الجواب الاجمالي:
لیس هناک ما یدل في الحدیث على عدم جواز البناء على القبور، بل السیرة العملیة للمسلمین على خلافه کما عرفت.
وحتى لو فرضنا أنّ المراد من التسویة هو تخریب القباب والأبنیة المقامة على القبور، فمن المحتمل جدّاً أن یکون المراد هو قبور المشرکین المقدّسین- آنذاک- من قبل الوثنیین وأهل الشرک،
الجواب التفصيلي:
ما اتّخذه الوهابیون ذریعة لهدم القبور هو ما رواه مسلم فی صحیحه إذ قال: حدثنا یحیى بن یحیى وأبو بکر بن أبی شیبة وزهیر بن حرب، قال یحیى: أخبرنا، وقال الآخران: حدّثنا وکیع عن سفیان، عن حبیب بن أبی ثابت، عن أبی وائل، عن أبی الهیّاج الأسدی قال: قال لی علیّ بن أبی طالب: أ لا أبعثک على ما بعثنی علیه رسول اللَّه صلى الله علیه وآله وسلم أن لا تدع تمثالًا إلّا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلّا سوّیته»[1].
فقد استدل الوهابیون بقوله صلى الله علیه وآله وسلم: «و لا قبراً مشرفاً إلّا سوَّیته» على لزوم هدم القبور وتسویتها بالأرض.
بید أنّ الاستدلال بالحدیث المذکور یتوقف على أمرین:
1- أن یکون السند صحیحاً ورواته موثوق بهم.
2- دلالة الحدیث على المراد.
و لکن الحدیث مخدوش من جانبین:
أمّا السند ففیه أشخاص لا یصح الاحتجاج بأحادیثهم وهم عبارة عن:
1- وکیع.
2- سفیان الثوری.
3- حبیب بن أبی ثابت.
4- الوائل الأسدی.
و أما وکیع فقد قال الإمام أحمد بن حنبل عنه أنّه «أخطأ فی خمسمائة حدیث».
کما نقل عن محمد بن المروزی أنّه (أی وکیع) کان یحدّث بالمعنى ولم یکن من أهل اللسان أی لم یرو الأحادیث بنصوصها وألفاظها کما أنّه لم یکن عارفاً باللغة العربیة.
وأمّا سفیان الثوری فقد نقل عن ابن مبارک أنّه قال: حدّث سفیانُ بحدیث فجئته وهو یدلّسه فلمّا رآنی استحیا.
وقد نقل فی ترجمة یحیى بن القطان عنه أنّه قال کان سفیان یحاول أن یوثق لی شخصاً غیر ثقة فلم یستطع.
وأمّا حبیب بن أبی ثابت فقد نقل عن أبی حبان أنّه: کان مدلساً[2]
کما نقل عن عطا أنّه قال عنه: لا یتابع علیه ولیست محفوظة[3]
وأما وائل فیقال عنه أنّه کان مبغضاً لعلی علیه السلام.
هذا حال السند.
و أمّا الأمر الثانی (أعنی دلالة الحدیث) فلا بدّ من الدقة فی اللفظتین الواردتین فیه وهما «مشرفاً» و«سوَّیته».
أمّا المشرف فالمراد منه هو المکان العالی المطلّ على غیره[4]
وقد جاء فی القاموس: الشرف- محرّکةً-: العلوّ، ومن البعیر سنامه[5]
وأمّا التسویة فیراد منها تسویة المعوج یقال سوّى الشیء: جعله سویاً، ویقال: سویت المعوج فما استوى: صنعه مستویاً.
وجاء فی القرآن الکریم: «الَّذِی خَلَقَ فَسَوَّى» (الأعلى- 2)
وعلى ذلک فمن القریب أن یکون معنى سوّیته تسویة القبر بتسطیح سنامها لا هدم القبر من أساسه. وهذا هو مذهب جماعة منهم الشافعی؛ حیث جاء فی کتاب الفقه على المذاهب الأربعة: «و یندب ارتفاع التراب فوق القبر بقدر شبر»[6] وجاء أیضاً: ویجعل کسنام البعیر، وقال الشافعی: جعل التراب مستویاً أفضل من تسنیمه[7]
فهذا الحدیث یؤید مذهب الشافعی وعلیه الشیعة الإمامیة أیضاً.
ومن الجدیر بالانتباه أنّ مسلم صاحب الصحیح أورد هذا الحدیث تحت عنوان «باب الأمر بتسویة القبر» لا تحت عنوان «الأمر بتخریب القبور وهدمها»[8]
ویؤید ذلک أنّ مسلم نقل فی صحیحه ما یؤید ما استظهرناه من الحدیث المذکور من المعنى. قال- بعد ذکر جملة من الرواة-: قال ثمامة بن شُفیّ: کنّا مع فضالة بن عبید بأرض الروم برودِسَ فتوفی صاحب لنا فأمر فضالة بن عبید بقبره فسوی ثمّ قال: سمعت رسول اللَّه یأمر بتسویتها.
ولا شک أنّ المراد من التسویة لیس جعلها والأرض سواء، لأنّ ذلک خلاف السنّة القطعیة التی تقضی بأن یرتفع القبر عن الأرض بشبر واحد، فیکون المراد أن یسطح سنامها، ولهذا جاء فی عبارة النووی عند تفسیر الحدیث المذکور فی صحیح مسلم «و لا یُسَنَّم بل یُرفَع نحو شبر ویسطَّح»[9]
ولم ننفرد نحن بهذا التفسیر للحدیث بل ذهب إلیه ابن حجر القسطلانی فی کتابه «إرشاد الساری فی شرح صحیح البخاری»[10] إذ قال- بعد أن ذکر أنّ السنّة هی تسطیح القبر وأنّه لا ینبغی ترک التسطیح مخالفة للشیعة-: «لأنّه لم یُرِدْ تسویتَه بالأرض وإنّما أراد تسطیحه جمعاً بین الأخبار».
وأخیراً لم یرد فی حدیثه صلى الله علیه وآله وسلم بل قال: «و لا قبراً إلّا سویته ولا بناءً مبنیاً على القبر ولا قبّة إلّا سویتها»، فإذن المراد لیس إلّا ما ذکرناه من عدم جعل نفس القبر مسنّماً، وأمّا البناء فوق القبر فلیس بمقصود ولیس هناک ما یدل من الحدیث على عدم جواز البناء على القبور، بل السیرة العملیة للمسلمین على خلافه کما عرفت.
وحتى لو فرضنا أنّ المراد من التسویة هو تخریب القباب والأبنیة المقامة على القبور، فمن المحتمل جدّاً أن یکون المراد هو قبور المشرکین المقدّسین- آنذاک- من قبل الوثنیین وأهل الشرک، إذ کانت تلک القبور بعد ظهور الإسلام متروکة على حالها، ویؤید هذا أنّ النبی صلى الله علیه وآله وسلم بعث علیّاً علیه السلام لمحو الصور وهدم التماثیل الموجودة فی أطراف المدینة أو غیرها، ولیست هذه التماثیل والصور، إلّا الأصنام والأوثان التی کانت تعبد حتى بعد ظهور الإسلام.
وعلى هذا فأیّ ارتباط لهذا الحدیث بقبور الأنبیاء والأولیاء والصالحین؟[11]
لا يوجد تعليق