الجواب الاجمالي:
تضافرت الروايات على أنّ الرسول (ص) والخلفاء بعده وحتّى عثمان في سنين من خلافته كانوا يقصرون في منى دون استثناء، فلمّا أتمّ عثمان بعد ثمانية سنين قامت ضجة عليه، والناظر في الروايات يذعن بأنّ متلقّى الصحابة هو كون القصر عزيمة والتمام غير مشروع، وإلّا فلو كان القصر رخصة أو سنّة لما أثارت حفيظة الصحابة والتابعين ضدّ عثمان.
الجواب التفصيلي:
تضافرت الروايات على أنّ الرسول (ص) و الخلفاء بعده و حتّى عثمان في سنين من خلافته كانوا يقصرون في منى دون استثناء، فلمّا أتمّ عثمان بعد ثمانية سنين قامت ضجة عليه، ولما سمع عبد اللَّه بن مسعود انّ الخليفة أتمّ الصلاة في منى استرجع، أي قال إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ، ولا تقال تلك الكلمة إلّا إذا ألمّت مصيبة، وهذا يدلّ على أنّ عبد اللَّه بن مسعود تلقّى فعل عثمان مصيبة في الدين ورزءا عظيما.
والناظر في هذه الروايات التي سننقلها تباعا يذعن بأنّ متلقّى الصحابة هو كون القصر عزيمة و التمام غير مشروع، و إلّا فلو كان القصر رخصة أو سنّة لما أثارت حفيظة الصحابة و التابعين ضدّ عثمان.
1. أخرج مسلم في صحيحه عن سالم بن عبد اللَّه، عن أبيه، عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله و سلّم انّه صلّى صلاة المسافر بمنى(1) و غيره ركعتين و أبو بكر و عمر و عثمان ركعتين صدرا من خلافته ثمّ أتمّها أربعا(2)
2. أخرج مسلم عن ابن عمر قال: صلّى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله و سلّم بمنى ركعتين، و أبو بكر بعده، و عمر بعد أبي بكر، و عثمان صدرا من خلافته. انّ عثمان صلّى بعد أربعا، فكان ابن عمر إذا صلّى مع الإمام صلّى أربعا و إذا صلّاها وحده صلّى ركعتين(3) و سيأتي انّه كان يعيدها في بيته.
3. أخرج مسلم عن حفص بن عاصم، عن ابن عمر، قال: صلّى النبي صلى اللَّه عليه و آله و سلّم بمنى صلاة المسافر و أبو بكر و عمر و عثمان ثمانية سنين أو قال: ست سنين، قال حفص: و كان ابن عمر يصلّي بمنى ركعتين ثمّ يأتي فراشه، فقلت: أي عمّ لوصلّيت بعدها ركعتين؟ قال: لو فعلت لأتمت الصلاة(4)
4. اخرج مسلم عن حارث بن وهب الخزاعي، قال: صلّيت خلف رسول اللَّه بمنى و الناس أكثر ما كانوا، فصلّى ركعتين في حجّة منى(5)
5. أخرج مسلم عن عبد الرحمن بن يزيد، يقول: صلّى بنا عثمان بمنى أربع ركعات، فقيل ذلك لعبد اللَّه بن مسعود، فاسترجع، ثمّ قال: صلّيت مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله و سلّم بمنى ركعتين، و صلّيت مع أبي بكر الصديق بمنى ركعتين، و صلّيت مع عمر بن الخطاب بمنى ركعتين، فليت حظي من أربع ركعات، ركعتان متقبّلتان(6)
يقول النووي بعد قوله: (فليت حظي من أربع ركعات، ركعتان متقبّلتان):إنّ معناه ليت عثمان صلّى ركعتين بدل الأربع كما كان النبي و أبو بكر و عمر و عثمان في صدر خلافته يفعلون.
و لما كانت الرواية صريحة في أنّ متلقّى عبد اللَّه بن مسعود من فعل النبي هو كون القصر عزيمة، و لذلك استرجع و أردفه بقوله: (فليت حظي من أربع ركعات، ركعتان متقبّلتان) حاول النووي و غيره تأويل الأثر و تخفيف الوطأة و قال: مقصوده كراهة مخالفة ما كان عليه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله و سلّم و صاحباه، و مع هذا فابن مسعود- رضي اللَّه عنه- موافق على جواز الإتمام، و لهذا كان يصلّي وراء عثمان متمّا، و لو كان القصر عنده واجبا لما استجاز تركه وراء أحد.
و لا يخفى انّ ما ذكره تعسف ظاهر، إذ لا معنى للاسترجاع و لا للتمنّي لو كان عمل الخليفة عملا مشروعا سوّغه الشرع و أبلغه النبي صلى اللَّه عليه و آله و سلّم غير انّه اختار النبي أحد فردي التخيير الأفضل مع عدم نفي العدل الآخر.
ثمّ إنّ ما عزي إلى عبد اللَّه بن مسعود من أنّه أتمّ الصلاة في السفر عند ما صلّى مع عثمان فإنّما كان مراعاة سياسة مقطعية اتّباعا لما رآه عثمان خلافا لرأي نفسه في لزوم القصر، قال الأعمش: حدّثني معاوية بن قرّة عن أشياخه، انّ عبد اللَّه صلّى أربعا، فقيل له: عبت على عثمان ثمّ صليت أربعا؟ قال: الخلاف شر(7)
و منه يظهر حال عبد اللَّه بن عمر، قال ابن حزم: روينا من طريق عبد الرزاق، عن عبد اللَّه بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر انّه كان إذا صلّى مع الإمام بمنى أربع ركعات، انصرف إلى منزله فصلّى فيه ركعتين أعادها(8)
و هؤلاء كانوا يرون رعاية شئون السياسة الزمنية خوفا من الشر، و هي عندهم أولى من رعاية حفظ الأحكام كما نزلت من عند اللَّه و الوقوف أمام قبولها و تغييرها.
إلّا أنّ بعض الصحابة يرى خلاف ذلك، فهذا علي عليه السّلام أبى أن يصلّي أربعا في منى رغم إصرار عثمان و بني أميّة، حيث قيل له: صلّ بالناس، فقال: «إن شئتم صلّيت لكم صلاة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله و سلّم» يعني ركعتين، قالوا: لا إلّا صلاة أمير المؤمنين- يعنون عثمان- أربعا، فأبى عثمان(9)(10)
هذا و إنّ بني أميّة قد اتّخذوا من أحدوثة عثمان سنّة مستمرة مقابل سنّة النبي صلى اللَّه عليه و آله و سلّم إلى الأبد و إن لم يكن لهم عذر شرعي للإتمام.
أخرج الإمام أحمد بن حنبل بسنده عن عبد اللَّه بن الزبير، قال: لمّا قدم علينا معاوية حاجّا قدمنا معه مكة، قال: فصلّى بنا الظهر ركعتين، ثمّ انصرف إلى دارالندوة، قال: نهض إليه مروان بن الحكم وعمربن عثمان فقالا له: ماعاب أحد ابن عمك بأقبح ماعبتَه به، فقال لهما: وما ذاك؟ قال: فقالا له: ألم تعلم أنّه أتمّ الصلاة بمكة؟ قال: فقال لهما: ويحكما وهل كان غيرماصنعت؟ قد صلّيت هما مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلّم ومع أبي بكروعمر، قالا: فان ابن عمك قد كان أتمّها وإن خلافك إيّاه له عيب. قال: فخرج معاوية إلى العصر فصلّاها بنا أربعا(11)
إنّما دلّت ما رویت فی عثمان و معاویة على أنّ القصر في السفر عزيمة و انّ الإتمام أحدوثة حدثت بعد رحيلا لرسول صلى اللَّه عليه وآله وسلّم اجتهادا أو اتباعا للمصالح المقطعية(12)
لا يوجد تعليق