حینما تشرّفت بزیارة بیت الله الحرام لأوّل مرّة، ذهبت الى منى لأُشاهد عن قرب عملیّة نحر الأضاحی فی المسلخ یوم العید، فاذاً بی اُواجه مشهداً عجیباً،... الآلاف المؤلّفة من أشلاء الأنعام من الشیاه والبقر والإبل قد غطّت أرض المسلخ بحیث کان من الصّعب اختراقها والعبور من خلالها، فی حین کانت شمس الحجاز الحارقة تلهب بحرارتها وجه البسیطة، فیسرع العفن فی ذلک الرکام الهائل من الاضاحی، دون أن یستفید منها أحد من النّاس لا سیّما المساکین.
وبادرت الحکومة السعودیة ـ من أجل أن تمنع انتشار الأوبئة بین الحجیج بسبب تعفّن الأضاحی بعد نحرها ـ إلى دفنها رغم ما یتعرض هذا العمل من صعوبات.
وبعد أن اطّلعت على هذا الوضع سعیت بدوری للحصول على شاة صحیحة تتوفّر فیها المواصفات المطلوبة لهدیها، فتمّ لی ذلک، وقدّمتها لبعض المساکین هناک، ولکن لعلّهم أیضاً اکتفوا ببعض منها وترکوا الباقی.
کما لاحظت وجود عدد من الفقراء المعوزین الذین کانوا ینقلون أجزاءً
من الأضاحی خارج المسلخ، ولکن لاتتجاوز نسبة ما یقتطعونه من الأضاحی فی أحسن الأحوال عشرة بالمئة، فیتلف الباقی بالدفن أو الحرق!
وکما قلنا فانّ عملیة الإتلاف لاتتمّ بسهولة، ولهذا قد تُنجز بشکل ناقص فیوجب تلوّث فضاء منى وتعفّنه یومی الحادی عشر والثانی عشر من ذی الحجة لاسیّما المناطق القریبة من المسلخ.
ولعلّ الکثیر من الأفراد الذین یدخلون المسلخ ویشاهدون الوضع فیه یتساءلون فی أنفسهم عن رأی الشرع المقدّس فی هذه الظاهرة، وموقف الفقهاء ومراجع الدّین منها، وهل هی من المسائل المستحدثة، أم کانت بهذا الشکل منذ عصر المعصومین وفقهاء السلف؟
فی تلک الفترة کنت من طلاب العلوم الدینیة، وحدیث عهد ببحوث الفقه الاستدلالی، وکنت مقلّداً فی عدد من المسائل، ومنها مسائل الحج، فکانت وظیفتی الذبح ثمّ طرح الأضحیة فی محلّها، أو أن أقوم بعملیة صوریة فی أخذ النیابة من الفقیر ثمّ القبول من ناحیته وترکها فی نفس المحلّ.
ولکن بعد أن حصلت على قدرة أکثر فی استنباط المسائل، استغرقت فی الفکر وعزمت على ملاحظة أدلّة المسألة بالدقّة والتأملّ اللائقین، وعدم الاقتناع بمقولة الآخرین وممارساتهم العملیة، خصوصاً بعد أن تعقّدت المسألة بانتقال جمیع المذابح من منى إلى خارجه مع أنّ من شروط صحة الأضحیة عند فقهاء الشیعة کونها فی منى، وعدم إجزاء ما یقع خارجها، ولذلک تفحّصت جمیع روایات أبواب الذبح بدقّة وتدبّر، وتعمّقت فی کلمات القوم وفتاوى الفقهاء الکرام واستدلالاتهم، وناقشت بعضهم، وسعیت لأن أجرّد ذهنی من الخلفیات المعرفیة حتّى أفتی فی المسألة مع
فراغ البال، وأستجلی الحقیقة من روافدها الشرعیة وأدلّتها المعتبرة، ـ کما حصل للعلاّمة الحلّی(قدس سره) فی حکمه بردم بئر داره، ثمّ الفحص عن أدلّة اعتصام ماء البئر، وفی النهایة أفتى بالإعتصام خلافاً لجمیع من کانوا قبله ـ فانتبهت إلى أنّ مثل هذه الأضاحی لیست مجزیة لوظیفة الحج، وعلى الحجّاج الإحتناب عنها والاحتیاط بالإتیان بها فی أیام ذی الحجّة فی أوطانهم، أو مکان آخر.
ولهذا عزمت على بیان ما ثبت لی من الدلیل علی هذه الفتوى مع أداء التکریم والاحترام لجمیع المراجع والفقهاء العظام فی فتاواهم، کیما ینفتح بذلک للباحثین باب بحث أکثر وفحص أبلغ حول هذه المسألة المهمّة.
