الجواب الاجمالي:
البداء أصطلاحاً: تغيير المصير والمقدّر بالأعمال الصالحة والطالحة، وتأثيرها فيما قدّر الله تعالى من التقدير المشترط، قال تعالى: (ثمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مسَمّىً عنْدَه) فبيَّن أن الآجال على ضربين، وضربٌ منهما مشترط يصح فيه الزيادة والنقصان وقال أيضاً: (وَمَا يعَمَّر منْ معَمَّر وَلا ينْقَص منْ عمره الاّ في كتَاب).
واعتقاد الإماميه تبعاً لنصوص الكتاب والسنة على أنه سبحانه عالم بالأشياء والحوادث كلها؛ غابرها وحاضرها ومستقبلها، كليها وجزئيّها، وقد أوضح الإمام الصادق (عليه السلام) أمر البداء بقوله: (فكل أمر يريده الله فهو في علمه قبل أن يصنعه، ليس شيء يبدو له إلاّ وقد كان في علمه، إن الله لا يبدو له من جهل)
الجواب التفصيلي:
إنّ من العقائد الثابتة عند الشیعة الإمامیة، هو القول بالبداء، ومن الکلمات الدارجة بین علمائهم أنّ النسخ والبداء صنوان، غیر أنّ الأوّل فی التشریع، والثانی فی التکوین، وقد اشتهرت بالقول به کاشتهارها بالقول بالتقیة وجواز متعة النساء. و صار القول بهذه الأُمور الثلاثة من خصائصهم و قد أنکرت علیهم اهل السنّة أشد الإنکار خصوصاً فی مسألة البداء، ولکنّهم لو کانوا واقفین على مراد الشیعة من تجویز البداء على الله لتوقّفوا عن الاستنکار، ولأعلنوا الوفاق، وأقول عن جدّ: لو أُتیحت الفرصة لعلماء الفریقین للبحث عن النقاط الخلافیة بعیداً عن التعصّب و التشنّج لتجلّى الحقّ بأجلى مظاهره، و لأقرّوا بصحّة مقالة الشیعة، غیر أنّ تلک أُمنیة لا تتحقّق إلّا فی فترات خاصة، و قد سألنی أحد علماء أهل السنّة عن حقیقة البداء فأجبته بإجمال ما أُفصّله فی هذا المقام، فتعجّب عن إتقان معناه، غیر أنّه زعم أنّ ما ذکرته نظریة شخصیة لا صلة بها بنظریة الإمامیة فی البداء، فطلب منّی کتاباً لقدماء علماء الشیعة، فدفعت إلیه أوائل المقالات، و شرح عقائد الصدوق لشیخ الأُمّة محمّد بن النعمان المفید (336- 413 هـ) فقرأهما بدقة، و جاء بالکتاب بعد أیام و قال: لو کان معنى البداء هو الذی یذکره صاحب الکتاب فهو من صمیم عقیدة أهل السنّة و لا یخالفون الشیعة فی هذا المبدأ أبداً.
نأتی بالتوضیح لحقیقة البداء عند الشیعة فی المجالین:
(1): اتّفقت الشیعة على أنّه سبحانه عالم بالحوادث کلّها غابرها و حاضرها، و مستقبلها، لا یخفى علیه شیء فی الأرض و لا فی السماء، فلا یتصوّر فیه الظهور بعد الخفاء، و لا العلم بعد الجهل، بل الأشیاء دقیقها و جلیلها، حاضرة لدیه، و یدلّ علیه الکتاب و السنّة المرویة عن طریق أئمّة أهل البیت - مضافاً إلى البراهین الفلسفیة المقرّرة فی محلّها- .
أمّا من الکتاب:
فقوله سبحانه: إنَّ الله لا یَخْفَى عَلَیْهِ شَیْءٌ فِی الأرْضِ و لا فِی السَّماءِ(1)
و قوله تعالى: وَ مَا یَخْفَى عَلى الله مِنْ شَیْءٍ فِی الأرْضِ و لا فِی السَّماءِ(2)
و قوله سبحانه: إنْ تُبْدُوا شَیْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ الله کَانَ بِکُلِّ شَیءٍ عَلیماً(3)
کیف وهو محیط بالعالم صغیره وکبیره، مادّیّه ومجرّده، و الأشیاء کلّها قائمة به قیاماً قیّومیّاً کقیام المعنى الحرفی بالاسمی و الرابطی بالطرفین، و یکفی فی توضیح ذلک قوله سبحانه: مَا أَصابَ مِنْ مُصیبَةٍ فی الأرْضِ و لا فِی أَنْفُسِکُمْ إلّا فِی کِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأهَا إِنَّ ذَلِکَ عَلَى الله یَسیرٌ»(4)
و قوله سبحانه: وَ مَا مِنْ دَابَّةٍ فِی الأرْضِ إلّا عَلَى الله رِزْقُها وَ یَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَ مُسْتَوْدَعَهَا کُلٌّ فِی کِتابٍ مُبین .(5)
و أمّا الأخبار فنکتفی بالقلیل منها:
قال الإمام موسى الکاظم علیه السلام: «لم یزل الله عالماً بالأشیاء قبل أن یخلق الأشیاء، کعلمه بالأشیاء بعد ما خلق الأشیاء»(6)
وقال الإمام علیّ علیه السلام: «کلّ سرّ عندک علانیة، و کلّ غیب عندک شهادة»(7)
قال علیه السلام: «لا یعزب عنه عدد قطر الماء، و لا نجوم السماء، و لا سوافی الریح فی الهواء، و لا دبیب النمل على الصفا، و لا مقیل الذرّ فی اللیلة الظلماء، یعلم مساقط الأوراق، و خفیّ طرف الأحداق»(8)
و قال الصادق علیه السلام فی تفسیر قوله : یمحوا الله ما یشاءُ و یثبتُ و عندَهُ أُمُّ الکتاب(9) : «فکل أمر یریده الله، فهو فی علمه قبل أن یصنعه، لیس شیء یبدو له إلّا و قد کان فی علمه، إنّ الله لا یبدو له من جهل»(10)
و قال علیه السلام: «من زعم أنّ الله عزّ وجلّ یبدو له من شیء لم یعلمه أمس؛ فابرأوا منه»(11)
إلى غیر ذلک من الروایات التی تدلّ على إحاطة علمه بکلّ شیء قبل خلقه وحینه و بعده، و أنّه لا یخفى علیه شیء أبداً(12)
و أمّا العقل فقد دلّ على تنزّهه من وصمة الحدوث و التغییر، وأنّه تقدّست أسماؤه أعلى من أن یقع معرضاً للحوادث و التغییرات، و لأجل ذلک ذهبوا إلى امتناع البداء علیه- بمعنى الظهور بعد الخفاء و العلم بعد الجهل- لاستلزامه کون ذاته محلًاّ للتغیّر و التبدّل، المستلزم للترکیب و الحدوث، إلى غیر ذلک ممّا یستحیل علیه سبحانه.
فالآیات و کذلک الأحادیث المرویة عن أئمّة الشیعة علیهم السلام تشهد على علمه الذی لا یشوبه جهل، و على سعته لکلّ شیء قبل الخلق و بعده، و أنّه یستحیل علیه الظهور بعد الخفاء، و العلم بعد الجهل.
و علیه فمن نسب إلى الشیعة الإمامیة ما یستشمّ منه خلاف ما دلّت علیه الآیات و الأحادیث فقد افترى کذباً ینشأ من الجهل بعقائد الشیعة، أو التزلّف إلى حکّام العصر الحاقدین علیهم أو التعصّب المقیت.
و بذلک یعلم بطلان ما قاله الرازی فی تفسیره عند البحث عن آیة المحو و الإثبات، حیث یقول: قالت الرافضة: البداء جائز على الله تعالى، و هو أن یعتقد شیئاً ثمّ یظهر له أنّ الأمر بخلاف ما اعتقده، و تمسّکوا فیه بقوله: یمحوا الله ما یشاء و یثبت، ثمّ قال: إنّ هذا باطل؛ لأنّ علم الله من لوازم ذاته المخصوصة، و ما کان کذلک کان دخول التغیّر و التبدّل فیه باطلًا(13)
و ما حکاه الرازی عن «الرافضة» کاشف عن جهله بعقیدة الشیعة، و إنّما سمعه عن بعض الکذّابین الأفّاکین الذین یفتعلون الکذب لغایات فاسدة، و قد قبله من دون إمعان و دقّة، مع أنّ موطنه و مسقط رأسه بلدة (ری) التی کانت آنذاک مزدحم الشیعة و مرکزهم، و کان الشیخ محمود بن علیّ بن الحسن سدید الدین الحمصی الرازی- علّامة زمانه فی الأُصولین- معاصراً و مواطناً للرازی و هو مؤلّف کتاب «المنقذ من التقلید و المرشد إلى التوحید»(14)، و لو کان الفخر الرازی رجلًا منصفاً لرجع إلیه فی تبیین عقائد الشیعة، و لما هجم علیهم بسباب مقذع، و ربّما ینقل عنه بعض الکلمات فی تفسیره.
و لیس الرازی فریداً فی التقوُّل فی هذا المجال، بل سبقه البلخی (319 ه) فی هذه النسبة (15)، و نقله الشیخ الأشعری (260- 324 ه)(16) و نقله أبو الحسن النوبختی فی فرق الشیعة عن بعض فرق الزیدیة(17)
(2): کما دلّت الآیات و الأحادیث (18) على أنّه سبحانه لم یفرغ من أمر الخلق و الإیجاد، و التدبیر و التربیة، دلّت على أنّ مصیر العباد یتغیّر، بحسن أفعالهم و صلاح أعمالهم، من الصدقة و الإحسان وصلة الأرحام و برّ الو الدین، و الاستغفار و التوبة و شکر النعمة و أداء حقّها، إلى غیر ذلک من الأُمور التی تغیّر المصیر و تبدّل القضاء، و تفرّج الهموم و الغموم، و تزید فی الأرزاق، و الأمطار، و الأعمار، و الآجال، کما أنّ لمحرَّم الأعمال و سیّئها من قبیل البخل و التقصیر، و سوء الخلق، و قطیعة الرحم، و عقوق الو الدین، و الطیش، و عدم الإنابة، و کفران النعمة، و ما شابهها تأثیراً فی تغییر مصیرهم بعکس ذلک من إکثار الهموم، و القلق، و نقصان الأرزاق، و الأمطار، و الأعمار، و الآجال، و ما شاکلها.
فلیس للإنسان مصیر واحد، و مقدّر فارد؛ یصیبه على وجه القطع و البتّ، و یناله، شاء أو لم یشأ، بل المصیر أو المقدر یتغیّر و یتبدّل بالأعمال الصالحة و الطالحة وشکر النعمة و کفرانها، و بالإیمان و التقوى، و الکفر و الفسوق. و هذا ممّا لا یمکن- لمن له أدنى علاقة بالکتاب و السنّة- إنکاره أو ادّعاء جهله(19)
لا يوجد تعليق