والنقطة المهمّة التی تؤدّی الغفلة عنها إلى الندم، هی التنوع المتزاید

وغیر العادی فی أشکال الاستعمار وهذه هی الحرباء، فتارة یظهر بمظهر الابداع والحداثة!

وأخرى بمظهر الثقافة والعلم.

و أخرى بمظهر الدین والعقیدة.

و أخرى بمظهر التحرر وحقوق الإنسان!

و أخرى بمظهر تقدیم المنح الاقتصادیة.

و أخرى بمظهر المبشرین وتارکی الدنیا!

و أخرى بمظهر المساعدات الطبیة والصحیة وبناء المستشفیات والمکتبات.

و أخرى بمظهر تبادل الطلبة والأساتذة والبعثات والزمالات.

و أخرى بمظهر تطویر الصناعة الخفیفة والثقیلة.

و أخرى بمظهر المعارض الدولیة.

و أخرى بمظهر مؤسسات المنظمات الدولیة.

و خلاصة الأمر فالاستعمار یظهر فی أی لحظة بشکل یختلف عن السابق. فیبرز تارة ویستتر أخرى، ویرتدی ثوباً أحیاناً ویخلعه أحیاناً أخرى

و لا تکمن الأهمیّة فی هذا الأمر، وإنّما فی ضرورة التعرف علیه وعلى خصوصیاته فی أی مظهر أو شکل، فنقف بوجهه، ولا یحصل ذلک إلاّ إذا وقفنا على خصوصیات هذا البلاء.

قد تقولون إنّه عمل شاق وصعب، ولکنه لیس کذلک والسبب هو: أنّ الاستعمار یمکن التعرف علیه من خلال الخصوصیات الثلاث التالیة.

1- تسمیم الأفکار

إنّ «المخ» هو أول طعام یسیل له لعاب «أفعى الضحاک الاستعماریة»(1)وخاصة عقول الشباب والأحداث! وهو ما تقوم به دائماً وکل یوم.

و على هذا الأساس فأیما حدیث تسمعونه عن تخدیر العقول وعن قضایا ترتبط بشکل مباشر أو غیر مباشر بتعطیل العقول المفکرة والواعیة وغسل الأدمغة، فاعلموا أنّ وراء ذلک الاستعمار خفیة أو علانیة.

فإنّ أولى المهمات التی یقوم بها الاستعمار لتنفیذ خططه، قتل «الفکر» و«العقیدة» ویکون تنفیذ هذه المهمة إمّا عن طریق تفریغ الثقافة الاجتماعیة من محتواها، وإمّا من خلال جذب الأنظار نحو مسائل هامشیة والابتعاد بالمجتمع عن أصل الحیاة الحقیقیة، وبالتالی تغییر «القیم» ومسخها، حتى یصل الأمر إلى وقوع المجتمع فی أخطاء عندما یرید تشخیص ما هو حق مسلّم وما هو باعث للفخر والاستقلال والحریة، وتقبّله لأشیاء أخرى فاقدة لأیة قیمة حقیقیة مکانها.

و لهذا لا نجد مکاناً للمفکرین الصلحاء والحقیقیین فی المجتمعات المستعمرة، فهؤلاء یقبعون فی الزنزانات أو یعیشون منسیین فی الزوایا لا یرتفع لهم صوت وکأنّهم موتى، بینما یأتی الذین یتقمصون الفکر والشخصیات الکاذبة والفارغة لتأخذ مکاناً مرموقاً فی إدارة دفّة المجتمع، وتتناقل الألسن ذکرها، وتعکس وسائل الإعلام السمعیة والبصریة والصحف حرکاتها.

أحیاناً یدور فی ذهنی ما آل إلیه مصیر هؤلاء أبطال العهد البائد، ومفکری البلاط وفنانی الشاهنشاه، أولئک الذین کان الناس یصبحون ویمسون برؤیتهم.

لقد ذهب اُولئک إلى نفس المصیر الذی ذهب إلیه مشاهیر عصر الجاهلیة بعد ظهور الإسلام «إلى مکان رمی العربی للرمح».(2)

2- ایجاد التبعیة

الخاصیة الثانیة للاستعمار «تقویة» و«توسیع» التبعیة سواء فی المجالات الصناعیة والزراعیة وتربیة الماشیة، أو فی عالم السیاسة وإثارة التیارات السیاسیة وخلق العملاء.

فأینما توجد التبعیة السیاسیة والصناعیة والثقافیة والعسکریة وبالتالی الحیاة التبعیة فثم شیطان الاستعمار الکبیر، سواء کانت هذه التبعیة مرئیة أم مخفیة، وهناک یتطلب الأمر الحدیث عن إزالة التبعیة وطرد هذا «الشیطان الرجیم» بالتوکل على الله.

3- العزف على وتر النفاق

أمّا الصفة المهمّة الثالثة التی یمکن من خلالها معرفة الاستعمار مهما کان المظهر الذی بدا فیه، هی دعوته للتفرقة والاختلاف والتضاد والتمایز الطبقی، وأی شیء یؤدّی إلى الانشقاق بین الأمّة وإیجاد التناحر بین فئاتها.

و هنا تسکب عبرات الاستعمار حین الحدیث عن الوحدة والتقارب وإزالة الحواجز والفوارق وتعمیق أواصر المحبة والأخوّة.

و أعتقد أنّ بالإمکان التعرّف على هذا الشیطان المتلوّن بسهولة من خلال العلامات الثلاث السابقة، بغض النظر عن العلامات الأخرى، رغم الأقنعة التی یتستر بها وبالتالی یمکن کشف عناصره وأعوانه فی الأمّة.

کما یمکننا التعرف على أنّ القائد الذی یتحدث دائماً عن «التحلی بالیقظة» ویعمل دائماً على إزالة التبعیة، ویدعو الأمّة إلى وحدة الکلمة هو قائد مناهض للاستعمار.

أمّا أولئک یسوقون ثقافتنا نحو الفساد والابتذال وافراغها من محتواها، وتبدیل مراکز العلم الکبرى بمیادین یتسابق فیها الأفراد للحصول على الشهادات التی لا تدل إلاّ على خزن مجموعة من المعادلات فی العقول ویمنعون طلبة الجامعة من أی نشاط سیاسی واجتماعی بنّاء مستفیدین فی ذلک من حضور حرسهم وقواهم المسلحة، ویعقدون الاتفاقیات والمعاهدات التی تؤدّی بنا إلى المزید من التبعیة لناهبی الثروات ویعملون على تقویة أغلال التبعیة عاماً بعد آخر، ویحاولون. فصل الجامعة عن المسجد، والمسجد عن الجامعة، وفصل الشباب عن الکبار، وایجاد الفرقة بین الفئات المختلفة، ودمروا بقواهم الشیطانیة کل مجتمع یؤمل فیه السیر نحو الوحدة والتماسک، فاُولئک هم عملاء الاستعمار وأیادیه، ونحمد الله على خلاصنا من شرّهم.

ولکن علیکم بالحذر من هذه الأفاعی الجریحة، فانّها لم تمت، بل إنّها تقوم بتبدیل جلدها دائماً، علیکم بالالتفات إلى الخصائص المذکورة، ثم اجعلوها محکاً لتمییز الأفراد والوقائع حذار من اللجوء إلى قناع آخر.

1. أفعى الضحاک اصطلاح فارسی یشیر إلى أسطورة أحد السلاطین الظلمة باسم الضحاک الذی کان من شدة ظلمه أن خرج من أعلى کتفیه أفعیان (المترجم).

2. مثل ایرانی معناه أنّه ذهب بعیداً.