الجواب الاجمالي:
الجواب التفصيلي:
أثنى القرآن الکریم على الصابرین فی العهد المکی الثابتین على الإسلام، و تکرر الثناء منه فی العهد المدنی، على المهاجرین والأنصار فقط لما بذلوه من إنفاق و جهاد و هجرة و نصرة و حسن اتّباع و ما لقوه من محن و مصائب، یقول سبحانه:
1. «لَقَدْ تابَ الله عَلى النّبیِّ و المُهاجِرینَ و الأَنصار الّذینَ اتّبعُوهُ فِی ساعَة العُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما کادَ یَزِیغُ قُلُوبُ فَریقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَیْهِمْ انّهُ بِهِم رَؤوفٌ رَحیم»(1)
ترى أنّ الآیة تُثنی على فریق خاص من الصحابة و هم المهاجرون و الأنصار، و قد نزلت فی شأن غزوة تبوک التی کانت فی السنّة التاسعة من الهجرة، و کان عدد جیش المسلمین قرابة ثلاثین ألفاً، و مع ذلک أثنى على فریق خاص لا على الأعراب و لا على الطلقاء و لا على الطوائف الأُخرى الذین أسلموا بعد بیعة الرضوان أو بعد فتح مکة.
و الآیة لا تهدف إلى تعدیلهم و توثیقهم، بل تدلّ على رجوع الله إلیهم بالمغفرة(2) لأجل «ما کادَ یزیغ قلوب فریق منهم»، فطهّر قلوبهم منه، و أین ذلک من صیرورتهم عدولًا إلى آخر حیاتهم؟!
2. «والسّابِقُونَ الأوّلُونَ من المُهاجِرینَ و الأَنصارِ والّذینَ اتَّبعُوهُمْ بإِحسانٍ رَضِیَ الله عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ و أَعدَّ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْری تَحتَها الأَنهارُ خالِدِینَ فیها أَبداً ذلِکَ الْفَوزُ العَظیم»(3)
فقد أثنى سبحانه فی هذه الآیة على طوائف ثلاث:
الأُولى: السابقون الأوّلون من المهاجرین، و هم الذین هاجروا أیّام هجرة النبیّ أو بعدها بقلیل، و بما انّ لفظة «من» من المهاجرین للتبعیض فهو یخرج المتأخرین من المهاجرین.
وعلى کلّ تقدیر فالآیة تثنی على السابقین من المهاجرین لا على عامة المهاجرین.
الثانیة: السابقون من الأنصار و هم الذین سبقوا فی نصرة النبیّ بالإنفاق و الإیواء، ولا یدخل مطلق الأنصار و لا أبناؤهم و حلفاؤهم و ذلک لأنّ تقدیر الآیة: و السابقون الأوّلون من الأنصار.
فالآیة تثنی على السابقین الأوّلین من الأنصار لا على عامّتهم.
وقد اختلفت کلمة المفسّرین فی تطبیق السابقین الأوّلین من المهاجرة والأنصار إلى وجوه لا دلیل علیها.
وبما انّ الموضوع هو السبق فی الهجرة، و السبق فی النصرة فلا ینطبق العنوانان إلّا على الذین أسّسوا أساس الدین، و رفعوا قواعده، قبل أن یشیّد بنیانه، و تهتّز رایاته، و هم على أصناف، منهم من آمن بالنبیّ- صلَّى الله علیه و آله و سلَّم- وصبر على الفتنة و البلاء، و مفارقة الدیار والأموال بالهجرة إلى الحبشة أو إلى المدینة، و منهم من آمن به- صلَّى الله علیه وآله وسلَّم- و نصره و آواه و آوى أصحابه من المهاجرین، و استعدّ للدفاع عن الدین قبل وقوع الوقائع.
وهذا ینطبق على من آمن بالنبی قبل الهجرة ثمّ هاجر قبل وقعة بدر التی منها ابتدأ ظهور الإسلام على الکفر، أو آمن بالنبی و آواه و تهیّأ لنصرته عندما هاجر إلى المدینة.
فالمبدأ هو ظهور أمر النبیّ من الفترة المکیة، و المنتهى هو قبل ظهور الإسلام وغلبته على أقوى مظاهر الشرک فی المنطقة، أعنی: غزوة بدر.
وعلى ضوء ذلک یتبیّن المراد من الصنف الثالث، أعنی:
الثالثة: الذین اتّبعوا السابقین الأوّلین من المهاجرین و الأنصار بإحسان، و هذه الطائفة عبارة عمّن أسلم بعد بدر إلى بیعة الرضوان أو إلى فتح مکة، فلا تشمل الوافدین من العرب فی العام التاسع الذی یطلق علیه عام الوفود.
وأمّا وجه الثناء على التابعین مع أنّهم ربّما لم ینصروا النبی الأکرم فی مغازیه، فلکونهم تضرروا و کابدوا المصاعب بفقد أقربائهم فی المعارک، و ربّما لحقهم بعض الأذى، والمراد من التابعین بإحسان هم الذین صلحت سیرتهم و سلوکهم فصاروا بعیدین عن اقتراف الذنوب و مساوئ الأخلاق.
وقد جاء ذکر الطوائف الثلاث فی سورة الحشر، بلفظ آخر، و المضمون فی السورتین واحد قال سبحانه:
3. «لِلْفُقراءِ المُهاجِرِینَ الَّذِینَ أُخرِجُوا مِنْ دِیارِهِمْ وَ أَموالِهِمْ یَبْتَغُونَ فَضلًا مِنَ الله وَ رِضْواناً و َیَنْصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ أُولئِکَ هُمُ الصّادِقُون* وَالّذینَ تَبَوَّءُو الدارَ والإِیمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ یُحبُّونَ مَن هاجَر إِلیهِمْ وَ لا یَجِدُونَ فِی صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمّا أُو توا وَ یُؤثِرُونَ عَلى أَنفُسِهِمْ وَ لَو کانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَ مَنْ یُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِکَ هُمُ المُفْلِحُون* وَالَّذینَ جاءو مِنْ بَعْدِهِمْ یَقُولُونَ رَبَّنا اغْفِرْ لَنا وَ لإِخوانِنا الَّذینَ سَبَقُونا بِالإِیمان وَ لا تَجْعَل فی قُلُوبِنا غِلًا لِلَّذینَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّکَ رَؤوفٌ رَحیم»(4)
فهذه الآیات الثلاث نظیر ما تقدّم من الآیتین لا تثنی على عامّة الصحابة بل على فریق منهم.
أمّا المهاجرون فتثنی على من تمتّع منهم بالصفات التالیة:
أ. «أخرجوا من دیارهم وأموالهم».
ب. «یبتغون فضلًا من الله ورضواناً».
ج. «ینصرون الله ورسوله».
فمن تمتع بهذه الصفات الثلاث من المهاجرین فقد أثنى القرآن علیه، وبما انّ من أبرز صفاتهم، کونهم مشرّدین من دیارهم وأموالهم، فیکون المقصود هم الذین هاجروا قبل وقعة «بدر».
و أمّا الأنصار فإنّما تثنی على من تمتّع منهم بالصفات التالیة:
أ. «تبوءُو الدار والإِیمان مِنْ قَبْلِهِمْ» أیآمنوا بالله و رسوله، فخرج بذلک من اتّهم بالنّفاق و کان فی الواقع منافقاً.
ب. «یُحبُّونَ مَن هاجَر إِلیهِمْ و لا یَجِدُونَ فِی صُدُورِهِمْ حاجة مِمّا أُو توا».
ج. «وَ یُؤثِرُونَ عَلى أَنفُسِهِمْ وَ لَو کانَ بِهِمْ خَصاصَة».
و بما انّ من أبرز صفاتهم، هو إیواء المهاجرین والأنصار و إیثارهم على الأنفس، فیکون المراد من آمنوا بالنبیّ و آووه و آووا المهاجرین، فینطبق على من آمن وآوى قبل غزوة بدر لانتفاء الإیواء بعدها خصوصاً بعد إجلاء «بنی قینقاع» غبَّ معرکة «بدر» حیث خرجوا تارکین قلاعهم و أموالهم و أسلحتهم، فوقعت بأیدی المسلمین.
و أمّا التابعون لهم، أعنی: الذین جاءوا بعدهم فإنّما أثنى على من تمتع منهم بالصفات التالیة:
أ. «یَقُولُونَ رَبَّنا اغْفِرْ لَنا وَ لإِخوانِنا الَّذینَ سَبَقُونا بِالإِیمان».
ب. «و لا تَجْعَل فی قُلُوبِنا غِلًا لِلَّذینَ آمَنُوا».
فالآیات الواردة فی سورة الحشر، تتّحد مضموناً مع ما ورد فی سورة التوبة و لا تختلف قید شعرة.
فالاستدلال بهذه الآیات و ما تقدّمها على أنّ القرآن أثنى على الصحابة جمیعهم من أوّلهم إلى آخرهم- الذین ربّما جاوز عددهم المائة ألف- غفلة عن مفاد الآیات؛ فأین الدعاء والثناء على لفیف من المهاجرین والأنصار و التابعین لهم المتمتّعین بخصوصیات معیّنة، من الثناء على الطلقاء و الأعراب و أبناء الطلقاء و المتّهمین بالنفاق؟!
و أین هذه الآیات من مدح خمسة عشر ألف صحابی سجلت أسماؤهم فی المعاجم أو مائة ألف صحابی صحبوا النبی فی مواقف مختلفة ورأوه وعاشروه؟!
4. «لَقَدْ رَضِیَ الله عَنِ الْمُؤْمِنینَ إِذْ یُبایِعُونَکَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِی قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَل السَّکِینَةَ عَلَیْهِمْ و اثابَهُمْ فَتْحاً قَرِیباً»(5)
فالآیة تثنی على مَن صحب النبی فی الحدیبیة و بایعوه تحت الشجرة، و کان ذلک فی السنّة السادسة من الهجرة، و قد رافقه حوالی ألف و أربعمائة أو ألف و ستمائة أو ألف و ثمانمائة(6)
والثناء على هذا العدد القلیل لا یکون دلیلًا على الثناء على جمیع الصحابة من أوّلهم إلى آخرهم!!
کما أنّ الرضا محدّد بزمان البیعة حیث قال: «إذ یبایعونک» و لا یشمل الفترات المتأخرة عنها.
5. «مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله وَالَّذِینَ مَعَهُ أَشِداءُ عَلى الکُفّارِ رُحَماءُ بَیْنهُمْ تَراهُمْ رُکَّعاً سُجَّداً یَبْتَغُونَ فَضلًا مِنَ الله وَ رِضْواناً سِیماهُمْ فِی وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِکَ مَثَلُهُمْ فِی التَّوراةِ وَ مَثَلُهُمْ فِی الإِنْجِیل کَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطأَهُ فَآ زَرَهُ فَاستَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ یُعْجِبُ الزُّرّاع لِیَغِیظَ بِهِمُ الکُفّارَ وَعَدَ الله الَّذِینَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحات مِنْهُمْ مَغْفِرةً وَ أَجراً عَظیماً»(7)
فهذه الآیة بظاهرها أوسع دلالة ممّا سبق لأنّها تثنی على النبی ومن معه، و لکن مدلول الآیة- فی الحقیقة لیس بأوسع ممّا سبق، و ذلک للقرائن التالیة:
الأُولى: الصفات التالیة لم تکن متوفرة فی عامّة الصحابة، أعنی بها:
أ. «أشدّاء على الکفّار».
ب. «رُحماء بَینَهُمْ».
ج. «تَراهُمْ رُکّعاً سُجّداً»
د. «یَبْتَغُونَ فَضلًا مِنَ الله وَرِضْواناً».
ه. «سِیماهُمْ فِی وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُود».
و من المعلوم أنّه لم تکن هذه الصفات متوفّرة فی عامّة صحابة النبیّ، فهل کان فی وجوه الأعراب والطلقاء و أبنائهم والذین آمنوا بعد الفتح أثر للسجود؟!
الثانیة: انّ ذیل الآیة یشهد بأنّ الثناء على قسم منهم یقول: « وَعَدَ الله الَّذینَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرةً وَ أَجراً عَظیماً»
فانّ لفظة «من» فی قوله: «منهم» للتبعیض، وما یقال من أنّ «من» بیانیة غیر صحیح، لأنّها لا تدخل على الضمیر مطلقاً فی کلامهم و إنّما تدخل على الاسم الظاهر، کما فی قولک: « فاجتنبوا الرجس من الأوثان»(8).(9)
الثالثة: انّ الآیة نزلت قبل فتح مکة و بعد الحدیبیة، و المراد من قوله سبحانه فی هذه الآیة «إِنّا فَتَحْنا لَکَ فَتْحَاً مُبِیناً» هو الفتح فی صلح الحدیبیة، و فیه إخبار عن فتح مکة فی المستقبل بقوله: « لَقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرُّؤْیا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الحَرامَ إِنْ شاءَ الله آمِنینَ مُحَلِّقینَ رُؤُوسَکُمْ وَمُقَصِّرینَ لَا تَخافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِکَ فَتْحاً قَرِیباً»(10)
فالآیة تتضمن الإخبار عن فتحین آخرین:
1. عمرة القضاء وأشار إلیه بقوله: «لتدخلنّ المسجد الحرام».
2. فتح مکة وأشار إلیه بقوله: « وجعل من دون ذلک فتحاً قریباً».
فإذا کانت الآیة ممّا نزلت فی السنّة السادسة وحوالیها، فلا تکون أوسع دلالة من الآیات النازلة بعدها فی السنّة التاسعة کما نقلناه، فالثناء المطلق فی الآیة على مَن کان مع النبی « والّذین مَعَه» یحمل و یخصص بما خصصه القرآن فی آیات أُخرى کالآیات المتقدّمة.
وعلى ضوء ما تقدّم، نصل إلى النتیجة التالیة: انّ ما اشتهر على الألسن من ثناء القرآن على صحابة الرسول قاطبة و تعدیله إیاهم ممّا لا أساس له، و إنّما وقع الثناء- بعد ضمّ بعضها إلى بعض- على لفیف منهم و طائفة خاصّة(11)
لا يوجد تعليق