إنّ مسألة المدیریة لا تتم بدون رعایة الإنضباط، وإذا أرید للناس العمل تحت مدیریة وقیادة حسب رغبتهم، فإنّ اتساق الأعمال سینعدم عندئذ وإن کان المدیرون والقادة جدیرین.
وکثیر من الأحداث والنواقص التی نلاحظها تحدّث عن هذا الطریق، فکم من هزیمة أصابت جیشاً قویاً أو نقصاً حدث فی أمر یهمّ جماعة وما إلى ذلک کان سببه ما ذکرناه آنفاً... ولقد ذاق المسلمون أیضاً مرارة مخالفة هذه التعالیم مراراً فی عهد النّبی (صلى الله علیه وآله) أو بعده، ومن أوضح الاُمور قصة هزیمة المسلمین فی معرکة اُحُد لعدم الإنضباط من قبل جماعة قلیلة من المقاتلین.
والقرآن یثیر هذه المسألة المهمّة فی عبارة موجزة فی الآیة الآنفة وبأسلوب جامع طریف إذ یقول: (یا أیّها الّذین آمنوا لا تقدّموا بین یدی الله ورسوله).
ومفهوم الآیة کما أشرنا سابقاً واسع إلى درجة أنّها تشمل أی نوع من أنواع التقدّم والتأخّر والکلام والتصرّفات الذاتیة الخارجیة عن تعلیمات القیادة...
ومع هذه الحال فإنّنا نلاحظ فی تاریخ حیاة النّبی(صلى الله علیه وآله) موارد کثیرة یتقدّم فیها بعض الأفراد على أمره أو یتخلّفون ویلوون رؤوسهم فیکونون موضع الملامة والتوبیخ الشدید... ومن ذلک ما یلی...
1ـ حین تحرّک النّبی(صلى الله علیه وآله) لفتح مکّة فی السنة الثامنة للهجرة کان ذلک فی شهر رمضان وکان معه جماعة کثیرة، منهم الفرسان ومنهم المشاة، ولمّا بلغ (منزل) کراع الغمیم أمر بإناء ماء، فتناول منه الرّسول وافطر ثمّ أفطر من کان معه، إلاّ أنّ العجیب أنّ جماعة منهم (تقدّم على النّبی) ولم یوافقوا على الإفطار وبقوا صائمین فسمّاهم النّبی(صلى الله علیه وآله) بالعُصاة(1)!
2ـ ومثل آخر ما حدث فی حجة الوداع فی السنة العاشرة للهجرة حیث أمر النبیّ أن ینادی المنادی: «من لم یسق منکم هدیاً فلیحلّ ولیجعلها عمرة، ومن ساق منکم هدیاً فلیقم على إحرامه» ثمّ یؤدّی مناسک الحج وأنّ من جاء بالهدی (وحجّه حجّ إفراد) فعلیه أن یبقى على إحرامه... ثمّ قال(صلى الله علیه وآله) «لولا أنّی سقت الهدی لأحللت، وجعلتها عمرةً، فمن لم یسق هدیاً فلیحلّ». إلاّ أنّ جماعة أبوا وقالوا کیف یمکننا أن نحل وما یزال النّبی محرماً ألیس قبیحاً أن نمضی للحج بعد أداء العمرة ویسیل منّا ماء الغسل «من الجنابة».
فساء النّبی ما قالوا ووبّخهم ولامهم(2).
3ـ قصة التخلّف عن جیش اُسامة عندما أراد النّبی(صلى الله علیه وآله) أن یلتحق بالرفیق الأعلى معروفة حیث أمر(صلى الله علیه وآله) المسلمین أن ینفذوا جیش اُسامة بن زید ویتحرّکوا إلى حرب الروم وأمر المهاجرین والأنصار أن یتحرّکوا مع هذا الجیش...
ولعلّ النّبی(صلى الله علیه وآله) أراد ألاّ تقع عند رحلته مسائل فی أمر الخلافة ـ وقد وقعت ـ حتى أنّه لعن المتخلّفین عن جیش اُسامة ومع کلّ ذلک تخلّف جماعة بحجة أنّهم لا یستطیعون أن یترکوا النّبی فی مثل هذه الظروف(3)!!...
4ـ قصة «القلم والدواة» معروفة أیضاً وهی فی الساعات الأخیرة من عمر النّبی(صلى الله علیه وآله) کما أنّها مثیرة والأحسن أن ننقل ما جاء من عبارة فی صحیح مسلم بعینها هنا: «لمّا حُضر رسول الله وفی البیت رجال فیهم عمر بن الخطاب فقال النّبی: هلمّ اکتب لکم کتاباً لا تضلّون بعده، فقال عمر إنّ رسول الله قد غلب علیه الوجع، وعندکم القرآن حسبنا کتاب الله، فاختلف أهل البیت، فاختصموا فمنهم من یقول: قرّبوا یکتب لکم رسول الله کتاباً لن تضلّوا بعده ومنهم من یقول ما قال عمر فلمّا أکثروا اللغو والإختلاف عند رسول الله قال رسول الله قوموا»(4)!...
وممّا تجدر الإشارة إلیه أنّ هذا الحدیث عینه نقله البخاری فی صحیحه باختلاف یسیر جداً «صحیح البخاری، ج 6، باب مرض النّبی، ص 11».
وهذه القضیة من الحوادث المهمّة فی التأریخ الإسلامی التی تحتاج إلى تحلیل وبسط لیس هنا محلّه ولکنّها على کلّ حال من أجلى موارد التخلّف عن أمر النّبی ومخالفة الآیة محل البحث: (یا أیّها الّذین آ منوا لا تقدّموا بین یدی الله ورسوله)...
وما یهمّنا هنا أنّ رعایة الإنضباط الإسلامی والإلهی تحتاج إلى روح التسلیم المطلق وقبول القیادة «الإلهیّة» فی جمیع شؤون الحیاة والإیمان المتین بمقام القائد الشامخ...
1. نقل هذا الحدیث کثیر من المؤرخین والمحدّثین ومنها ما ورد فی وسائل الشیعة، ج 7، ص 125، (باب من یصح منه الصوم) مع شیء من التلخیص.
2. بحار الأنوار، ج21، ص386 (بشیء من التصرّف والإختصار).
3. ذکر هذه القصة مؤرّخون کُثر فی کتب التاریخ الإسلامی وهی من الحوادث المهمّة فی تاریخ الإسلام «لمزید الإطلاع یُراجع کتاب المراجعات ـ المراجعة 90 ـ منه».
4. صحیح مسلم، ج 3، ص 1259، (کتاب الوصیة، ح 22).
