تتحدّث هاتان الآیتان کالآیات السابقة المتعلّقة بصلح الحدیبیّة والوقائع التالیة لها ـ عن البرکات وما حصل علیه المسلمون من غنائم فی هذا الطریق.
فتقول الآیة الأولى منهما: (وعدکم الله مغانم کثیرة تأخذونها فعجّل لکم هذه).
ویدلّ لحن الآیة أنّ المراد من المغانم الکثیرة هنا جمیع المغانم التی جعلها الله للمسلمین سواءً فی أمد قصیر أم بعید حتى أنّ جمعاً من المفسّرین یعتقدون أنّ المغانم التی تقع فی أیدی المسلمین إلى یوم القیامة داخلة فی هذه العبارة أیضاً.
أمّا قوله: (فعجّل لکم هذه) فیرى الکثیر من المفسّرین أنّ المراد منه مغانم خیبر التی توفّرت خلال أمد قصیر جداً بعد حادثة الحدیبیّة!
غیر أنّ البعض یرى أنّ کلمة «هذه» إشارة إلى فتح الحدیبیّة الذی یُعدّ أکبر غنیمة معنویة!.
ثمّ یشیر القرآن إلى لطف آخر من ألطاف الله على المسلمین ـ فی هذه الحادثة ـ فیقول: (وکفّ أیدی النّاس عنکم).
وهذا لطف کبیر أن یکون المسلمون على قلة العَدد والعُدد وفی نقطة نائیة عن الوطن وفی مقربة من العدو ـ فی مأمن منه وأن یلقی الله رعباً ووحشة منهم فی قلوب الأعداء بحیث یخشون التحرش بهم!.
ویرى جماعة من المفسّرین أنّ هذه الجملة إشارة إلى ما جرى فی خیبر إذ کانت بعض القبائل من «بنی أسد» و«بنی غطفان» قد صمّموا أن یهجموا على المدینة فی غیاب المسلمین وأن ینهبوا أموالهم ویأسروا نساءهم!
أو أنّها إشارة إلى تصمیم جماعة من هاتین القبیلتین على أن ینهضوا لنصرة یهود خیبر فألقى الله الرعب فی قلوبهم فصرفهم عن ذلک.
غیر أنّ التّفسیر الأوّل أنسب ظاهراً! لأنّنا نشاهد شرطاً لهذا التعبیر بعد بضعة آیات ورد فی شأن أهل مکّة کما جاء فی الآیة محل البحث، وهو منسجم مع أسلوب القرآن الذی هو أسلوب إجمال وتفصیل!
المهم أنّه طبقاً للرّوایات المشهورة فإنّ سورة الفتح جمیعها نزلت بعد حادثة الحدیبیة وخلال عودة النّبی (صلى الله علیه وآله) من مکّة إلى المدینة!
ثمّ یضیف القرآن فی تکملة الآیة مشیراً إلى نعمتین کُبریین اُخریین من مواهب الله ونعمه إذ یقول: (ولتکون آیة للمؤمنین ویهدیکم صراطاً مستقیم).
وبالرغم من أنّ بعض المفسّرین یرى أنّ الضمیر فی لتکون عائد على الغنائم الکثیرة الموعودة، وبعضهم یراه عائداً على حمایة المسلمین وکف أیدی الناس عنهم، غیر أنّ المناسب أن یعود الضمیر إلى جمیع حوادث الحدیبیة ومجریاتها بعد ذلک.. لأنّ کلاًّ منها آیة من آیات الله ودلیل على صدق النّبی (صلى الله علیه وآله) ووسیلة لهدایة الناس إلى الصراط المستقیم، وکان فی قسم منها (جنبة) أخبار بالمغیّبات، وکان بعضها لا ینسجم مع الظروف العادیة، وهی فی المجموع تعدّ معجزة واضحة من معاجز النّبی (صلى الله علیه وآله).
وفی الآیة التالیة أعطى الله بشارةً اُخرى للمسلمین إذ قال: (وأخرى لم تقدروا علیها قد أحاط الله بها وکان الله على کلّ شیء قدیر).
وهناک کلام بین المفسّرین فی أنّ هذا الوعد یشیر إلى أیة غنیمة؟ والى أی نصر؟!
یرى بعضهم أنّه إشارة إلى فتح مکّة وغنائم حنین.
ویرى آخرون أنّه إشارة إلى الفتوحات والغنائم التی کانت نصیب المسلمین بعد النّبی (کفتح فارس والروم ومصر) کما یحتمل أیضاً أنّه إشارة لجمیع ما تقدّم ذکره(1).
عبارة (لم تقدروا علیه) إشارة إلى أنّ المسلمین لم یحتملوا قبل ذلک أن یظفروا بمثل هذه الفتوحات والغنائم، إلاّ أنّه وببرکة الإسلام والإمدادات الإلهیة نالوا هذه القدرة والقوّة!
واستنبط بعض المفسّرین من هذه الجملة أنّ المسلمین کانوا یتحدّثون عن مثل هذه الفتوحات، إلاّ أنّهم کانوا یرون أنفسهم غیر قادرین وخاصّة أنّنا نقرأ فی قصة الأحزاب یوم بشّر النّبی (صلى الله علیه وآله) المسلمین بفتح بلاد فارس والروم والیمن اتخذ المنافقون کلامه هزواً!
وجملة (قد أحاط الله به) إشارة إلى إحاطة قدرة الله على هذه الغنائم أو الفتوحات، ویرى بعض المفسّرین أنّها إشارة إلى إحاطة علمه، غیر أنّ المعنى الأوّل أکثر انسجاماً مع تعابیر الآیة الاُخرى، وبالطبع لا مانع فی الجمع بینهما معاً.
وأخیراً فإنّ آخر جملة فی الآیة (وکان الله على کلّ شیء قدیر) هی فی الحقیقة بمنزلة بیان العلة للجملة السابقة، وهی إشارة إلى أنّه مع قدرة الله على کلّ شیء فلا عجب أن ینال المسلمون مثل هذه الفتوحات!.
وعلى کلّ حال فإنّ الآیة من إخبار القرآن بالمغیّبات والحوادث الآتیة، وقد حدثت هذه الفتوحات فی مدة قصیرة وکشفت عن عظمة هذه الآیات بجلاء!
1. «أخرى» هنا صفة لمحذوف تقدیر (ومغانم اُخرى لم تقدروا علیه) وهی منصوبة لعطفها على (وعدکم الله مغانم کثیرة).
