1 ـ ما ورد بطرق المختلفة أنّ أمیر المؤمنین(علیه السلام) کان یضمن الصبّاغ، والقصّار، والصائغ احتیاطاً على أمتعة الناس، وکان لا یضمن من الغرق، والحرق، والشیء الغالب(1).
ولکن لا یبعد أن یکون هذا من قبیل الأحکام السلطانیّة التی یکون أمرها بید حاکم الشرع، فقد یرى المصلحة فی حفظ نظام المجتمع، على أن یضمن أرباب الحرف بالنسبة إلى أموال الناس، بعد ما رأى منهم قلّة المبالاة فی حفظ امتعة الناس، ووقعت الفوضى من هذه الناحیة.
ولذا ورد فی روایات أخرى أنّ الرض(علیه السلام) وکذا أبا جعفر الباقر(علیه السلام) لم یضمناهم، (إمّا تطوّلاً علیهم، وإمّا لملاحظة احتیاطهم فی أموال الناس فی عصرهما).
2 ـ ما دلّ على أنّ کلّ أجیر یعطى الأجرة على إصلاح شیء فیفسده، فهو ضامن له، مثل ما رواه الحلبی، عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: «سئل عن القصّار یفسد، فقال: کلّ أجیر یعطى الأجرة على أن یصلح فیفسد فهو ضامن»(2).
وما رواه إسماعیل بن أبی الصباح، عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: «سألته عن الثوب أدفعه إلى القصّار فیخرقه، قال: اغرمه، فانّک إنّما دفعته إلیه لیصلحه ولم تدفع إلیه لیفسده»(3).
ومثله بهذه العبارة أو ما یقرب منها عن الحلبی فیمن یعطی الثوب للصبّاغ(4).
وکذا مرسلة الصدوق فی «المقنع»، قال: «کان أمیر المؤمنین(علیه السلام) یضمّن القصّار، والصائغ وکلّ من أخذ شیئاً لیصلحه فأفسده»(5).
ویمکن الجواب عن هذه الطائفة من طرق عدیدة:
الأول: أنّه من شؤون قاعدة «من له الغنم فعلیه الغرم»، فانّ هذه القاعدة بعمومها وإن لم تثبت عندنا، ولکنّها ممضاة فی بعض الموارد، ویمکن أن یکون المورد منها، فحینئذ تکون هذه القاعدة حاکمة على قاعدة عدم ضمان الأمین أو مخصصة لها.
الثانی: یمکن أن یکون من باب ولایة الحاکم وتضمینه لأرباب الحرف احتیاطاً على أموال الناس، فیما إذا رأى منهم قلّة المبالاة فیها، کما مرّ فی سابقه.
الثالث: هذه الروایات ناظرة إلى باب الإتلاف، وهو أجنبی عمّا نحن فیه، فإنّ الکلام فی عدم ضمان الأمین إنّما هو فی التلف فقط، ومن الواضح أنّ کلّ من أتلف مال الغیر فهو له ضامن، ولا معنى للتعدّی وعدمه فیه، ولا للعلم والجهل، ولکنّ قوله: «کلّ أجیر یعطى الإجارة» ینافی هذا المعنى، فإنّ هذا القید فی مقام الإحتراز، ومفهومه عدم الضمان بالإتلاف لو لم یعطِ الأجرة.
ولکن یمکن حلّ هذه العویصة بأنّه إذا دخل الإنسان فی عمل تبرعاً بإذن صاحبه، ولم یتعدّ ولم یفرّط، فلا یبعد عدم کونه ضامناً لما یتلفه إذا کان الإتلاف من اللوازم القهریة لعمله، ولو فی بعض الموارد، ولکنّ هذا المعنى لا یجری فی حقّ من یأخذ الأجر على إصلاح شیء فیفسده، ولو لم یکن عن تعدّ ولا تفریط، فتأمّل.
الرابع: مع قطع النظر عن جمیع ذلک تکون النسبة بین هذه الروایات وعموم عدم ضمان الأمین نسبة الخصوص والعموم المطلق، فیخص بها فی خصوص هذا المورد، وتبقى القاعدة سلیمة عن المعارض فی غیر هذا الباب.
وبالجملة، فإنّ روایات تضمین أرباب الحرف الذین یأخذون الأجر على أعمالهم فیفسدون أموال الناس أحیاناً، مع أنّها معارضة بما ورد من عدم ضمانهم بالخصوص کما یظهر على من راجع أبواب الإجارة(6)، ولکنّها أخصّ ممّا نحن بصدده، ولها محامل أخر غیر التخصیص کما عرفت، فلا تنافی روایات التضمین هذه قاعدة عدم ضمان الأمین.
3 ـ ما دلّ على الأجیر المشارک، والظاهر أنّه هو الذی یکون له حرفة یراجعه الناس فیها، فهو بعلمه مشارک لهم، ولا یختصّ بواحد منهم، مثل ما رواه مسمع بن عبدالملک، عن أبی عبدالله(علیه السلام)قال: «قال أمیر المؤمنین(علیه السلام): الأجیر المشارک هو ضامن إلاّ من سبع، أو من غرق، أو حرق، أو لصّ مکابر»(7).
وهی وإن کانت أعم من سابقها لعدم تقییدها بالإتلاف، بل تشمل بعمومها للتلف والإتلاف معاً، ولکنّ الجواب عنها هو الجواب عن الطائفة السابقة، من إمکان حملها على قاعدة «من له الغنم»، أو على «ولایة الحاکم»، وإن أبیت عن جمیع ذلک فهی تخصیص فی قاعدة عدم ضمان الأمین، ولا مضادّ لها بعمومها.
4 ـ الروایات الکثیرة الدالّة على ضمان عاریة الدرهم، والذهب، والفضة، مثل ما رواه عبدالله بن سنان قال: «قال أبو عبدالله(علیه السلام): لا تضمن العاریة، إلاّ أن یکون قد اشترط فیها ضمان، إلاّ الدنانیر، فإنّها مضمونة، وإن لم یشترط فیها ضماناً»(8).
وفی معناها روایات أخرى فی نفس ذاک الباب صرّح فی بعضها بعنوان الدراهم أو الدنانیر، وبعضها الآخر بعنوان الذهب والفضة.
ولکنّ الأمر فیها أیضاً سهل، لأنّ تخصیص قاعدة «عدم ضمان الأمین» فی بعض مواردها أدلّة خاصّة لا تنافی عمومها فی غیر تلک الموارد، فقد تکون مصلحة فی التخصیص فی مثل الذهب والفضة ممّا یحتاج إلى التحفظ الشدید، بحیث لو لم یکن المستعیر ضامناً لا یتحفظ علیه کلّ التحفظ، فالشارع رأى المصلحة فی تضمینه فی خصوص هذا المورد، ولا یمکن التعدّی إلى غیره.
هذا کلّه إذا لم نقل بأنّ إطلاق الذهب والفضة فی هذه الروایات محمول على الدرهم والدینار، وعاریتهما کنایة عن الإقتراض، لعدم کون العاریة فی الدرهم والدینار معمولاً بها بین الناس، وحینئذ یخرج هذا العنوان عن محل الکلام بالتخصص لا بالتخصیص، وتمام الکلام فیه فی محله.
5 ـ ما ورد فی باب المضاربة بمال الیتیم، وأنّ العامل ضامن على کلّ حال، مع أنّه أمین مثل ما رواه بکر بن حبیب قال: »قلت لأبی عبدالله(علیه السلام): رجل دفع إلیه مال الیتیم مضاربة، فقال: فإنّ کان ربح فللیتیم، وإن کان تراجع الکمة ولعلّها: ضیّعة فالذی أعطى ضامن»(9).
ومثله ما ورد فی أبواب الوصیة عن إسماعیل بن سعد الاشعری، عن أبی الحسن الرض(علیه السلام) قال: «سألته عن مال الیتیم هل للوصی أن یعیّنه أو یتّجر فیه؟، قال: إن فعل فهو ضامن»(10).
إلى غیر ذلک ممّا ورد فی هذه الأبواب، ولا سیّما فی أبواب الزکاة، وأنّه من اتّجر بمال الیتیم فالربح للیتیم، وإن وضع فعلى الذی یتّجر به(11).
ولکن یمکن الجواب عن جمیع ذلک بأنّ الضمان فی هذه الموارد من جهة التصرّف فیما لا یجوز له التصرّف فیه، وهو موجب للضمان، وأمّا کون الربح للیتیم، فإنّه کالفضولی الذی أجازه مالکه، أو من بیده ولایة الأمر، فالشارع أذن التجارة الرابحة فی مال الیتیم غبطةً له، فالربح یکون فی ماله، وأمّا التجارة الخاسرة وضمانها فتکون على تاجرها إذا کانت بغیر إذن من الشارع.
6 ـ ما دلّ على ضمان الوصی للزکاة أو لمال الغرماء الذی فی یده، فإنّه ضامن مع أنّه أمین، مثل ما رواه سلیمان بن عبدالله الهاشمی عن أبیه قال: «سألت أباجعفر(علیه السلام)عن رجل أوصى إلى رجل فأعطاه ألف درهم زکاة ماله، فذهبت من الوصی، قال: هو ضامن، ولا یرجع على الورثة»(12).
وما رواه أبان، عن رجل قال: «سألت أبا عبدالله(علیه السلام)عن رجل أوصى إلى رجل أنّ علیه دیناً فقال: یقضی الرجل ما علیه من دینه، ویقسّم ما بقى بین الورثة، قلت: فسرق ما أوصى به من الدین، ممن یؤخذ الدین؟ أمن الورثة، أو من الوصی؟ قال لا یؤخذ من الورثة، ولکن الوصی ضامن لها»(13).
إلى غیر ذلک ممّا فی معناه.
ویمکن الجواب عن الجمیع بحملها على ما إذا وجد مستحق الزکاة، أو صاحب الدین، وتوانى فی دفعها إلیه، کما یشهد له صحیحة محمد بن مسلم قال: «قلت لأبی عبدالله(علیه السلام): رجل بعث بزکاة ماله لتقسم فضاعت، هل علیه ضمانها حتى تقسم؟ فقال: إذا وجد لها موضعاً فلم یدفعها فهو لها ضامن ـ إلى أنّ قال ـ وکذلک الوصی الذی یوصى إلیه یکون ضامناً لما دفع إلیه إذا وجد ربّه الذی أمر بدفعه إلیه، فإنّ لم یجد فلیس علیه ضمان»(14).
وبالجملة لا تنثلم قاعدة «عدم ضمان الأمین» بشیء من هذه، غایة الأمر یکون تخصیصاً لها فی بعض مصادیقها، وقد عرفت أنّ لها محامل أخر غیر التخصیص، فتدبّر جیّداً.
7 ـ ما وردت فی أبواب اللقطة، وأنّه إذا تلفت فالواجد ضامن لها، مثل ما رواه عبدالله بن جعفر فی «قرب الاسناد» بسنده عن علی بن جعفر، عن أخیه موسى بن جعفر(علیه السلام) قال: «وسألته عن الرجل یصیب اللقطة دراهم، أو ثوباً، أو دابّة کیف یصنع؟
قال: یعرفها سنة، فانّ لم یعرف صاحبها حفظها فی عرض ماله، حتى یجیء طالبها، فیعطیها إیّاه، وإن مات أوصى بها فانّ أصابها شیء فهو ضامن»(15).
ولکن یمکن حملها على صورة التعدّی أو التفریط فی حفظها:، أو على من نوى أخذ الجعل لوجدآنها بقرینة ما رواه عن حسین بن زید، عن جعفر عن أبیه(علیهما السلام) قال: «کان أمیرالمؤمنین(علیه السلام)یقول فی الضالة یجدها الرجل فینوی أن یأخذ لها جعلا فتنفق(16)، قال(علیه السلام): هو ضامن، فانّ لم ینوِ أن یأخذ لها جعلاً ونفقت، فلا ضمان علیه»(17).
والروایة وإن کانت غیر نقیّة الإسناد، ولکنّها تصلح لأن تکون قرینة وتأییداً للجمع، ولو اغمضنا عن جمیع ذلک فهو تخصیص فی مورد خاص، ولا ینافی أصل قاعدة نفی الضمان على الأمین.