للقرآن الکریم عبارات متنوعة حول بدایة ظهور الإنسان ، یقول فی أول آیة بهذا الخصوص :
( وَمِنْ آیَاتِهِ أَنْ خَلَقَکُمْ مِّنْ تُرَاب ) .
ویقول فی الآیة الرابعة :( وَبَدَأَ خَلْقَ الاِْنْسَانِ مِنْ طِیْن ) .
ویقول فی الآیة الثالثة : ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الاِْنْسَانَ مِنْ سُلالَة مِّنْ طِیْن ) .
ویقول فی الآیة 11 من سورة الصافات : ( إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِّنْ طِیْن لاَّزِب ) .
ویقول فی الآیة 26 من سورة الحجر : ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الاِْنْسانَ مِنْ صَلْصَال مِّنْ حَمَإ مِّسْنُون ) .
وجاء فی الآیة 14 من سورة الرحمن : ( خَلَقَ الانْسَانَ مِنْ صَلْصَال کَالْفَخَّارِ ) .
«الصَلْصَال»: فی الأصل بمعنى لوی الصوت فی الجسم الیابس ، ولهذا سمّى الطین الیابس الذی یصدر منه صوت عند ارتطام جسم آخر به بالصلصال ، وحین یُفخر على النار یقال له « الفخار » .
«الفخار»: مأخوذ من مادة « فخر » أی الفخور کثیر ، ولأنّ الأشخاص الفخورین أناس کثیرو الضجیج والکلام وفارغون ، فقد أُطلق هذا الاسم على الکوز وکل فخار فارغ الجوف ، بل أطلق على کل أنواع الفخار(1).
یستفاد من مجموع الآیات أعلاه أنّ الإنسان کان تراباً فی البدایة ، وقد امتزج هذا التراب بالماء واستحال إلى الطین ، وقد أخذ هذا الطین بعد مضی فترة شکلَ الوحل ثم استخلصت من عصارته المادة الأصلیة لآدم ثم جُفِّفَتْ ، وباجتیازها المراحل المهمّة تکوّن آدم .
لکن فی آیات اُخرى من القرآن کالآیة الثانیة المعنیة ، یعتبر خلقة الإنسان من نطفة مختلطة: ( مِنْ نُطْفَة أَمْشَاج ) .
وفی الآیة الثالثة یعتبرها اولا من « عصارة الطین » ، ثم من « نطفة فی الرحم »: ( مِنْ سُلالَة مِّنْ طِیْن ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِى قَرار مَکِیْن ) .
واضح أنّ المراد من هذه الآیات هو خلقة الإنسان فی المراحل والأجیال اللاحقة ، وبهذا فإنّ جدنا الأول مخلوق من التراب ، وأولاده وعقبه من نطفة أمشاج .
وثمّة احتمال فی تفسیر الآیة أعلاه هو : بما أنّ المواد المکوِّنة للنطفة مأخوذة جمیعها من التراب ( لأنّ غذاءنا إمّا من المواد الحیوانیة أو النباتیة ونعلم أن جمیع هذه المواد نحصل علیها من التراب ) ، لهذا فلم یکن الإنسان الأول من التراب فحسب ، بل إنّ جمیع الناس فی المراحل اللاحقة ینشأون من التراب أیض (2).
وعلى کل حال ، فهذه حقّاً من العجائب الکبیرة فی عالم الوجود وغرائب عالم الخلقة أن یولد ـ من مادة میتة وبلا روح ولا قیمة لها کالتراب ـ موجود حی وعاقل وذو قدر وقیمة کالانسان ، فهذه من الآیات البینات لذلک المُبدىء الکبیر ، و« إنّ ذلک الخالق لجدیر بالشکر والثناء لأنّه خلق من الماء والطین مثل هذا الشکل الجذاب » .
وبشکل عام فإن ظهور الحیاة من موجود میت مایزال من ألغاز عالَم الفکر والمعرفة، فضمن أیّ شروط وظروف یخرج موجود حی من موجود میت کالتراب ؟ یعتقد کل العلماء أنّ الکرة الأرضیة حین انفصلت عن الشمس کانت کلها ناراً محترقة، ولم تکن علیها حیاة مطلق ، ثم بردت قلیلا قلیلا وهطلت علیها سیول الأمطار من الغازات المضغوطة الموجودة حوله ، فتکونت البحار ، بدون أن یکون فیها کائن حی ، ثم ظهرت بوادر الحیاة سواء النباتیة أو الحیوانیة وأخیراً خُلقَ الاَنسان!إنّنا سواء اعتقدنا بالخلق المستقل للإنسان ( کما هو ظاهر الآیات القرآنیة ) ، أو اعتبرنا الإنسان متکاملا من أنواع الأحیاء الأخرى ( کما یقول أتباع داروین ، ونظریة التکامل ) ، فمهما کان فإن جذور هذا الإنسان تعود إلى التراب ، فهو منبثق ومخلوق منه، وإذا کان ظهور کائن حی أُحادی الخلیة ومجهری من التراب ، محیّراً لأفکار کل العلماء ، فکیف بظهور الإنسان من التراب المیت الخالی من الروح ؟هنا یجب الاَعتراف أننا بأزاء آیة کبیرة من آیات الحق وعلامة محیّرة من عظمة الله ، آیة من العالم الصغیر هی نموذج متکامل للعالم الکبیر .یقول کاتب « سر خلق الإنسان » « غرسی موریسن » فی معرض إشارته إلى بدایة ظهور الحیاة على الکرة الأرضیة :« وقعت حادثة عجیبة فی بدایة ظهور الحیاة على الکرة الأرضیة کان لها أثر کبیر على حیاة الموجودات الأرضیة ، حیث أصبح لاحدى الخلایا خاصیة عجیبة وهی أنّها وبواسطة ضوء الشمس بدأت تحلِّل وتجزِّء بعض التراکیب الکیمیائیة وتوفر بهذا العمل المواد الغذائیة لنفسها ولسائر الخلایا المشابهة ، وقد تغذت الخلایا المنشطرة من احدى هذه الخلایا البدائیة على الأغذیة التی وفرتها لهم أمهم وأوجدت جیل الحیوانات ، فی حین أنّ خلیة أخرى بقیت على شکلها النباتی وکونت نباتات العالم ، وهی الیوم تغذی کل الأحیاء الأرضیة .ثم یضیف : هل یمکن التصدیق أنّه وحسب الصدفة کانت إحدى الخلایا منشأً لحیاة الحیوانات وخلیة أخرى کانت أصلا ومصدراً للنباتات ؟ » .ووفق قول آخرین :إنّ العلماء یقسمون موجودات عالم المادة إلى نوعین ، العضویة ( وهی الموجودات القابلة للفساد کأنواع النباتات وأجسام الحیوانات ) ، والموجودات اللاعضویة ( المعدنیة ) التی لا تقبل الفساد ، ولهذا یقسمون الکیمیاء إلى قسمین « الکیمیاء العضویة » و« اللاعضویة » .تشکل المواد العضویة جمیع أطعمة الإنسان تقریب ، وهی مأخوذة کلها من التراب ، وحین تدخل جسم الإنسان تکوّن تراکیب کیمیائیة جدیدة تناسب تغذیة کل عضو من الأعضاء ، وهذه نفس الحقیقة التی یبینها القرآن بعبارة: ( إنّا خَلَقْنَاکُم مِّنْ تُراب )أو ( مِنْ سُلالة مِّنْ طِین ) (3).صحیح أنّ للإنسان علاوة على المادة الترابیة روحاً إلهیة ، ولکن لا شک أنّ الروح تکون مظهراً للأعمال والأفعال المختلفة بالتنسیق مع الجسم و علیه فإنّ هذه المادة الترابیة تستطیع بالتنسیق مع الروح أن تقدم أنواع القابلیات والأذواق والابتکارات والأعمال التی یحار فیها العقل .مع أنَّ الإنسان صار موضوعاً لعلوم مختلفة ، وهنالک عالِم خاص حول کل جانب من جوانبه یمارس دراساته وأبحاثه ، إلاّ أنّ الإنسان ما یزال موجوداً مجهول ، ویلزم من الوقت سنین طویلة لکی یحل العلماء بجهودهم المتواصلة هذا اللغز الکبیر فی عالم الوجود وینیروا زوایاه ، وربّما لم یستطیعوا أبداً أن یقوموا بذلک !یمکن لکل عضو من أعضاء جسم الإنسان أن یکون لوحده موضوعاً لحساب الاحتمالات : العین ، الاذن ، القلب ، العروق ، الجهاز التنفسی، الکلى، المعدة ، الکبد، وأخیراً الجهاز العصبی المعقّد ، وبعملیة ریاضیة بسیطة یتضح أن أی عقل لا یوافق على أنّها خُلقت صدفة.
نعم، إنّه من أجل التوصل إلى بنیة ونوع فعالیة وفسلجة کل واحد من الأعضاء فقد درس آلاف العلماء والعقول المفکرة وکتبت مئات أو آلاف الکتب حوله .هل یصدق أحد أنّه من أجل معرفة کل واحد من هذه الأعضاء تلزم کل هذه العلوم والعقول والذکاء والدرایة ، بینما لا یلزم صنعها علماً وعقلا على الاطلاق ؟! کیف یمکن أن یکون فهم اُسلوب عمل إحدى المعامل متطلباً لسنین من المطالعة ، بینما تکون صناعة هذا المعمل قد حصلت على ید العوامل غیر العاقلة ؟ أی عقل یصدق هذ ؟!هنا لا یعتبر ظهور الإنسان من المادة البسیطة ( التراب ) ومن سلالة من طین ومن الحمأ المسنون إحدى أعمال الخلق العظیمة والآیات الکبیرة على وجود الله فحسب ، بل إنّ کل واحدة من خلایا الجسم بامکانها أن تکون مرآة عاکسة لعظمة الله ووجوده .