بما أنّ الآیات السابقة تحدّثت عن تفرّق الاُمم بسبب البغی والظلم والانحراف، لذا فإنّ الآیة التی نبحثها تأمر النّبی بمحاولة حلّ الاختلافات وإعادة الحیاة إلى دین الأنبیاء، وأن یبذل منتهى الاستقامة فی هذا الطریق، فتقول: (فلذلک فادع)(1) أی ادعوهم إلى الدین الإلهی الواحد وامنع الإختلافات.
ثم تأمره بالإستقامة فی هذا الطریق، فتقول: (واستقم کما أمرت).
ولعل جملة «کما اُمرت» إشارة إلى المرحلة العالیة من الإستقامة، أو إلى أنّ الاستقامة یجب أن تکون من حیث الکمیة والکیفیة والزمن والخصوصیات الاُخرى مطابقة للقانون الإلهی.
وبما أنّ أهواء الناس تعتبر من الموانع الکبیرة فی هذا الطریق، لذا تقول الآیة فی ثالث أمر لها: (ولا تتبع أهواءهم)، لأنّ کلّ مجموعة ستدعوک إلى أهوائها ومصالحها الشخصیة، تلک الدعوة التی یکون مصیرها الفرقة والاختلاف والنفاق، فعلیک القضاء على هذه الأهواء، وجمع الکل فی ظل الدین الإلهی الواحد.
وبما أنّ لکل دعوة نقطة بدایة، لذا فإنّ نقطة البدایة هی شخص الرّسول(صلى الله علیه وآله)، حیث تقول الآیة فی رابع أمر لها: (وقل آمنت بما أنزل الله من کتاب). فأنا لا اُفرّق بین الکتب السماویة، اعترف بها جمیعاً، وکلها تدعو إلى التوحید والمعارف الدینیة الطاهرة والتقوى والحق والعدالة، وفی الحقیقة فإنّ دینی جامع لها ومکملها.
فأنا لستُ مثل أهل الکتاب حیث یقوم کلّ واحد بإلغاء الآخرین، فالیهود یلغون المسیحیین، والمسیحیون یلغون الیهود، وحتى أنّ أتباع کلّ دین أیضاً یقبلون ما یتلاءم مع حاجاتهم ورغباتهم من کتبهم الدینیة، فأنا أقبل بالکل لأنّ الکل له اُصول أساسیة واحدة.
وبما أنّ رعایة (أصل العدالة) ضروری لإیجاد الوحدة، لذا فإنّ الآیة تطرح ذلک فی خامس أمر لها فتقول: (وأمرت لأعدل بینکم)، سواء فی القضاء والحکم، أو فی الحقوق الإجتماعیة والقضایا الاُخرى(2).
وبهذا الشکل فإنّ الآیة التی نبحثها مؤلفة من خمس تعلیمات مهمّة، حیث تبدأ من أصل الدعوة، ثمّ تطرح وسیلة انتشارها ـ یعنی الإستقامة ـ ثمّ تشیر إلى الموانع فی الطریق «کعبادة الأهواء» ثمّ تبین نقطة البدایة التی تبدأ من النفس، وأخیراً الهدف النهائی والذی هو توسیع وتعمیم العدالة.
بعد هذه التعلیمات الخمس، تشیر إلى المشترکات بین الأقوام والتی تتلخص بخمس فقرات، حیث تقول: (الله ربّنا وربّکم) وکل واحد مسؤول عن أعماله (لنا أعمالنا ولکم أعمالکم). (لا حجّة بیننا وبینکم) ولیس بیننا نزاع وخصومة، ولا امتیاز لأحدنا على الآخر ولیست لدینا أغراض شخصیة اتجاهکم.
وعادة لا توجد حاجة إلى الاستدلال والاحتجاج، لأنّ الحق واضح، إضافة إلى ذلک فإنّنا جمیعاً سوف نجتمع فی مکان واحد: (الله یجمع بینن)(3).
والذی سوف یقضی بیننا فی ذلک الیوم هو الأحد الذی: (وإلیه المصیر).
وعلى هذا الأساس فإنّ إلهنا واحد، ونهایتنا ستکون فی مکان واحد، والقاضی الذی إلیه المصیر واحد، وبالرغم من کلّ هذا فإنّنا مسؤولون جمیعاً حیال أعمالنا، ولیس هناک فرق لإنسان على آخر إلاّ بالإیمان والعمل الصالح.
وننهی هذا البحث بحدیث جامع، فقد ورد فی حدیث عن الرّسول الأکرم(صلى الله علیه وآله): «ثلاث منجیات، وثلاث مهلکات، فالمنجیات: العدل فی الرضا والغضب، والقصد فی الغنى والفقر، وخشیة الله فی السر والعلانیة، والمهلکات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه»(4).