حضر عند رسول الله(صلى الله علیه وآله) ابو سفیان والولید بن المغیرة والنضر بن الحارث وأبو جهل وأفراد آخرون واستمعوا إلى حدیث الرسول الأکرم(صلى الله علیه وآله) فقالوا للنضر: ما یقول محمد؟ (وکان النضر تاجراً یسافر إلى ایران وله اطّلاع واسع بالأساطیر والقصص التاریخیة الایرانیة) فقال: لا أدری ما یقول لکنّی أراه یحرک شفتیه ویتکلّم بأساطیر الأولین کالذی کنت اُحدثکم به عن أخبار القرون الاُولى وقال أبوسفیان: إنّی لا ارى بعض ما یقول حقاً.
فقال أبوجهل: کلا، فانزل الله تعالى: (وَمِنْهُمْ مَّنْ یَسْتَمِعُ إِلَیْکَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ اَکِنَّهً اَنْ یَفْقَهُوهُ)(1).
وقال بعض المفسرین فی تفسیر هذه الآیة أنّهم لما أصروا على الکفر وعاندوا وصمموا علیه فصار عدو لهم عن الإیمان والحالة هذه کالکنان المانع عن الإیمان(2).
ولهذا نزلت هذه الآیة وقالت بصراحة: (وَمِنْهُمْ مَنْ یَسْتَمِعُ اِلَیْکَ ...).
وقد قال بعض المفسرین فی تفسیر هذه الآیة:
(وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَکِنَّةً): إنّ عناد هؤلاء الکفرة واصرارهم فی معاداة الحق، یجعل ستاراً على قلوبهم یحول دون إیمانه(3).
وقـد تحدثت الآیة الثانیة عن الحجاب الذی کان یُجعل بین الرسول (صلى الله علیه وآله)وبین فریق من المنافقین عندما کان یتلو القرآن الکریم.
وقد فسـر البعض هذا الحجـاب بسـتار حقیقی کان یجعله الله بین الرسول الأکرم(صلى الله علیه وآله)وبینـهم بحیث لا یرونه، إلاّ أنّه مع الالتفات إلى الآیات التی لحقت هذه الآیة من نـفس السـورة، یتضح لنا أنّ الحجاب لم یکن سوى «حجاب التعصب والعنـاد والغـرور والجهل» الذی کتم حقـائق القرآن عن عقولهم وإدراکهم.
والشاهد على ذلک هو قوله تعالى: (وَاذا ذَکَرْتَ رَبَّکَ فِى الْقُرآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا) فالمستفاد من هذا التعبیر هو أنّهم کانوا یصغون فی البدایة إلى حدیث الرسول(صلى الله علیه وآله) ثم یولون مدبرین لعدم سماح العناد لهم لإدراک القرآن، وإدراک حدیث التوحید.
ونشاهد فی نفس السورة تعابیر اُخرى تحـکی روح العنـاد المتجسمة فیهم، ومع هذا، فهل یمکنهم إدراک حقیقة ما؟
وخـاطبت الآیة الثـالثة الرسـول الأعظم(صلى الله علیه وآله) قائلة له: إنـّک لا تُسمع الموتى ولا الصم عندما یولـون مدبرین، کما أنـّک لا تستطیع هدایـة العمى وانقاذهم من الهلاک، فما یسمع کلامک إلاّ الذین آمنوا بآیات الله وسلموا للحق (أی الذین تتلهف قلوبهم للـحق، فإنّ قلوباً کهذه کالأرض المعدَّه للزرع، تسطع علیها الشمس، وتقطر السماء علیهـا قطرات الحیـاة، فتنمو فیها البذور بسرعة، وأمّا القلوب التی عطّلتها حُجب التعصب والجهل فانّها محرومة من هذه الحقائق)(4).
والآیـة الـرابعة تحدثت عن أولئک الکفار الذین وقفوا أمـام الرسول الأکرم(صلى الله علیه وآله)عناداً، وخالفوا کل ما جاء به، فکـانوا یرمون الرسـول والقرآن بالباطل تارة، وتارة اُخرى یقولون: إنّ ما جاء به الرسول سحر وأساطیر الأولین ولا مجال للحق فیه: فتحدث فی هذه عن هؤلاء وقال: (کَذلِکَ یَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِیْنَ لاَ یَعْلَمُونَ). لأنّهم لا یعلمون شیئاً عن هذا الکتاب السماوی الذی هو مصدر للحقائق.
کما أنّ الآیة توضح العلاقة بین «الجهل» و«العناد».
وعکست الآیة الخامسة النموذج الکامل من العناد، فما قیل إلى الآن کان خطاباً بین الله ورسوله، أمّا هنا فهم یعترفون بأنفسهم بأنّ على قلوبهم أکنة، وفی آذانهم وقراً، وبینهم وبین رسول الله(صلى الله علیه وآله) حجاب لا یسمح لهم إدراک ما یقول والتسلیم له، فاعمل على شاکلتک ونحن عاملون على شاکلتنا.
إنّ هذه التعابیر تبین بوضوح مـا هـو العـامل الأساسی لهذه الحجب وما هو السبب الرئیسی للوقر الذی یجعل فی الاذن؟ إنّهـا عبارات یقطر منها التعصب والعناد وتبین سبب شقائهم وتعاستهم.
کما أنّ «التعصب» مشتق من مادة «عصب» وهـو فـی البدن خلایا تسبب اتصال العضلات إحداها بالاُخرى أو بالعظام، والعصب بمثابة الوسیلة لنقل الایعاز إلى المخ، وبما أنّ له بنیاناً قویاً ومحکماً استعملت هذه المفردة بمعنى الشدة والاستحکام، ویوم عصیب یعنی یوم شـدید وصعب، ولهـذا یطـلق «التعصب» على حالة الإرتباط الشدید بشیء، کما أن «العُصْبة» على وزن أسوة تعنی جماعة من الرجال (المقتدرین) الذین لا یقلون عن عشرة، وأمّا «عَصَبة» فتعنی أقارب الرجل من جهة الأب(5).
إنّ «اللجاجة» وهی من مادة «لجّ» هی التمادی فی العناد، وملازمة أمر ما وعدم الانصراف عنه، و«اللجّة» تعنی حرکة أمواج البحر، أو التباس ظلمات اللیل، و«البحر اللّجی» هو البحر الواسع والمتلاطم، والتلجلج فی الکلام هو التردد فیه، أو اختلاط الأصوات(6).