رمى الجمرات في بحث جديد
رمى الجمرات
في بحث جديد
لجنة المعارف و التحقيقات الاسلامية
المقدمة:
إنّ المتاعب العظيمة والمخاطر الجليلة عند رمي الجمرات أدّت في أکثر الأوقات إلى وقوع ضحايا بين الحجّاج الکرام، ولهذا الأمر أسبابه الکثيرة، التي منها الفتاوى التي تلزم الحاجّ بأنّ يتيقّن إصابة الاسطوانة نفسها، وقد فتحت مجلّتنا باباً لمعرفة وجهات نظر فقهائنا العظام حول هذه المسألة.
* * *
من مشاکل الحجّاج المهمّة مسألة رمي الجمرات، خاصّة يوم عيد الأضحى، عندما تتوجّه جموع الحجّاج الغفيرة وتندفع بقوّة وبزحام شديد، فسبّب هذاخاصّة في السنوات الأخيرة ـ خسائر کبيرة في الأرواح، فجرح وقُتل حول الجمرات کثيرون، وطالما أُصيبت الرؤوس والوجوه والعيون!
إنّ جُلّ هذه الخسائر کان منشؤه تصوّر عامّة الناس ـ اتّباعاً للفتاوى ـ أنّ الواجب في رمي الجمرات هو أن يصيب الحصى العمود الخاصّ، في حين لا يتوفّر دليل واضح على ذلک، بل إنّ لدينا أدلّة مخالفة تشير إلى الاکتفاء بأن يُرمى الحصى على الجمرة، وأن يقع في الدائرة التي تتجمّع فيها الحصيات. والواقع أنّ «الجمرة» هي «مجتمـع الحصى»، وليست هي الأعمدة!
وقد اُعدّت هذه الرسالة لتبيّن الأدلّة العلمية لهذه المسألة، ولتکون مورد اطّلاع من قبل فقهاء المسلمين، وليعلم الجميع أنّ هذه الأعمدة لم يکن لها وجود في عصر رسول الله(صلى الله عليه وآله)، ولا في عصور الأئمّة(عليهم السلام)، بل إنّها معالم وُضِعت بعدئذ في مواضع الجمرات، وقد تُنصب فوقها مصابيح من أجل الذين يضطرّون إلى الرمي ليلاً. ونرجو من القرّاء الأعزّاء کافّة ألاّ يتعجّلوا في الحکم على هذه الرسالة قبل الانتهاء من مطالعتها کلّها.
ما هي الجَمرة؟
إنّ أصل وجوب رمي الجمرات ـ بوصفه من مناسک الحجّ ـ من مسلّمات أحکام الحجّ وضروريّاته، وهو ممّا اتّفقت عليه آراء جميع علماء الإسلام، ولکنّ المسألة المهمّة في باب رمي الجمرات أن نتعرّف على معنى الجمرة، التي يجب أن نرميها بالحصى، فهل الجمرة هي الأعمدة، التي نقذفها اليوم بالحصى، أو هي قطعة الأرض المحيطة بالأعمدة، أو هي کلاهما، وبالتالي يکفي رمي أحدهما بالحصى؟
إنّ الکثير من الفقهاء سکتوا عن بيان هذا المطلب، بَيْدَ أنّ فريقاً منهم عبّروا بتعابير تشير بوضوح إلى أنّ «الجمرة» هي الأرض المحيطة بالأعمدة، أي قطعة الأرض، التي يتجمّع فيها الحصى عند رميه.
وفي کتب اللغويّين وأحاديث المعصومين(عليهم السلام) أيضاً إشارات حاکية لهذا المعنى، بل إنّ القرائن تدلّ على أنّ موضع الجمرات لم يکن فيه عمود إبّان عصر رسول الله(صلى الله عليه وآله) وفي أيّام الأئمّة المعصومين(عليهم السلام)، وکان الحجيج يرمون حصياتهم على قطعة الأرض، حيث يتجمّع الحصى، ومن هنا قيل لها جمرة، أي «مُجتمع الحصى». وللوصول إلى هذه الحقيقة نمضي أوّلاً إلى عبارات فقهاء أهل السنّة والشيعة، ثمّ إلى کلام اللغويّين، لنبحث بعدئذ في روايات هذا الباب.
عبارات فريق من فقهاء أهل السنّة في معنى الجمرة
أشرنا من قبل إلى أنّ کثيراً من الفقهاء، قد التزموا الصمت إزاء معنى الجمرة; لکنّ فريقاً منهم لهم تعابير تدلّ على أنّ الجمرة هي الأرض المحيطة بالأعمدة، ونورد هنا أقوالاً من أربعة عشر کتاباً (سبعة کتب لفقهاء أهل السنّة، وسبعة کتب لفقهاء الشيعة) تشير إلى أنّ الجمرة في تلک العصور هي قطعة الأرض التي تُرمى بالحصى، وتعابير بعض فقهاء أهل السنّة شاهدة على أنّه ما کان في عصرهم وجود لعمود وأنّ الجمرة هي قطعة الأرض التي تقذف بالحصى.
1 ـ يقول الشافعي أحد أئمّة أهل السنّة الأربعة:
«فإنْ رمى بحصاة فأصابت إنساناً أو محملاً، ثمّ استنت حتّى أصابت موضع الحصى من الجمرة أجزأت عنه»(1).
وهنا نرى بجلاء أنّه يتحدّث عن مسألة تدحرج الحصاة على الأرض وإصابتها موضع الحصى، ويرى ذلک مُجزياً. وفي هذا دلالة على عدم وجود عمود.
2 ـ وفي هذا السياق يقول أحد أئمّة أهل السنّة المعروفين:
«وإن وقعت في موضع حصى الجمرة، وإن لم تبلغ الرأس أجزأ»(2).
ومن البيّن أنّ المراد بـ «الرأس»: رأس الحصى، أي أعلاه.
3 ـ يقول محيي الدِّين النّوَوي من فقهاء العامّة في کتاب «روضة الطالبين»:
«ولا يُشترط کونُ الرامي خارج الجمرة، فلو وقف في الطرف ورمى إلى الطرف الآخر جاز»(3).
وهذا التعبير يدلّ بوضوح على أنّ الجمرة هي الدائرة التي يُرمى فيها الحصى، ولا يرى من اللاّزم أن يقف المرء خارج هذه الدائرة، بل يجزيه أن يقف في طرف من الدائرة ويرمي الحصاة إلى الطرف الآخر.
4 ـ ويقول النَّووي أيضاً في کتابه الآخر «المجموع»:
«والمراد (من الجمرة) مجتمع الحصى في موضعه المعروف، وهو الذي کان في زمان رسول الله(صلى الله عليه وآله)... ولو نُحّي من موضعه الشرعي، ورمى إلى «نفس الأرض» أجزأ; لأنّه رمى في موضع الرمي. هذا الذي ذکرته هو المشهور، وهو الثواب»(4).
إنّ هذه العبارات تصرّح تصريحاً جليّاً أنّ الجمرة هي هذه القطعة من الأرض، حتّى أنّها تدّعي الشهرة وتقول: إنّها هي التي کانت على عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله).
5 ـ يقول شهاب الدِّين أحمد بن إدريس، وهو فقيه آخر من فقهاء العامّة:
«فإنْ رمى بحصاة... وقعت دون الجمرة وتدحرجَت إليها، أجزأ»(5).
6 ـ جاء في کتاب «عمدة القاري في شرح صحيح البخاري»:
«والجمرة اسم لمجتمع الحصى، سُمّيت بذلک لاجتماع الناس بها»(6).
وفي هذا الکلام تصريح کذلک بأنّ الجمرة هي موضع تجمّع الحصى.
7 ـ وورد في کتاب «الفقه على المذاهب الأربعة»:
«الحنابلة قالوا: ولو رمى حصاة، ووقعت خارج المرمى، ثمّ تدحرجت حتّى سقطت فيه أجزأته، وکذا إنْ رماها فوقعت على ثوب إنسان فسقطت في المرمى»(7).
عبارات فريق من فقهاء الشيعة في معنى الجمرة
1 ـ يقول السيّد أبو المکارم بن زُهرة في کتاب «الغُنية»:
«وإذا رمى حصاة، فوقعت في محمل، أو على ظهر بعير، ثمّ سقطت على الأرض أجزأت... کلّ ذلک بدليل الإجماع المشار إليه»(8).
2 ـ يقول العلاّمة الحلّي في کتاب «منتهى المطلب»:
«إذا رمى بحصاة فوقع على الأرض، ثمّ مرّت على سَنَنها(9)، أو أصابت شيئاً صُلباً کالمحمل وشبهه، ثمّ وقعت في المرمى بعد ذلک أجزأه; لأنّ وقوعها في المرمى بفعله ورميه»(10).
يومئ هذا التعبير إلى أنّ موضع الرمي کان منخفضاً قليلاً، فإذا ما وقعت قربه حصاة وتدحرجت حتّى سقطت فيه کان مجزياً. وهذا دليل على أنّه لم يکن في هذا الموضع عمود بعنوان «مرمى».
3 ـ جاء في کتاب فقه الرضا:
«فإنْ رَميتَ ووقَعَت في مَحمِل، وانحدَرَت منه إلى الأرض أجزأ عنک». وفي ذيله عن بعض النسخ: «وإنْ أصابت إنساناً أو جملاً، ثمّ وقعت على الأرض أجزأه»(11).
وسواء أکان فقه الرضا مجموعة روايات أم کتاباً فقهيّاً لأحد القدماء، (والواقع أنّ قرائن کثيرة في فقه الرضا تشير إلى أنّ هذا الکتاب کتاب فقهيّ لأحد کبار قدمائنا) فإنّ العبارة السابقة شاهد حيّ على مدّعانا أنّ الجمرات لم تکن أعمدة، بل کانت ذلک الجزء من الأرض.
4 ـ يقول العلاّمة في «التذکرة»:
«ولو رمى بحصاة، فوقعت على الأرض، ثمّ مرّت على سنَنَها أو أصابت شيئاً صُلباً کالمحمل وشبهه، ثمّ وقعت في المرمى بعد ذلک أجزأه; لأنّ وقوعها في المرمى بفعله ورميه... وأمّا لو وقعت الحصاة على ثوب إنسان فنفضها، فوقعت في المرمى، فإنّه لا يجزئه»(12).
لقد وردت في هذه العبارات تعبيرات مختلفة، بعضها صريح (مثل: وقعت على الأرض) وبعضها ظاهرة في المدّعى (مثل: وقعت في المرمى)، وهي تدلّ على أنّ المرمى هو الموضع من الأرض.
5 ـ يقول الشيخ الجليل الطوسي في کتابه القيّم «المبسوط»:
«فإنْ وقعت على مکان أعلى من الجمرة وتدحرجت إليها أجزأه»(13).
6 ـ يقول يحيى بن سعيد الحلّي في کتاب «الجامع للشرائع»:
«واجعل الجِمار على يمينک، ولا تقف على الجمرة»(14).
إذا کانت الجمرة العمود الخاصّ، فلا معنى للوقوف عليه; ذلک أنّ أحداً لا يقف على العمود. وهذا يدلّ على أنّ الجمرة هي الموضع من الأرض، الذي يتجمّع فيه الحصى، والذي يوقَف خارجه للرمي لا عليه.
7 ـ وصاحب الجواهر ممّن عنُوا بمعنى الجمرة، فأورد احتمالات عديدة. ويدلّ کلامه في آخر البحث على إجزاء رمي الحصى في موضع الجمرات، يقول:
«ثمّ المراد من الجمرة البناء المخصوص، أو موضعه إن لم يکن، کما في کشف اللثام. وسمّي بذلک لرميه بالحجارة الصغار المسمّـاة بالجِمار، أو من الجمرة بمعنى اجتماع القبيلة لاجتماع الحصاة عندها... وفي الدروس: أنّها اسم لموضع الرمي، وهو البناء أو موضعه ممّا يجتمع من الحصى. وقيل: هي مجتمع الحصى لا السائل منه. وصرّح عليّ بن بابويه بأنّه الأرض، ولا يخفى عليک ما فيه من الإجمال.
وفي المدارک ـ بعد حکاية ذلک عنه ـ قال: «وينبغي القطع باعتبار إصابة البناء مع وجوده; لأنّه المعروف الآن من لفظ الجمرة، ولعدم تيقّن الخروج من العهدة بدونه، أمّا مع زواله فالظاهر الاکتفاء بإصابة موضعه». وإليه يرجع ما سمعته من الدروس وکشف اللثام، إلاّ أنّه لا تقييد في الأوّل بالزوال، ولعلّه الوجه لاستبعاد توقّف الصدق عليه»(15).
من کلام صاحب الجواهر هذا، يمکن استخلاص نقطتين:
الاُولى: أنّه نفسه يميل إلى إجزاء کلٍّ من إصابة الأعمدة والأرض. وهذا يتوافق ومقصودنا من کفاية رمي الحصى في النُّقرة المحيطة بالعمود.
الثانية: يُفهم ممّا أورده عن صاحب المدارک أنّه يتمسّک لإصابة الحصى العمودَ بشيئين، أحدهما: أصل الاشتغال والاحتياط، والآخر أنّ المعروف من لفظ الجمرة في عصره هو العمود، ولکنْ کِلا الدليلين غير مُقنع، ذلک أنّ وجود الأعمدة في عصره، لا يعني وجودها في عصر المعصومين(عليهم السلام)، وتقتضي قاعدة الاحتياط هنا إصابة العمود، ووقوع الحصاة في موضع اجتماع الحصى. وبناءً على هذا لايجزئ أن يصيب کثير من الحصى العمودَ ثمّ ينزلق خارجاً، وهذا يولِّد مشکلة کبيرة أُخرى للحجّاج في مراعاة أن يصيب الحجرُ الموضعين، إضافةً إلى أنّ الرجوع إلى أصل الاحتياط إنّما يکون إذا لم يکن لدينا دليل على وجوب الرمي في مجتمع الحصى، في حين لدينا على هذا دليل کاف; ولا دليل لدينا على أنّ المراد من رمي الجمرات هو الأعمدة، بل إنّ الشواهد تبيّن بوضوح أنّ الأعمدة لم يکن لها في العصور السابقة من وجود، ولم يکن إلاّ هذا الموضع الذي تجتمع فيه الحصى.
إنّ هذه الفتاوى التي أوردنا نماذج متعدّدة منها إنّما تنادي بأعلى صوتها قائلة: إنّ الجمرة لم تکن على شکل عمود، بل کانت هذه النُّقرة هي التي يُرمى فيها الحصى.
ويُلاحظ في کلام مشاهير فقهاء العامّة والخاصّة وفرة تعابير مثل «على الجمرة» و«في الجمرة» و«في المرمى» ممّا يطول نقله. وفي هذه التعابير ما يؤيّد تأييداً جليّاً أنّ الجمرة لم تکن بمعنى العمود، کما صار في العصور المتأخّرة، بل إنّها هذه القطعة من الأرض التي يُرمى فيها الحصى، ذلک أنّ تعبير «في الجمرة» أو «على الجمرة» إنّما يناسب قطعة الأرض هذه، لا الأعمدة (فلاحِظ).
تذکرتان لازمتان
1 ـ يبدو أنّ بناء العمود الحاضر لم يکن له وجود مطلقاً في زمان قدماء الأصحاب; فإنّ عبارة «المبسوط»(16) تدلّ بوضوح على عدم وجوده. وما لدينا من کلام يحيى بن سعيد الحلّي في «الجامع للشرائع» يشهد أيضاً لهذا المعنى بجلاء، فإنّه يقول: «ولا تقف على الجمرة»(17).
ومن المتيقّن أن لو کانت الجمرة عموداً، لکان الوقوف عليه أمراً مضحکاً، بل إنّ المراد أن لا تقف على طرف النُّقرة أو على مجتمع الحصى; ذلک أنّ بعض الفقهاء يَرَون أنّه يمکن الوقوف في طرف منها ورمي الطرف الآخر، لکنّ بعضهم يَرَون هذا غير جائز.
ويستفاد من کلام صاحب «المدارک» أيضاً أنّه لم يکن يعتقد اعتقاداً قطعيّاً بوجود الأعمدة في الأزمنة السابقة، فإنّه يقول:
«وينبغي القطع باعتبار إصابة البناء مع وجوده، لأنّه المعروف الآن من لفظ الجمرة، ولعدم تيقّن الخروج من العهدة بدونه، أمّا مع زواله فالظاهر الاکتفاء بإصابة موضعه»(18)
ولعلّه أوّل من أفتى بهذه الفتوى.
وفي کلام بعض فقهاء السنّة أو الزيديّة (أي المتأخّرين منهم) إشارة کذلک إلى وجود العمود في زمانهم. منهم الإمام أحمد المرتضى من فقهاء الزيدية في القرن التاسع، الذي أشارت عبارة له إلى وجود العمود في زمانه، لکنّ الطريف أنّه يصرّح بأنّ بعض الفقهاء قالوا: لا يجزئ رمي الأعمدة بالحجر، ويجب أن يصيب موضع الجمرة (مجتمع الحصى). وهذه عبارته:
«فإنْ قَصَد إصابة البناء فقيل لا يجزي; لأنّه لم يقصد المرمى. والمرمى هو القرار لا البناء المنصوب»(19).
أجَل، إنّنا کلّما بحثنا في کلام فقهاء الشيعة والسنّة تأکّد وصولنا إلى هذه النتيجة، وهي أنّ موضع الرمي هو قطعة الأرض، وإنّما بُني العمود بعدئذ ليکون علامة.
2 ـ من اللاّزم الالتفات إلى هذه النقطة أيضاً، وهي أنّ طائفة من متأخّري الفقهاء يَعدّون رمي الموضع مجزياً، منهم الشهيد الأوّل في کتاب الدروس، حيث يقول:
«والجمرة اسم لموضع الرمي، وهو البناء أو موضعه ممّا يستجمع من الحصى. وقيل: هي مجتمع الحصى لا السائل منه. وصرّح عليّ بن بابويه بأنّه الأرض»(20).
ومنهم الفاضل الاصفهاني في کشف اللثام حيث يقول في تفسير «الجمرة»:
«هي المِيل المبنيّ، أو موضعه»(21).
ويقول الشهيد الثاني کذلک في شرح اللمعة لدى تعريفه الجمرة:
«وهي البناء المخصوص أو موضعه وما حوله ممّا يجتمع من الحصى، کذا عرّفه المصنّف في الدروس، وقيل: هي مجمع الحصى... وقيل: هي الأرض»(22).
وقد قرأنا في الأبحاث السابقة ما ورد في آخر کلام صاحب الجواهر أنّ هذا الفقيه الماهر کان يميل إلى إجزاء إصابة کلٍّ من الاثنين (الموضع والبناء)(23).
الجمرات في کتب اللغويّين
ذکرت النصوص اللغوية المعروفة المشهورة أربعة معان للجمرة:
1 ـ الجمرة في الأصل بمعنى اجتماع القبيلة، وسمّيت الجمرات بهذا; لأنّها موضع اجتماع الحصى.
2 ـ الجمرة بمعنى الحصاة، وقيل للجمرات جمرات; لأنّها موضع الحصى.
3 ـ الجمرة من «الجِمار» بمعنى «سرعة الابتعاد»; لأنّ آدم(عليه السلام)لمّا وجد إبليس في هذا الموضع رماه بحجر، فأسرع الشيطان بالابتعاد.
4 ـ الجمرة بمعنى القطعة الملتهبة من النار (وربّما هي إشارة إلى القطع الصغيرة التي تنقذف أحياناً من بين شعلة النار شبيهة بالحَصيات).
ونضع الآن أمام القرّاء الأعزّاء طرفاً من کلام اللغويّين:
أ ـ نقرأ في «المصباح المنير» للفيّومي المتوفّى سنة 770هـ :
«کلّ شيء جمعته فقد جمّرته. ومنه الجمرة، وهي مجتمع الحصى بمنى; فکلّ کومة من الحصى جمرة، والجمع جَمَرات».
ب ـ يقول الطريحي (المتوفّى سنة 1087هـ) في «مجمع البحرين»:
«الجمرات مجتمع الحصى بمنى; فکلّ کومة من الحصى جمرة، والجمع جمرات، وجمرات منى ثلاث».
«والجمرة اجتماع القبيلة الواحدة... ومن هذا قيل لمواضع الجمار التي تُرمى بمنى: جمرات; لأنّ کلّ مجمع حصى منها جمرة، وهي ثلاث جمرات».
د ـ يقول ابن الأثير (المتوفّى سنة 606هـ ) في «النهاية»:
«الجمار هي الأحجار الصغار، ومنه سمّيت جمار الحجّ للحصى التي يُرمى بها. وأمّا موضع الجمار بمنى فسمّي جمرة لأنّها تُرمى بالجمار. وقيل: لأنّها مجمع الحصى التي يُرمى بها».
هـ ـ يقول الزبيدي (المتوفّى سنة 1205هـ ) في «تاج العروس في شرح القاموس»:
«وجمار المناسک وجمراتها: الحصيات التي يُرمى بها في مکّة... وموضع الجمار بمنى سمّي جمرة لأنّها تُرمى بالجمار، وقيل: لأنّها مجمع الحصى».
يستفاد من مُجمل الکلام السابق، ومن عبارات طائفة أخرى من اللغويّين أنّ الجمرات إنّما سمّيت الجمرات; لأنّها موضع اجتماع الحصى، أو لاجتماع الجِمار فيها. ولم يعتبروا الجمرة بمعنى العمود کما رأينا، بل بمعنى الأرض التي يجتمع فيها الحصى.
وهذه العبارات والکلمات ـ إضافةً إلى دلالتها على أنّ العمود لم يکن مبنيّاً في عصور کثير منهم ـ تدلّ على أنّ مجتمع الحصى هو الوجه في تسمية الجمرات وفي جذرها اللغويّ.
ومن اللاّزم هنا التذکير أنّ «الجمرات» يقيناً ليست من الألفاظ التي لها حقيقة شرعية أو متشرّعة، وعلى هذا ينبغي الرجوع في فهم معناها إلى کتب اللغة، وأنّ إطلاقها على المواضع الثلاثة، إنّما هو من قبيل إطلاق الکلّي على الفرد، ثمّ صارت هذه الکلمة بالتدريج علماً لهذه المواضع.
متى بُنيَت هذه الأعمدة؟
إنّه سؤال مهمّ قلّما أُجيب عنه، وربّما لم يمکن العثور على جواب دقيق عنه. ولکنّ القرائن الکثيرة، التي تستفاد من کلمات فقهاء الشيعة والسنّة، وکذلک من کلام اللغويّين، تشير إلى أنّ هذه الأعمدة لم تکن موجودة في عصر رسول الله(صلى الله عليه وآله) والأئمّة(عليهم السلام)وقدماء الأصحاب، ثمّ وُجِدت في العصور التالية. ويُحتمل احتمالاً قويّاً أنّ بناءها من أجل أن تکون علامة على هذا الموضع، ثمّ تُصوِّر بالتدريج أنّ الأعمدة هي التي تُرمى، وراح هذا التصوّر يقوى بمرور الزمان.
وقد جاء في کلمات کثير من الفقهاء ـ کما رأينا في البحوث المتقدّمة ـ أنّ الرمي يجب أن يکون للأرض، وفي العصور المتأخِّرة، قال بعضهم بالتخيير بين رمي العمود ورمي الأرض، حتّى وصل الأمر ببعضهم أن جعل رمي العمود هو المتعيّن!
شهادة الروايات
لقد وردت روايات رمي الجمرات في کتاب «وسائل الشيعة» على قسمين:
الأوّل: في أبواب «رمي جمرة العقبة»، إذ ذُکرت في ضمن سبعة عشر باباً روايات وفيرة حول أحکام الجمرات، ولکن لا نجد في أيّ منها تفسيراً وتوضيحاً للجمرة، وهل هي العمود، أم مجتمع الحصى؟
ثمّ ذُکرت من جديد أحاديث أخرى کثيرة بعد أبواب الذبح والتقصير، تحت عنوان «أبواب العَود إلى منى ورمي الجمار...» تتحدّث في ضمن سبعة أبواب عن رمي الجمرات الثلاث بعنوان أعمال اليوم الحادي عشر والثاني عشر من ذي الحجّة، ولا نجد في أيّ من هذه الروايات أيضاً کلاماً حول تفسير الجمرات.
ولکنّ الدراسة الدقيقة لمجموع هذه الأبواب الأربعة والعشرين قد بيّنت أنّ في روايات متعدّدة منها إشارات ذات دلالة على ما ذهبنا إليه من کون الجمرة هي موضع الحصى.
لاحظوا هذه الروايات السبع:
1 ـ نقرأ في حديث معتبر عن معاوية بن عمّار عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال:
«فإنْ رَمَيتَ بِحَصاة فَوَقَعَتْ في مَحمِل فأعِدْ مکانَها، وإنْ أصابت إنساناً أو جَمَلاً ثمّ وَقَعتْ على الجِمارِ أجزأک»(24).
وتعبير «على الجمار» يشير إلى أنّ الجمرة هي قطعة الأرض التي تقع فيها الحصيات. ولنتذکَّر هنا أنّ کثيراً من أرباب اللغة قد فسّروا «الجمار» بصغار الأحجار.
منهم ابن الأثير في «النهاية» حيث يقول: «الجمار هي الأحجار الصغار».
ويقول الفيّومي في «المصباح المنير»: «والجمار هي الحجارة».
ويقول ابن منظور في «لسان العرب»: «الجمرات والجِمار الحصيات التي ترمي بها في مکّة».
وبناءً على هذا، فإنّ وقوع الحجر على الجمار يعني وقوعه على الحصى، وهذا مُجز طبق الروايات.
إضافةً إلى هذا أنّ الحجر الذي يقع على بدن الإنسان، أو على جمل ليست له في رجوعه القوّة الکافية، لأن تجعله يصيب الأعمدة (على فرض وجودها)، وأکثر ما يمکن أنّه يقع على الحصى.
2 ـ نقرأ في حديث البزنطي (أحمد بن محمّد بن أبي نصر) عن أبي الحسن (عليّ بن موسى الرضا(عليه السلام)):
«واجْعَلْهُنَّ عَلَى يَمينِکَ کُلَّهُنَّ، ولا تَرْمِ عَلى الجَمْرَةَ»(25).
وهذا الحديث يدلّ دلالة بيِّنة على أنّ الجمرة هي موضع الحصى، ذلک أنّ بعضهم يقف على جانب منه ويرمي الجانب الآخر. والإمام(عليه السلام)ينهى عن هذا العمل، وإلاّ فإنّ أحداً لا يقف على العمود عند رمي الجمرة.
وقد مرّ بنا هذا المعنى أيضاً لدى ذکر کلام فقهاء العامّة في البحث السابق، حيث يقول بعضهم: لا يجوز الوقوف على الجمرة.
3 ـ نقرأ في حديث معتبر آخر، عن معاوية بن عمّار، عن الإمام الصادق(عليه السلام)أنّه قال:
«خُذْ حَصَى الجِمارِ ثمّ ائْتِ الجَمْرَةَ القُصوى التي عندَ العَقَبَة فارْمِها مِن قِبَلِ وَجهِها، ولا تَرْمِها مِن أعلاها»(26).
يدلّ هذا التعبير وتعابير الفقهاء على أنّ جمرة العقبة قطعة أرض أحد جانبيها أعلى من الآخر، وبعبارة أُخرى أنّ أحد جانبيها واد، وجانبها الآخر تلّة. وقد أُمِر أن يُرمى من جانب الوادي الذي هو في الواقع مستدبر لمکّة لا من جانب التلّة (لأنّه يستفاد من روايات أخرى أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) قد فعل ذلک).
وإذا کانت الجمرة بمعنى العمود فإنّ جملة «ولاَ تَرْمِها مِنْ أعلاها» تکون بلا معنى; لأنّ أحداً لايصعد إلى أعلى العمود للرمي.
4 ـ جاء في کتاب فقه الرضا(عليه السلام):
«وإن رَمَيتَ ودَفَعتَ في مَحمِل وانحَدَرتْ منهُ إلى الأرض أجزأتْ عنک».
وفي نسخة أُخرى: «إنْ أصابَ إنساناً ثمَّ أو جَمَلاً ثُمّ وقَعَت على الأرض أجزأه»(27).
ومن الواضح جليّاً أنّ المراد بهذه العبارة التدحرج والوقوع في أرض موضع الرمي، وعلى هذا لا يبدو موجّهاً إشکال صاحب الجواهر حين قال: «والحديث مبهم».
5 ـ جاء في حديث آخر في فقه الرضا حول کيفيّة رمي الجمرة:
«وتَرمي مِن قِبَل وَجهِها، ولا تَرْمِها مِن أعلاها...»(28).
إذا کانت الجمرة بمعنى العمود، فلا معنى لأن يصعد عليه أحد ثمّ يرميه، إنّما مفهومه ـ بقرينة قوله: «تَرمي مِن قِبل وَجهِها ولا تَرمها مِن أعلاها» ـ هو أنّ هذه القطعة من الأرض کانت ـ کما قلنا ـ في مُنحدَر، ويستحبّ أن ترمى من جانبها الأسفل، لا من جانبها الأعلى، کما نُقل عن فعل النبيّ(صلى الله عليه وآله).
سؤال: إذا قيل: ربّما کان المراد لا تَرم أعلى العمود وارمِ أسفله.. فماذا تقولون؟
نقول في الجواب:
أوّلاً: إذا کان هو المراد، فإنّ العبارة ينبغي أن تکون: «ولا تَرْمِ أعلاها» وليس «ولا تَرْمِ مِن أعلاها» (فلاحِظ).
ثانياً: أنّ المقابلة بين «تَرمي مِن قِبَل وَجهِها» و«ولا تَرْمِها مِن أعلاها» دليل واضح على أنّ المراد تلک القطعة من الأرض، التي هي منخفضة من جانب ومرتفعة من جانب آخر، أي: ارمِ من الجانب المنخفض (الوادي)، لا من الجانب المرتفع. وسواء أکان فقه الرضا حديثاً أم فتوى، فإنّه شاهدٌ حَسَن على هذا المدّعى.
6 ـ وفي کتاب «دعائم الإسلام» حديث عن الإمام الصادق(عليه السلام) شبيه بهذا المعنى، قال: وهذا التعبير يشير أيضاً إلى أنّ الجمرة هي قطعة الأرض، التي أحد جانبيها أکثر ارتفاعاً. وفي هذه الرواية نهي عن الرمي من هذا الجانب، وإلاّ فإنّ أحداً لايقف على العمود.
7 ـ في سنن البيهقي عن عبدالله بن يزيد أنّه قال: کنت مع عبدالله بن مسعود، فأتى جمرة العقبة فاستبطَنَ الوادي فرماها من بطن الوادي، فقلت له:
«الناس يرمونها من فوقها»، فقال: هذا ـ والذي لاإله غيره ـ مقام الذي أُنزلت عليه سورة البقرة(29). يعني أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) رماها من أسفلها، وما وقف في أعلى الجمرة.
وثمّة حديث ربّما يُظنّ أنّه يشير إلى وجود عمود للجمرات:
«عن أبي غَسّان حُمَيد بن مسعود، قال: سألتُ أبا عبدالله(عليه السلام)عن رَمْي الجِمار على غير طهور، قال: الجِمار عندنا مِثل الصَّفا والمَروَةِ: حِيطان إن طُفْتَ بينهما على غير طهور لم يَضُرَّکَ، والطُّهر أحبُّ إليّ، فلا تَدَعْهُ وأنتَ قادرٌ عليه»(30).
فقد استفاد بعض الفقهاء المتأخّرين من أنّ الحيطان (جمع حائط بمعنى الجدار) تشير إلى وجود جدار هناک، وهذا الجدار من المحتمل أنّه أعمدة الجمرات.
ولکنّ هذا الاستدلال قابل للمناقشة من عدّة جهات، لأنّه:
أوّلاً: سند الحديث ضعيف، فإنّ حُميد بن مسعود من المجاهيل، وبناءً على هذا، فإنّ هذا الحديث ـ وهو خبر واحد ضعيف ـ لا يمکن أن يُثبت شيئاً، فيما کانت الروايات السابقة متظافرة، إضافةً إلى أنّ بينها حديثاً صحيحاً ومعتبراً أيضاً.
ثانياً: إذا لم يکن هذا الحديث ـ من حيث الدلالة أيضاً ـ لا يدلّ على خلاف مطلوبهم، فإنّه ليس على وفق مطلوبهم; لسببين:
1 ـ إنّ «حيطان» جمع «حائط» بمعنى جدار، يحوط شيئاً ما. وهذه الکلمة مشتقّة من مادّة «حوط» و«إحاطة»، ومن يقال للبستان المحاط بجدار: حائط.
يقول ابن منظور في «لسان العرب»: «والحائط: الجدار، لأنّه يحوط ما فيه، والجمع حيطان».
واللافت أنّ المعنى الأصلي لـ «حوط» حياطة الشيء وحفظه، ويقال للجدران التي حول الشيء حائط; لأنّه يحوطه ويحفظه.
وعلى هذا لا معنى لأن يسمّى عمود شبيه بعمود الجمرات الحالي حائطاً. وإذا کان ثمّة حائط فهو جدار شبيه الجدار الحالي لنقرة الجمرات، الذي بُني حول قطعة من الأرض مخصوصة، وليس له من ارتباط بالعمود (فلاحِظْ).
2 ـ إنّ النسبة بالصفا والمروة يعطي هنا معنىً خاصّاً، وذلک أنّ الصفا والمروة جبلان أحدهما أعلى قليلاً من الآخر، وليس حولهما حيطان. ولو کان ثمّة حائط، فما وجه ارتباطه بمسألة الوضوء حتّى قال: إنّهما (الصفا والمروة والجمرات) حيطان فلا حاجة إلى طهور؟
تصوّرنا أنّ المراد من الحديث ا لآنف الذکر أنّ الصفا والمروة ساحة عاديّة مثل الجمرات، ليس لها حکم الکعبة والمسجد الحرام حيث يجب الوضوء للطواف، ويستحبّ لدخول المسجد.
وبناءً على هذا لا دلالة في الحديث المذکور على وجود عمود في الجمرات، إذا لم يدلّ على خلاف ذلک. إضافةً إلى هذا، فإنّ هذا الحديث ـ کما قلنا سابقاً ـ حديث ضعيف لا يُثبت شيئاً.
نتيجة البحث الروائي
على الرغم من أنّ کلّ الروايات، التي ذکرناها فيما سبق، لم يرد فيها کلام عن ماهيّة «الجمرة»، لکن يمکن حصول الاطمئنان ـ من خلال تعابيرها ـ إلى أنّه لم يکن في هذه القطعة من الأرض المحدّدة في منى خلال عصر النبيّ(صلى الله عليه وآله)وأئمّة أهل البيت(عليهم السلام)، غير موضع اجتماع الحصى، واستمرّ الوضع أيضاً على هذه الحال في زمان الفقهاء القدامى من الفريقين.
وبعبارة أخرى: لم يکن في منى عمود بعنوان الجمرة تُرمى بالحجر، بل إنّ الحجيج کانوا يرمون هذا الموضع المبنيّ الآن حول الجمرات بشکل حوض صغير بالحجر.
ملاحظة
يستفاد من التواريخ المعروفة، مثل تاريخ «مروج الذهب للمسعودي» و«الکامل لابن الأثير» أنّهم کانوا في الجاهلية يرجمون قبر بعض الأفراد المنبوذين الخونة.
يقول المسعودي في مروج الذهب: عندما سار أبرهة بأصحاب الفيل إلى مکّة لإخراب الکعبة... فعَدَل إلى الطائف، فبعثت معه ثَقيف بأبي رُغال; ليدلّه على الطريق السهل إلى مکّة، فهلک أبو رغال في الطريق بموضع يقال له المُغَمَّس بين الطائف ومکّة، فَرُجم قبره بعد ذلک، والعرب تتمثّل بذلک. وفي ذلک يقول جرير ابن الخطفي في الفرزدق:
إذا ماتَ الفرزدقَ فارجُموهُ کما تَرمُونَ قبرَ أبي رُغالِ
ويقول هذا المؤرّخ في رواية اُخرى: وقيل: إنّ أبا رُغال وَجَّهه صالح النبيّ على صدقات الأموال، فخالَفَ أمرَه وأساء ا لسيرة، فوثب عليه ثقيف ـ وهو قَسِّي بن منبه ـ فقتله قتلةً شنيعة... وفي ذلک يقول مسکين الدارمي:
وارجمُ قبرَهُ في کلِّ عام کرجمِ الناسِ قبرَ أبي رُغالِ(31)
ومن المحتمل أنّهما اثنان، کان أحدهما في زمن أبرهة والآخر في زمن النبيّ صالح(عليه السلام).
وينقل ابن الأثير في «الکامل» قصّة أبرهة وأبي رغال، فيقول بعد ذکر موته في «المُغمَّس»:
«فرَجَمت العربُ قبره، فهو القبر الذي يُرجَم»(32).
وجاء في سفينة البحار (مادّة; لَهَبَ) عند ذکر قصّة أبي لهب، لمّا مات أبو لهب بقي جسده ثلاثة أيّام حتّى أنتن في بيته، ثمّ دفنوه بأعلى مکّة (في طريق العمرة) وقذفوا عليه الحجارة حتّى واروه، وبعد انتشار الإسلام کان قبره يُرمى بالحجر.
يُستفاد من هذه العبارات أنّ العرب قبل الإسلام وبعده کانوا يرمون قبور المنبوذين، ولعلّه قد اُخذ من رمي الجمرات. ولم يُذکر في هذه التواريخ أنّهم قد اتّخذوا أعمدة لهذه القبور يرمونها، ولو کان للجمرات عمود في ذلک الزمان، لکان المناسب أن يکون تقليد العرب على هذه الصورة. ولا نريد أن نطرح هذا المطلب بعنوان دليل، بل إنّه يُعدّ مؤيّداً وحسب.
النتيجة النهائية للبحث
من مجموع ما سبق يمکن استخلاص هذه النتيجة:
1 ـ لا دليل، في نظر الفقه الإسلامي ـ شيعيّاً وسنيّاً ـ على لزوم إصابة الحصى الأعمدة، بل إنّ إجزاء رمي الأعمدة فيما لو لم تقع الحصيات في الدائرة التي تحفّ بالأعمدة، محلّ تأمّل (فلاحِظْ). والمسلّم إجزاء رمي الحصى في الدائرة المحيطة بالأعمدة.
2 ـ بناءً على ما تقدّم لا ينبغي للحجّاج المحترمين أن يشقّوا على أنفسهم متلقّين مخاطر شتّى في رمي الأعمدة، بل يمکن بسهولة ويُسر رمي الحصيات السبع الصغار في الدائرة المحيطة بالعمود، ثمّ يغادرون المکان على الفور فاسحين المجال أمام الآخرين.
3 ـ إذا أصابت الحصاة العمود ووقعت عند أسفله أجزأ، لکن لا لزوم لتحمّل هذه المشقّة.
4 ـ متى کان الرمي من الطابق الأعلى وقُذفت الحصاة في الحوض الصغير الموجود في الطابق الأعلى أجزأ; لأنّ هذه الأحواض الصغيرة العُليا قد بُنيت بشکل قمع تنزل منه الحصيات إلى الأحواض السُّفلى.
5 ـ جدير بالباحثين الإسلاميّين أن يدرسوا هذه المسألة. ومتى اتّفق علماء الشيعة الأعلام وکبار أهل السنّة على هذه المسألة بعد البحث، فإنّه ستُحلّ إن شاءالله إحدى مشکلات الحجّ الکبيرة التي تسبّب ازدحاماً متزايداً، وتؤدّي في أحيان کثيرة إلى هلاک أو جرح عدد کبير من الحجّاج الأعزّاء، وفي الوقت نفسه سيکون عملهم هذا موافقاً لأعمال رسول الله وأئمّة الهدى(عليهم السلام).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. کتاب الأمّ 2: 213، نشر مکتبة الکليّات الأزهرية، الطبعة الأولى 1381هـ.
2. المدوّنة الکبرى 1: 325، دار الفکر 1411هـ.
3. روضة الطالبين 3: 115، الطبعة الثالثة، 1412هـ.
4. المجموع 8: 175، مکتبة الإرشاد، جدّة.
5. الذخيرة 3: 276.
6. عمدة القاري في شرح صحيح البخاري 10: 9.
7. الفقه على المذاهب الأربعة 1: 667.
8. الغنية، قسم الفروع، ص189.
9. السَّنَن (على وزن البَدَن) بمعنى الطريق. و«امضِ على سنَنَک» يعني امضِ في طريقک، وعلى هذا يکون معنى الجملة: وقعت الحصاة على الأرض ومضت في طريقها وسقطت في الجمرة.
10. منتهى المطلب 2: 731، الطبعة القديمة.
11. مستدرک الوسائل، ج10، أبواب رمي جمرة العقبة، باب6، حديث 1.
12. التذکرة 8: 221.
13. المبسوط 1: 369 و370.
14. الجامع للشرائع: 210.
15. جواهر الکلام 19: 106.
16. المبسوط 1 : 369 ـ 370 .
17. الجامع للشرائع: 210.
18. المدارک 8: 9.
19. شرح الأزهار 2: 122.
20. الدروس 1: 428، الطبعة الجديدة.
21. کشف اللثام 6: 114.
22. شرح اللمعة.
23. مصدر سابق.
24. الوسائل، ج10، أبواب رمي جمرة العقبة، باب 6، حديث 1.
25. الوسائل، ج10، أبواب رمي جمرة العقبة، باب 10، حديث 3.
26. الوسائل، ج10، أبواب رمي جمرة العقبة، باب 3، حديث 1.
27. المستدرک، ج10، أبواب رمي جمرة العقبة، باب 6، حديث 1. وفي المصدر: وإن رميت ودفعت.
28. المستدرک، ج10، أبواب رمي جمرة العقبة، باب 3، ح1.
29. السنن الکبرى للبيهقي 5: 129.
30. الوسائل، ج10، أبواب رمي جمرة العقبة، باب 2، حديث 5.
31. مروج الذهب 2: 78، ذکر اليمن وملوکها.
32. الکامل في التاريخ 1: 284، ذکر أمر الفيل.