کان الخطاب فی الآیات السابقة موجّهاً للمؤمنین وکان بصیغة: (یا أیّها الّذین آ منو)وقد نهى الذکر الحکیم فی آیات متعدّدة عمّا یُوقِع المجتمع الإسلامی فی خطر، وتکلّم فی جوانب من ذلک.
فی حین أنّ الآیة محل البحث تخاطب جمیع الناس وتبیّن أهم أصل یضمن النظم والثبات، وتمیّز المیزان الواقعی للقیم الإنسانیة عن القیم الکاذبة والمغریات الباطلة. فتقول: (یا أیّها النّاس إنّا خلقناکم من ذکر وأنثى وجعلناکم شعوباً وقبائل لتعارفو).
والمراد ب(خلقناکم من ذکر وأنثى) هو أصل الخلقة وعودة أنساب الناس إلى «آدم وحواء»، فطالما کان الجمیع من أصل واحد فلا ینبغی أن تفتخر قبیلة على اُخرى من حیث النسب، وإذا کان الله سبحانه قد خلق کلّ قبیلة وأولاها خصائص ووظائف معیّنة فإنّما ذلک لحفظ نظم حیاة الناس الاجتماعیة! لأنّ هذه الإختلافات مدعاةً لمعرفة الناس، فلو کانوا على شاکلة واحدة ومتشابهین لساد الهرج والمرج فی المجتمع البشری أجمع.
وقد اختلف المفسّرون فی بیان الفرق بین «الشعوب» جمع شعب ـ على زنة صعب ـ (الطائفة الکبیرة من الناس) و«القبائل» جمع قبیلة فاحتملوا احمالات متعدّدة:
قال جماعة إنّ دائرة الشعب أوسع من دائرة القبیلة، کما هو المعروف فی العصر الحاضر أن یطلق الشعب على أهل الوطن الواحد.
وقال بعضهم: کلمة «شعوب» إشارة إلى طوائف العجم، وأمّا «القبائل» فإشارة طوائف العرب.
وأخیراً فإنّ بعضهم قال بأنّ «الشعوب» اشارة إلى انتساب الناس إلى المناطق «الجغرافیة» و«القبائل» إشارة إلى انتسابهم إلى العرق والدم.
لکنّ التّفسیر الأوّل أنسب من الجمیع کما یبدو! وعلى کلّ حال فإنّ القرآن بعد أن ینبذ أکبر معیار للمفاخرة والمباهات فی العصر الجاهلی ویُلغی التفاضل بالأنساب والقبائل یتّجه نحو المعیار الواقعی القیم فیضیف قائلاً: (إنّ أکرمکم عند الله أتقاکم).
وهکذا فإنّ القرآن یشطب بالقلم الأحمر على جمیع الإمتیازات الظاهریة والمادیة، ویعطی الأصالة والواقعیة لمسألة التقوى والخوف من الله، ویقول إنّه لا شیء أفضل من التقوى فی سبیل التقرّب إلى الله وساحة قدسه.
وبما أنّ «التقوى» صفة روحانیة وباطنیة ینبغی أن تکون قبل کلّ شیء مستقرّةً فی القلب والروح، وربّما یوجد مدّعون للتقوى کثیرون والمتّصفون بها قلة منهم، فإنّ القرآن یضیف فی نهایة الآیة قائلاً: (إنّ الله علیم خبیر).
فالله یعرف المتّقین حقّاً وهو مطّلع على درجات تقواهم وخلوص نیّاتهم وطهارتهم وصفائهم، فهو یکرمهم طبقاً لعلمه ویثیبهم، وأمّا المدّعون الکذَبَة فإنّه یحاسبهم ویجازیهم على کذبهم أیضاً.
