أشار الفلاسفة فی بحوثهم حول التوحید إلى الأهمیة الکبیرة لنوعین من الإستدلال على الخالق جلَّ وعلا: أحدهما الإستدلال من خلال «النظم». والآخر دلیل «الصدیقین».
ودلیل «النظم» کما یظهر من اسمه، یبدأ من نظام عالم الوجود وأسراره ودقائقه، لیرشد إلى مصدر العلم والقدرة والخلق الذی أوجد ذلک ودبّره، والقرآن الکریم ملیء بهذا النوع من الاستدلال، فهو یذکر نماذج کثیرة عن آیات الله فی السماء والأرض وفی مظاهر الحیاة ونظمها وما یمور فیها من کائنات، وینتهی من هذا الطریق إلى إثبات وجود الصانع المدَبّر (جلَّ وعلا).
إنّ کلّ شخص یستطیع استیعاب هذا النوع من الاستدلال مهما کان مستواه وعلى قدر ما یحمل من علم وإدراک، إذ یستفید منه أکبر العلماء على قدر استعداده وثقافته واستیعابه، فی نفس الوقت الذی یستفید منهُ الاُمّی وغیر المتعلّم وغیر المطّلع على فنون العلوم والمعرفة.
أمّا دلیل «الصدیقین» فهو نوع من الاستدلال یقوم بالوصول إلى (الذات) بواسطة (الذات) نفسها، ومثل هؤلاء یعرفونه تعالى من خلال وجوب وجوده.
بعبارة اُخرى: إنّ الممکنات والمخلوقات لا تکون هنا واسطة لإثبات وجوده، بل إنّ ذاته بنفسه تدل على ذاته، ویکون تعالى مصداقاً لـ «یا من دلَّ على ذاته بذاته»(1) ومصداقاً أیضاً ل(شهدالله أنّه لا إله إلا هو)(2).
إنّ هذا الاستدلال استدلال فلسفی معقّد بحیث لا یستطیع أن یحیط بکنهه وبأعماقه إلاّ من یحیط بمبادئه، ولیسَ من قصدنا هنا تبسیط الدلیل فذلک شأن الکتب الفلسفیة، وإنّما أردنا من خلال هذا العرض أن نقف على آراء بعض المفسّرین من الذین یعتقدون بأنّ مطلع الآیة فی قوله تعالى: (سنریهم آیاتنا فی الآفاق) یتضمّن إشارة إلى دلیل «النظم» والعلة والمعلول. بینما اعتبروا نهایة الآیة فی قوله تعالى: (أو لم یکف بربّک أنّه على کلِّ شیء شهید)(3) إشارة إلى دلیل «الصدیقین».
ولکن لیسَ ثمّة قرائن واضحة من نفس الآیة تؤیّد فکرة هذا الإِستنتاج!
1. هذا المقطع من دعاء الصباح المنقول عن أمیر المؤمنین(علیه السلام).
2. آل عمران، 18.
3. فصّلت، 53.
