الجواب الاجمالي:
إن موج الفرية و القول بالتشبيه والتجسيم جاء من الشام و سبب ذلك أن كعب الاحبار وجماعته اتخذوا الشام قاعدة لهم و كانوا مقربين من معاوية، وقد أطلق يدهم ليملوا أفكارهم و ثقافتهم على المسلمين و يظهر أن أول من تأثر بهم و تبعهم أهل الشام حتى تأصلت أفكارهم فيهم.
الجواب التفصيلي:
لم يقتنع الجاهلون بما وصفوا به الله سبحانه من نسبة التحيز و المكان إليه حتى أثبتوا له النزول إلى السماء الدنيا، بل لم يقتنعوا بهذا و أثبتوا له الضحك و... (1)
اما ما یستندوا به فی القول بالهبوط و النزول: روی أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "يتنزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول : من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له". رواه البخاري(2) و يعني هذا الحديث أنه سبحانه و تعالى يوصف بالصعود و النزول، و القيام و القعود؛ سبحانه و تعالى عما يفترون.
و قال الشیخ محمد بن صالح العثيمين: «هذا الحديث حديث عظيم ذكر بعض أهل العلم أنه بلغ حد التواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا شك أنه حديث مستفيض مشهور،وقد شرحه شيخ الإسلام ابن تيمية بكتاب مستقل، ففيه ثبوت النزول لله سبحانه وتعالى لقوله: "يتنزل ربنا" والنزول من صفات الله الفعلية، لأنه فعل وهذا النزول نزول الله نفسه حقيقة»(3)
فاعلم أن النزول حقیقة یستلزم تجسيم ذات الله تعالى و تشبيهه بشيء من مخلوقاته؛ و قد نفى كل ذلك نفياً مطلقاً أهل البيت عليهم السلام و عائشة و جمهور الصحابة، و به قال الفلاسفة و المعتزلة و غيرهم، و استدلوا على ذلك بالقرآن بمثل قوله تعالى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) و...؛ و استدلوا أيضاً بالعقل فقالوا القول بأن الله سبحانه و تعالى يوصف بالصعود و النزول يستلزم تشبيهه و تجسيمه لا محالة، لَان ما يوصف بالصعود و النزول لا يكون إلا وجوداً ماديّاً يشبه غيره بأنه محدود بالمكان و الزمان وینتقل فی زمان خاص من مکان الی مکان، نعوذ بالله من جهل الجاهلین.
فكيف يؤخذ بظاهر هذا الخبر مع أن الليل مختلف في البلاد باختلاف المشارق، و المغارب؟!! و إذا كان اللّه ينزل لأهل كل أفق نزولا حقيقيا في ثلث ليلهم الأخير فمتى يستوي على عرشه حقيقة كما يقولون؟!! و متى يكون في السماء حقيقة كما يقولون؟!! مع أنّ الأرض لا تخلو من الليل في وقت من الأوقات، و لا ساعة من الساعات كما هو ثابت، و أكيد(4)
نحن نسأل «ابن تيميّة» و من لفّ لفّه: هل هو يأخذ بظواهر هذا الحدیث و غیره من الأحاديث التي لو وردت في حقّ غيره سبحانه لقطعنا بكونه جسماً، كالإنسان له أعضاؤه، أو يترك ظواهرها و يحملها على غيرها؟ فعلى الأوّل يقع في مغبّة التشبيه، و على الثاني يقع في عداد المؤوّلين و هو يتبرّأ منهم.
و أمّا الأخذ بظواهرها لكن بقيد «بلا تكييف» و «لا تشبيه»- فمضافاً إلى أنّه لم يرد في النصوص- يوجب صيرورة الصفات مجملة غير مفهومة، فإنّ واقعيّة النزول و الضحك و وضع القدم، إنّما هي بكيفيتها الخارجيّة، فحذفها يعادل عدمها. فما معنى الاعتقاد بشيء يصير في نهاية المطاف أمراً مجملًا و لغزاً غير مفهوم؟ فهل يجتمع هذا مع بساطة العقيدة و سهولة التكليف التي تتبنّاها السلفيّة في كتبهم؟!
فلو صحّ تصحيح هذه الأحاديث و الصفات الجسمانية بإضافة قولهم «بلا تمثيل» فليصحّ حمل كلّ وصف جسماني عليه بإضافة هذا القيد بأن يقال: اللَّه سبحانه جسم لا كهذه الأجسام، له صدر و قلب لا كمثل هذه الصدور و القلوب، إلى غير ذلك مما ينتهي الاعتقاد به إلى نفي الإله الواجب الجامع لصفات الجمال و الجلال.
و الحدیث المذکور علی فرض صحته یدل علی تقرب العباد الی الله تعالی تقربا معنویا حين يبقى ثلث الليل الآخر کما یدل علیه روایات کثیرة اخری، و کذلک یفهم السلف لأنهم يتوجهوا إلى الكعبة حین الدعاء و الاستغفار فی ذلک الزمان و غیره من الازمنة ولا یخطر ببالهم حضور شیءٍ فی سماء الدنیا لیتوجهوا الیها، بل «وَ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَ وَجْهُ اللَّهِ»(5). فإن کان الله تعالی فی سماء الدنیا فیجب أن یتوجهوا الی السماء لا الکعبة.
فعلیکم اما التوقف فی هذه الروایات و اما تفسیره بوجه لا یوجب نفي الإله الواجب الجامع لصفات الجمال و الجلال، والقول بإمکان رؤیة الله تعالی و أنه تعالى يعجب و يضحك و ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا و... یستلزم تجسیمه و تشبيهه بشيء من مخلوقاته و هو باطل قطعا.
والعجیب أنهم یتّهموا منکری هذه الأقوال الباطلة بالکفر!!
قال الذهبي في سيره ج 14 ص 396 بخبر: من لم يقر بأن الله تعالى يعجب و يضحك و ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا فيقول من يسألني فأعطيه، فهو زنديق كافر، يستتاب فإن تاب و إلا ضربت عنقه، و لا يصلى عليه و لا يدفن في مقابر المسلمين.
و کذلک ابن باز و... أفتی بذلک!
وقفنا على فتوى لعبد العزيز بن عبد الله بن باز مؤرخة 1407 /3/ 8 مرقمة 2 1717 جواباً على سؤال عبد الله عبد الرحمن في جواز الاقتداء و الائتمام بمن لا يعتقد بمسألة الرؤية يوم القيامة و... فأفتى: لا يصلى خلفه و هو كافر عند أهل السنة و الجماعة. و استدل لذلك بما ذكره ابن القيم في كتابه (حادي الارواح)(6)
و يشمل حكم الشيخ ابن باز و... هذا عائشة و کثیر من الصحابة؛ و لا طريق أمام ابن باز إلا أن يقول بكفر عائشة، أو يكذب روايات البخاري و مسلم عنها فی انکار رؤیة الله!! و قد كان الالباني أرحم من أستاذه ابن باز فقد رفع حكم التكفير عن أمه عائشة و عن عدة فئات من المسلمين فقال في فتاويه ص 123: علماء السلف يكتفون بتضليلهم دون كفرهم(7)
فاعلم ایها القارئ أن موج الفرية و القول بالتشبيه و التجسيم جاء من الشام و سبب ذلك أن كعب الاحبار و جماعته اتخذوا الشام قاعدة لهم و كانوا مقربين من معاوية، و قد أطلق يدهم ليملوا أفكارهم و ثقافتهم على المسلمين، و يظهر أن أول من تأثر بهم و تبعهم أهل الشام حتى تأصلت أفكارهم فيهم.
و من الظواهر الملفتة أن الشام في تاريخنا الاسلامي كانت موطناً للتشبيه و التجسيم أكثر من أي قطر إسلامي آخر! فلا توجد في العالم الاسلامي منطقة يعتبر فيها تأويل صفات الله تعالى التي يتوهم منها التشبيه و التجسيم جريمةً و خروجاً عن الدين إلا الشام، و كم من مسلم قتل في بلاد الشام بجرم أنه (متوالي) أي متأول! و ما زالت هذه الكلمة إرثاً عند العوام ينبزون بها شيعة أهل البيت عليهم السلام و هي في فهم عوامهم أسوأ من الكفر أو مساوقة له؛ و کذلک الوهایبة سعی فی تکرار ذلک الافکار الباطلة و قتل المسلمین بجرم الاعتقاد بالإله الواجب الجامع لصفات الجمال و الجلال و انکار تجسیمه و تشبیهه؛
وحسبنا فی ردهم قول باقر العلوم محمد بن علی علیهما السلام؛ قال الصدوق في التوحيد ص 179...عن جابر بن يزيد الجعفي قال: قال محمد بن علي الباقر عليهما السلام: يا جابر ما أعظم فرية أهل الشام على الله عز و جل، يزعمون أن الله تبارك و تعالى حيث صعد إلى السماء وضع قدمه على صخرة بيت المقدس، و لقد وضع عبد من عباد الله قدمه على حجر فأمرنا الله تبارك و تعالى أن نتخذه مصلى، يا جابر إن الله تبارك و تعالى لا نظير له و لا شبيه، تعالى عن صفة الواصفين، و جلَّ عن أوهام المتوهمين، و احتجب عن أعين الناظرين، لا يزول مع الزائلين، و لا يأفل مع الآفلين، ليس كمثله شيء و هو السميع العليم(8)
لا يوجد تعليق