالح عن أبی هریرة قال: لمّا کان یوم بدر تعجل الناس إلى الغنائم فأصابوها قبل أن تحلّ لهم، فقال رسول الله- صلَّى الله علیه وآله و سلَّم- إنّ الغنیمة لا تحل لأحد سود الرؤوس قبلکم(9)
ثمّ إنّه سبحانه یعظ هؤلاء السائلین و یأمرهم بأُمور ثلاثة بقوله: 1. «فاتّقوا الله» 2. «وأصلحوا ذات بینکم» 3. «وأطیعوا الله ورسوله».
ثمّ یذکر سبحانه ما یتمیز به المؤمن عن غیره ویقول: «إِنّما المُؤْمِنُونَ الَّذِینَ إِذا ذُکِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَ إِذا تُلِیَتْ عَلَیْهِمْ آیاتُهُ زادَتْهُمْ إِیماناً وَعَلى رَبِّهِمْ یَتَوَکَّلُون ...»(10)
مشیراً إلى أنّ بعض هؤلاء غیر موصوفین بهذه السمات.
فالإمعان فی الآیات النازلة حول هؤلاء المتنازعین و الروایات الواردة فی تفسیر الآیة، لا تدع مجالًا للشکّ فی أنّ لفیفاً من الحاضرین فی غزوة بدر لم یبلغوا فی التقوى مرتبة عالیة تمیزهم عن غیرهم، بل کانوا کسائر الناس الذین یتنازعون على حطام الدنیا و زبرجها دون أن یستشیروا النبی- صلَّى الله علیه و آله و سلَّم- فی أمرها، و یسألونه عن حکمها، أفهؤلاء الذین کانوا یتنازعون على حطام الدنیا، یصبحون مُثلًا للفضیلة و کرامة النفس و الطهارة؟!!
الثانی: تنازعهم فی الأسرى: یقول سبحانه: «ما کانَ لِنَبِىٍّ أَنْ یَکُونَ لَهُ أَسْرى حَتّى یُثْخِنَ فِی الأَرْضِ تُرِیدُونَ عَرَضَ الدُّنْیا وَ اللهُ یُرِیدُ الآخِرَةَ وَ اللهُ عَزِیزٌ حَکِیم* لَوْلا کِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّکُمْ فِیما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِیم* فَکُلُوا مِمّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَیِّباً وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِیم»(11)
الآیات عتاب من الله سبحانه لأهل بدر حین أخذوا الأسرى من المشرکین قبل الإثخان فی الأرض، ثمّ اقترحوا على رسول الله أن لا یقتلهم و یأخذ منهم الفداء لیصلح به حالهم و یتقوّوا بذلک على أعداء الدین، و قد شدّد سبحانه فی العتاب.
و ظاهر قوله سبحانه: «ما کانَ لنبی أن یکون له أسرى حتّى یُثخن فی الأرض» هو انّ السنّة الجاریة فی الأنبیاء الماضین انّهم کانوا إذا حاربوا أعداءهم و ظفروا بهم، ینکلونهم بالقتل لیعتبر به مَنْ وراءهم حتّى یکفّوا عن عدائهم للَّه و رسوله، و کانوا لا یأخذون أسرى حتى یُثخنوا فی الأرض و یستقر دینهم بین الناس، فعند ذلک لم یکن مانع من الأسر، ثمّ یعقبه المنّ أو الفداء.
یقول سبحانه فی آیة أُخرى: «فَإِذا لَقِیتُمُ الَّذِینَ کَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الوَثَاقَ فَإِمّا مَنّاً بَعْد وَ إِمّا فِداءً»(12)
فأجاز أخذ الأسر، لکن بعد الإثخان فی الأرض و استتباب الأمر.
ثمّ إنّه یستفاد من الآیات الماضیة أمران:
الأوّل: انّ الحافز لأکثرهم أو لفئة منهم هو الاستیلاء على عرض الدنیا دون الآخرة کما یشیر إلیه سبحانه بقوله: « تریدون عرض الدنیا والله یرید الآخرة»(13)
الثانی: لقد بلغ عملهم من الشناعة درجةً، بحیث استحقّوا مسَّ عذابٍ عظیم، غیر أنّه سبحانه دفع عنهم العذاب لما سبق منه فی الکتاب، قال سبحانه: «لولا کتاب مِنَ الله سَبَق لمسّکم فیما أخذتم»- أخذ الأسرى- «عذاب عظیم».
فقوله: «عذاب عظیم» یعرب عن عِظَم المعصیة حتّى استحقُوا العذاب العظیم.
فإذا ضمّت الآیاتُ بعضُها إلى بعض، نخرج بالنتیجة التالیة:
1. انّ أکثر المسلمین فی غزوة بدر تخاصموا فی أمر الغنائم واستولوا علیها بلا استشارة من النبی- صلَّى الله علیه وآله وسلَّم-، وهذا یحکی عن رغبتهم فی الدنیا على نحو یجعلهم من المتوسطین فی الإیمان.
2. تنازعوا فی الأسرى على نحو استحقوا مسّ عذابٍ عظیم لعظم المعصیة.
و لا یمکن لباحث أن یصف قاطبةَ البدریین بهذین الوصفین بل یرجعان إلى فئات منهم.
و من هنا یعلم مدى صحة ما ورد فی الصحیحین من أنّ عمر استأذن النبی- صلَّى الله علیه وآله وسلَّم- بقتل حاطب بن أبی بلتعة فقال له النبی- صلَّى الله علیه وآله وسلَّم-: ألیس من أهل بدر؟ لعل الله اطّلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد وجبت لکم الجنة، أو فقد غفرت لکم.
وفی روایة: و ما یدریک؟ لعلّ الله اطّلع على أهل بدر(14)
فهل یصحّ للنبی- صلَّى الله علیه و آله و سلَّم- أن یعطی الضوء الأخضر لطائفة أرادوا عرض الدنیا بدل الآخرة و استحقّوا مسّ عذاب عظیم، و یقول: اعملوا ما شئتم؟! و ما ذلک إلّا لأنّکم شارکتم فی غزوة من الغزوات إبّان ضعف الإسلام و إن تنازعتم إلى حد صرتم مستحقین لنزول العذاب، و مع ذلک لا عتب علیکم، فاقترفوا المعاصی؟!!
وهل یصحّ هذا التکریم والتقدیر لکلّ من حضر غزوة بدر وفیهم من عرفت؟ و لا منتدح من أن یقال: أنّ شأن البدریّین کشأن غیرهم من البشر، فیهم الصالح و الطالح، و طالب الدنیا و مبتغی الآخرة من دون أن تکون لهم میزة فی الطبیعة و الخلقة، و لا یختلفون عن غیرهم فی الإیمان و الإخلاص(15)
لا يوجد تعليق