الجواب الاجمالي:
الجواب التفصيلي:
استدلّ القائلون بروایات بأنّ القصر فی صلاة المسافر رخصة، نذكرها تباعا وندرس اسنادها ومتونها علی اصول علم الحدیث فی اهل السّنّة.
1- أخرج مسلم عن يعلى بن أميّة، قال: قلت لعمر بن الخطاب: «فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ -كَفَرُوا»(النساء:101)، فقد أمن الناس، فقال: عجبت ممّا عجبت منه، فسألت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلّم، قال: «صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته»(1)
وجه الدلالة: انّ المتصدّق عليه لا يجب عليه قبول الصدقة.
و أجاب الشوكاني عن الاستدلال المذكور بقوله: إنّ الأمر بقبولها يدلّ على أنّه لا محيص عنها وهو المطلوب(2).
وكان للشوكاني أن يرد على الاستدلال بوجه آخر أيضا ويقول: إنّ قياس صدقة اللَّه وهديته، على صدقات الناس وهداياهم قياس مع الفارق، وذلك لأنّ المهدى إليه أو المتصدّق عليه لا يجب عليه قبول الهدية أو الصدقة إذا كان المتصدّق إنسانا مثله، وأمّا إذا كان المتصدّق هو اللَّه سبحانه فيجب قبولها، وذلك لأنّ صدقة اللَّه أمر امتناني، وامتناناته سبحانه ليست أمورا اعتباطية، بل هي ناشئة من الحكمة البالغة الإلهية، فحيث يعلم اللَّه بأنّ المصالح الذاتية للبشر تقتضي ذلك الامتنان يمنّ بها على العباد، فيصير القبول أمرا مفروضا عليهم(3).
2- أخرج الدارقطني والبيهقي واللفظ للأوّل عن عبد الرحمن بن أسود، عن عائشة قالت: خرجت مع النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلّم في عمرة في رمضان فأفطر وصمت، وقصّر وأتممت، فقلت: يا رسول اللَّه بأبي وأمي، أفطرت وصمت، وقصّرت وأتممت؟ فقال: أحسنت يا عائشة(4).
قال الشوكاني: أخرجه أيضا النسائي والبيهقي بزيادة: «أنّ عائشة اعتمرت مع رسول اللَّه من المدينة إلى مكة حتّى إذا قدمت مكة قالت: بأبي أنت وأمّي يا رسول اللَّه أتممت وقصّرت»، والاحتجاج بالرواية رهن صحّة السند أوّلا وإمكان الأخذ بالمضمون ثانيا: أمّا السند ففيه العلاء بن زهير عن عبد الرحمن بن أسود بن يزيد النخعي، عن عائشة. قال ابن حبان: كان يروي عن الثقات ما لا يشبه حديث الإثبات، فبطل الاحتجاج به فيما لم يوافق الإثبات.
و قال أبو حاتم: دخل عليها وهو صغير ولم يسمع منها، ومع هذا الاختلاف كيف يمكن الأخذ بقول راو لم يثبت سماعه من عائشة؟! وعلى فرض السماع فقد سمع وهو صغير أو مراهق.و لأجل ذلك احتمل الدارقطني في «العلل» انّه مرسل كما نقله عنه الشوكاني في «نيل الأوطار»[5] والذي يزيد في الطين بلّة، انّ الدارقطني تارة نقله عن عبد الرحمن عن أبيه عن عائشة، وأخرى عن عبد الرحمن عن عائشة[6] ونقل البيهقي عن أبي بكر النيسابوري انّه من قال عن أبيه في هذا الحديث فقد أخطأ(7).
و أمّا المضمون فيلاحظ عليه:
أوّلا: أنّه جاء في حديث عائشة أنّها قالت: خرجت مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلّم «في عمرة رمضان» إلخ، وهذا ما يخالف التأريخ القطعي في سيرة الرسول صلى اللَّه عليه وآله وسلّم، فقد جاء في السيرة الحلبية: «لا خلاف انّ عمرة النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلّم لم تزد على أربع، أي كلّهن في ذي القعدة مخالفا للمشركين، فإنّهم كانوا يكرهون العمرة في أشهر الحج ويقولون هي من أفجر الفجور.
وعلى هذا فكيف يمكن الأخذ بمضمون الحديث مع أنّه لم يكن للنبي مع زوجته أيّة عمرة في شهر رمضان؟!
وثانيا: أنّه كيف أتمّت عائشة وصامت مع أنّ النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلّم وأصحابه قصّروا وأفطروا ولم يكن عملها عمل يوم واحد، بل كانت على ما يروى عبر الأيام من المدينة المنورة إلى مكة المشرفة، وكانت القوافل تقطع المسافة بين البلدين في حوالي عشرة أيام، فهل يعقل أن تخالف أمّ المؤمنين النبيّ صلى اللَّه عليه وآله وسلّم والصحابة وهي بمرأى ومسمع من النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلّم وغيره؟!
ولذلك قال ابن تيمية: هذا حديث كذب على عائشة، ولم تكن عائشة تصلّي بخلاف النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلّم وسائر الصحابة، وهي تشاهدهم يقصرون ثمّ تتم هي وحدها بلا موجب. كيف وهي القائلة: فرضت الصلاة ركعتين فزيدت في صلاة الحضر وأقرّت صلاة السفر؟! فكيف يظن بها انّها تزيد على فرض اللَّه وتخالف رسول اللَّه وأصحابه؟!!(8).
3- أخرج الدارقطني عن محمد بن منصور بن أبي الجهم، حدّثنا نصر بن علي، حدّثنا عبد اللَّه بن داود، عن المغيرة بن زياد الموصلي، عن عطاء، عن عائشة: انّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلّم كان يتم الصلاة في السفر ويقصر.ثمّ قال: المغيرة بن زياد الموصلي ليس بالقوي(9).
4- أخرج أبو داود الطيالسي، قال: حدثنا يونس، قال: حدّثنا أبو داود، قال: حدّثنا طلحة قال: سمعت عطاء يحدث عن عائشة، قالت: كلّ ذلك قد فعل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلّم في السفر صام وأفطر(10).
بناء على وحدة حكم الصلاة والصوم في السفر وإلّا فالرواية أجنبيّة عن المقام.
و نقله الدارقطني بهذا الاسناد مع اختلاف طفيف في المتن، ثمّ قال في آخره: طلحة ضعيف[11] يلاحظ على الروايتين: أنّ السند لا يحتج به، لما عرفت من أنّ المغيرة ليس بالقوي وطلحة ضعيف، وعلى فرض صحّة الاحتجاج فلا يقاومان ما تضافر عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلّم قولا وفعلا على القصر، كما لا يقاوم ما تضافر عن الصحابة من أنّ النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلّم كان يقصر طيلة عمره في السفر.
و أمّا الدلالة فلأنّ عائشة تروي فعل النبي وانّه كان يتم ولكن من المحتمل انّ إتمامه كان في صورة عدم اجتماع شرائط القصر في سفره، ونعلم انّ العمل لا يحتج به حتّى يعلم وجهه، والعمل في تينك الروايتين مجمل جدّا، لاحتمال أن يكون الإتمام لأجل الرخصة في السفر أو لعدم وجود شرائط القصر.
ثمّ إنّ لابن حزم في «المحلى» كلاما جامعا حول هذه الروايات، حيث قال: أمّا الذي من طريق عبد الرحمن بن الأسود، فانفرد به العلاء بن زهير الأزدي لم يروه غيره، وهو مجهول. وأمّا حديث عطاء، فانفرد به المغيرة بن زياد لم يروه غيره، وقال فيه أحمد بن حنبل: هو ضعيف كلّ حديث أسنده فهو منكر.. ما رواه النووي في شرحه على صحيح مسلم وحيث قال: إنّ الصحابة- رضي اللَّه عنهم- كانوا يسافرون مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلّم، فمنهم القاصر ومنهم المتمم ومنهم الصائم ومنهم المفطر لا يعيب بعضهم على بعض(12).
نقل ابن قدامة عن أنس، قال: كنّا أصحاب رسول اللَّه نسافر فيتمّ بعضنا ويقصر بعضنا ويصوم بعضنا ويفطر بعضنا فلا يعيب أحد على أحد، ثمّ قال: ولأنّ ذلك إجماع الصحابة رحمهم اللَّه بدليل انّ فيهم من كان يتم الصلاة ولم ينكر الباقون عليه بدليل حديث أنس(13).
يلاحظ عليه: بأنّه قد أخرج مسلم في باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر سبع روايات عن أبي سعيد الخدري وجابر بن عبد اللَّه الأنصاري وأنس بن مالك ليس فيها أيّ أثر من القصر والإتمام، بل الروايات تدور على الصوم والإفطار، فلم يظهر لي مصدر ما نسب إلى أنس: «فيتم بعضنا ويقصر بعضنا»(14).
ولنفرض صحّة ما عزي إلى صحيح مسلم لكن من أين ثبت انّ النبي اطّلع على فعلهم فأقرّهم عليه حتى يكون التقرير حجة علينا؟ وليس عمل الصحابي بمجرّده حجة ما لم يعلم كونه مستندا إلى قول النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلّم وعمله. قال الشوكاني: إنّ إجماع الصحابة في عصره ليس بحجّة والخلاف بينهم في ذلك مشهور بعد موته(15)،(16).
لا يوجد تعليق