الجواب الاجمالي:
اتّفق المسلمون تبعا للكتاب العزيز و السنّة النبوية على مشروعية القصر في السفر و إن لم يكن معه خوف و إنّما الكلام في أنّ القصر في السفر عزيمة، أو رخصة، أو سنّة مؤكدة ؟! دلّت السنّة المتضافرة المبثوثة في الصحاح و السنن والمسانيد على أنّ القصر عزيمة، وكان النبي (ص) يقصر في عامّة أسفاره
الجواب التفصيلي:
اتّفق المسلمون تبعا للكتاب العزيز و السنّة النبوية على مشروعية القصر في السفر و إن لم يكن معه خوف و إنّما الكلام في أنّ القصر في السفر عزيمة، أو رخصة، أو سنّة مؤكدة ؟!
الکتاب لا یدلّ على العزيمة و لا على الرخصة، بل هو ساكت عن هذا الجانب، فلا محيص من الرجوع إلى السنّة.
فنقول: دلّت السنّة المتضافرة المبثوثة في الصحاح و السنن و المسانيد على أنّ القصر عزيمة، و كان النبي (ص) يقصر في عامّة أسفاره، فنذكر من الكثير ما يلي:
1. أخرج مسلم عن عائشة زوجة النبي (ص) انّها قالت: فرضت الصلاة ركعتين ركعتين في الحضر و السفر فأقرّت صلاة السفر و زيد في صلاة الحضر[1]
قال الشوكاني: و هو دليل ناهض على الوجوب، لأنّ صلاة السفر إذا كانت مفروضة ركعتين لم تجز الزيادة عليها كما أنّها لا تجوز الزيادة على الأربع في الحضر.
ثمّ إنّ بعض من يحاول إخضاع الرواية على فقه إمام مذهبه ناقش فيها بوجوه واهية، نقلها الشوكاني في كتابه، و إليك نصها:
أ. انّ الحديث من قول عائشة غير مرفوع[2] و انّها لم تشهد زمان فرض الصلاة و انّه لو كان ثابتا لنقل تواترا.
يلاحظ عليه: بأنّ مقتضى عدالة الراوي هو انّه سمع الحديث من النبي (ص)، أو من عدل آخر سمعه منه.
و لو اقتصرنا في الأخذ بروايات عائشة على زمن ملازمتها للنبي (ص) لسقط قسط كبير من رواياتها عن الاعتبار، فإنّها كثيرا ما تروي حوادث لم تشاهدها، كرواية كيفية نزول الوحي على النبي، نقلها البخاري في صحيحه على وجه التفصيل، أنّها ترسل كيفية نزول الوحي على الرسول مع أنّها لم تولد يوم ذلك[3]
ب. انّ المراد بقولها: فرضت، أي قدرت.
ج. المراد من قولها: فرضت، يعني: لمن أراد الاقتصار عليها، فزيد في صلاة الحضر ركعتان على سبيل التحتم و أقرت صلاة السفر على جواز الاقتصار[4]
يلاحظ عليهما: أنّ كلا من الوجهين صرف للدليل عن وجهه، و هو تفسير بالرأي، و هو أمر مرفوض من غير فرق بين تفسير كلام اللَّه سبحانه أو كلام نبيه أو كلام غيره.
2. أخرج مسلم عن عائشة أنّ الصلاة أوّل ما فرضت ركعتين فأقرّت صلاة السفر و أتمّت صلاة الحضر. قال الزهري: فقلت لعروة: ما بال عائشة تتمّ في السفر؟ قال: إنّها تأوّلت كما تأوّل عثمان[5]
3. أخرج مسلم عن ابن عباس قال: فرض اللَّه الصلاة على لسان نبيّكم صلى اللَّه عليه و آله و سلّم في الحضر أربعا و في السفر ركعتين و في الخوف ركعة.
4. أخرج مسلم عن موسى بن سلمة الهذلي، قال: سألت ابن عباس كيف أصلّي إذا كنت بمكة إذا لم أصلّ مع الإمام؟ فقال: ركعتين، سنّة أبي القاسم.
5. أخرج مسلم عن عيسى بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب عن أبيه قال: صحبت ابن عمر في طريق مكة، قال: فصلّى لنا الظهر ركعتين. إلى أن قال: إنّي صحبت رسول اللَّه في السفر فلم يزد على ركعتين حتّى قبضه اللَّه، و صحبت أبا بكر فلم يزد على ركعتين حتّى قبضه اللَّه، و صحبت عمر فلم يزد على ركعتين حتّى قبضه اللَّه، ثمّ صحبت عثمان فلم يزد على ركعتين حتّى قبضه اللَّه، فقد قال اللَّه: «لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ»(الاحزاب:21).
6. أخرج مسلم عن أنس انّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله و سلّم صلّى الظهر بالمدينة أربعا، و صلّى العصر بذي الحليفة ركعتين.
7. أخرج مسلم عن يحيى بن يزيد الهنائي قال: سألت أنس بن مالك عن قصر الصلاة؟ فقال: كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله و سلّم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ «شعبة الشاك» صلّى ركعتين.
و ظاهر الحديث انّ مبدأ القصر بعد الخروج مسيرة ثلاثة أميال، و المشهور على خلافه.
قال النووي: هذا ليس على سبيل الاشتراط و إنّما وقع بحسب الحاجة، لأنّ الظاهر من أسفاره انّه ما كان يسافر سفرا طويلا فيخرج عند حضور فريضة مقصورة و يترك قصرها بقرب المدينة و يتمّها، و إنّما كان يسافر بعيدا من وقت المقصورة فتدركه على ثلاثة أميال أو أكثر أو نحو ذلك فيصلّيها حينئذ، و الأحاديث المطلقة مع ظاهر القرآن متعاضدات على جواز القصر من حين يخرج من البلد فإنّه حينئذ يسمّى مسافرا[6]
8. أخرج مسلم عن جبير بن نفير قال: خرجت مع شرحبيل بن السمط إلى قرية على رأس سبعة عشر أو ثمانية عشر ميلا، فصلّى ركعتين، فقلت له فقال: رأيت عمر صلّى بذي الحليفة ركعتين، فقلت له فقال: إنّما أفعل كما رأيت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله و سلّم يفعل.
و الحديث دالّ على أنّ رسول اللَّه (ص) يقصر في السفر دائما، و انّما الاختلاف في أنّ مبدأ القصر هو الخروج عن البلد كما جرى عليه عمر أو بعد الخروج مسيرة ثمانية عشر ميلا.
قال النووي: أمّا قوله: «قصر شرحبيل على رأس 17 ميلا أو 18 ميلا» فلا حجة فيه، لأنّه تابعي فعل شيئا يخالف الجمهور، أو يتأوّل على أنّها كانت في أثناء سفره لا انّها غايته، و هذا التأويل ظاهر[7]
9. أخرج مسلم عن أنس بن مالك قال: خرجنا مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله و سلّم من المدينة إلى مكة فصلّى ركعتين ركعتين حتّى رجع، قلت: كم أقام بمكة؟ قال: عشرا.
ثمّ إنّ قصر النبي في مكة مع إقامته فيها عشرة أيّام و إن كان يوافق بعض المذاهب لكنّه يخالف مذهب الإمام مالك، كما يخالف مذهب الإمامية، فإنّ نية العشرة قاطعة للسفر موجبة للإتمام، و لعلّ الإقامة لم تكن عشرة كاملة بالضبط بل كانت عشرة عرفية و ربما تنقص عن العشرة التامة.
10. أخرج أبو داود عن عمران بن الحصين، قال: غزوت مع رسول اللَّه و شهدت معه الفتح فأقام بمكة 18 ليلة لا يصلي إلّا ركعتين، و يقول: يا أهل البلد صلّوا أربعا فانّا قوم سفر[8]
و يؤخذ من الحديث صدره، و أمّا ما نسب إلى النبي أنّه أقام 18 ليلة لا يصلّي إلّا ركعتين، فهو معارض مع ما نقله أنس من أنّه أقام بمكة 10 أيام.
و على كلّ تقدير انّ تأكيد النبي على القصر في مكة المكرمة طول إقامته فيها- مع أنّه كان بصدد تعليم أحكام الصلاة لأهل مكة الذين كانوا يدخلون في دين اللَّه أفواجا- دليل على كون القصر عزيمة، و إلّا لأتمّ الصلاة، لكونه أوفق في مقام التعليم، لأجل وحدة الإمام مع صلاة المأموم في الكم و الكيف.
11. أخرج ابن ماجة في سننه عن عمر أنّه قال: صلاة السفر و صلاة الجمعة ركعتان، و الفطر و الأضحى ركعتان تمام غير قصر على لسان محمد صلى اللَّه عليه و آله و سلّم[9]
12. أخرج الطبراني عن ابن عباس قال: افترض رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله و سلّم ركعتين في السفر كما افترض في الحضر أربعا[10]
هذا قسم من ما وقفنا عليه من النصوص عن النبي الأعظم صلى اللَّه عليه و آله و سلّم و أصحابه و التابعين لهم بإحسان، و قد أخذ بها لفيف من الصحابة و غيرهم؛ منهم: عمر بن الخطاب، و ابنه، و ابن عباس، و جابر، و جبير بين مطعم، و الحسن، و القاضي إسماعيل، و حماد بن أبي سليمان، و عمر بن عبد العزيز، و قتادة، و الكوفيون[11]
غیر ان هناك آثار مبثوثة في الكتب الفقهية دالة علی عزیمة القصر فی صلاة المسافر لا مجال هنا للبحث عنها[12]
لا يوجد تعليق