الأشخاص الذین لم یذعنوا ویسلّموا للبیان الاستدلالی والمنطقی الذی جاء به القرآن بسبب عنادهم وإصرارهم على الباطل، ولم یقبلوا بکتاب کالقرآن الذی جاء به إنسان أمی کالنّبی محمّد(صلى الله علیه وآله) دلیلا جلیّاً على حقانیّة دعوته... تذرّعوا بحجّة اُخرى على سبیل الاستهزاء والسخریة، وهی أنّه لم لا تأت ـ یا محمّد ـ بمعجزة من المعاجز التی جاء بها موسى وعیسى (وقالوا لولا أنزل علیه آیات من ربّه).

ولِم لَم یکن لدیه مثل عصى موسى ویده البیضاء ونفخة المسیح؟!

ولم لا یهلک أعداءه بمعاجزه، کما فعل موسى وشعیب وهود ونوح بأممهم المعاندین؟!.

أو کما یعبّر على لسانهم القرآن فی الآیات 90 ـ 93 من سورة الإسراء (وقالوا لن نؤمن

لک حتى تفجّر لنا من الأرض ینبوعاً * أو تکون لک جنّة من نخیل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجیراً * أو تسقط السماء کما زعمت علینا کسفاً أو تأتی بالله والملائکة قبیلا * أو یکون لک بیت من زخرف أو ترقى فی السماء ولن نؤمن لرقیّک حتى تنزل علینا کتاباً نقرؤه قل سبحان ربّی هل کنت إلاّ بشراً رسول).

ومن دون شک فإنّ النّبی(صلى الله علیه وآله) کانت لدیه معاجز غیر القرآن الکریم، کما أنّ التواریخ تصرّح بذلک أیضاً... إلاّ أنّ اُولئک لم یکن قصدهم من وراء کلامهم الحصول على معجزة، بل کان قصدهم ـ من جهة ـ أن لا یعتبروا القرآن شیئاً مهماً وکتاباً إعجازیاً، ومن جهة اُخرى کانوا یریدون معجزات مقترحة: «والمراد من المعجزات المقترحة هو أن یأتی النّبی(صلى الله علیه وآله) طبقاً لرغبات هذا وذاک بمعاجز خارقة للعادة یقترحونها علیه، فمثلا یرید منه بعضهم أن یفجّر له الأرض ینابیع من الماء ا لزلال، ویرید الآخر منه أن یقلب له الجبال التی فی مکّة ذهباً، ویتذرّع الثّالث بأنّ هذا لا یکفی أیضاً بل ینبغی أن یصعد إلى السماء، وهکذا یجعلون المعجزة على شکل ألعوبة لا قیمة لها، وآخر الأمر.. وبعد رؤیة کل هذه الاُمور یتهمونه بأنّه ساحر».

لذلک فإنّ القرآن یقول فی الآیة 111 من سورة الأنعام: (ولو أنّنا نزلنا إلیهم الملائکة وکلّمهم الموتى وحشرنا علیهم کل شیء قبلا ما کانوا لیؤمنو).

وعلى کل حال فإنّ القرآن، للردّ على ذرائع هؤلاء المحتالین ذوی الحجج الواهیة، یدخل من طریقین:

فیقول أوّلا فی خطابه لنبیّه: (قل إنّما الآیات عند الله) أی قل لاُولئک المعاندین أنّ الله یدری أیة معجزة تناسب أی زمان وأی قوم، وهو یعلم أی الأفراد هم أتباع الحق، وینبغی أن یریهم المعاجز الخارقة للعادة، وأی الأفراد المتذرّعون وأتباع هوى النفس؟!

ثمّ یضیف القرآن معقباً أن قل: (وإنّما أنا نذیر مبین).. فمسؤولیتی الإنذار ـ فحسب ـ والإبلاغ وبیان کلام الله، أمّا المعاجز والاُمور الخارقة للعادة فهی بأمر الله.

والجواب الآخر هو قوله تعالى: (أو لم یکفهم أنا أنزلنا علیک الکتاب یتلى علیهم).

فهم یطلبون معاجز مادیة «جسمانیة»، والقرآن بحدّ ذاته أعظم معجزة معنویة..

وهم یریدون معجزة عابرة لا تمکث طویلا، فی حین أنّ القرآن معجزة خالدة تتلى آیاته لیل نهار علیهم وعلى الأجیال من بعدهم.

ترى هل یعقل أن یأتی إنسان اُمّی وحتى لو کان یقرأ ویکتب فرضاً بکتاب بهذا المحتوى العظیم والجاذبیة العجیبة، التی هی فوق قدرة الإنسان والبشر، ثمّ یدعوا أهل العلم متحدیاً لهم للإتیان بمثله فیعجزون عن الإتیان بمثله؟!

فلو کانوا حقّاً طلاّب معجزة، فقد آتیناهم بنزول القرآن أکثر ممّا طلبوه إلاّ أنّهم لم یکونوا طلاّب معجزة، بل هم متذرّعون بالأباطیل!.

وینبغی الإلتفات إلى أنّ التعبیر (أو لم یکفهم) إنّما یستعمل ـ غالباً ـ فی موارد یکون الإنسان قد أدّى عملا فوق ما ینتظره الطرف الآخر، وهو غافل عنه أو یتغافل عنه، کأن یقول مثلا: لم أحصل على الخدمة الفلانیّة، فی حین أنّ الخدمة التی قدمت إلیه ـ کما فی هذه الحال ـ أکبر خدمة، إلاّ أنّه لا یعتبرها شیئاً، ونقول له: أو لم یکفک ما قدمناه؟!

ثمّ بعد هذا کله ینبغی أن تکون المعجزة منسجمة مع ظروف «الزمان والمکان وکیفیة دعوة النّبی» فالنّبی الذی یدعوا إلى مبدأ خالد، ینبغی أن تکون معجزته خالدة أیضاً.

والنّبی الذی تستوعب دعوته العالم وتستوعب القرون والأعصار المقبلة، لابدّ له من أن یأتی بمعجزة نیّرة «روحیة وعقلانیة» لیجلب إلیه أفکار جمیع العلماء والمفکرین، ومن المسلّم به أنّ مثل هذا الهدف یتناسب مع القرآن، لا عصى موسى ولا یده البیضاء.

وفی نهایة الآیة یضیف القرآن للتأکید والتوضیح بصورة أجلى، فیقول: (إنّ فی ذلک لرحمةً وذکرى لقوم یؤمنون).

«ذلک» هنا إشارة إلى الکتاب المنزل من السماء، وهو القرآن.

أجل، إنّ القرآن رحمة «وسیلة» للذکرى والتذکر أیضاً، فهو للمؤمنین الذین فتحوا قلوبهم بوجه الحقیقة، والذین یبتغون النور والطریق السویّ هو لهم رحمة إلهیة یحسونها بکل وجودهم، ویشعرون بالإطمئنان والدعة عنده.. وکلّما قرأوا آیاته تذکروا، فهی لهم ذکرى وأیة ذکرى؟!

ولعل الفرق بین «الرحمة» و«الذکرى» أنّ القرآن لیس معجزة وذکرى فحسب، بل هو إضافة إلى کل ذلک یحتوی على القوانین التی تمنح الرحمة والمناهج التربویة والإنسانیة.

فمثلا کانت عصى موسى معجزة فحسب، إلاّ أنّها لم یکن لها أثرٌ فی حیاة الناس الیومیة، غیر أنّ القرآن معجزة،هو فی الوقت ذاته منهج کامل الحیاة ورحمة أیضاً.

ولمّا کان کل مدع بحاجة إلى الشاهد، فالقرآن یبیّن فی الآیة الاُخرى أنّ خیر شاهد هو الله (قل کفى بالله بینی وبینکم شهید).

وبدیهی أنّه کلّما کان إطلاع الشاهد وشهادته أکثر، فإنّ قیمة الشهادة تکون أهم، لذلک یضیف القرآن بعدئذ قائلا: (یعلم ما فی السماوات والأرض).

والآن لنعرف کیف شهد الله على حقّانیّة نبیّه(صلى الله علیه وآله)؟!

یحتمل أن تکون هذه الشهادة شهادة عملیة، لأنّه حین یؤتی الله نبیّه معجزة کبرى کالقرآن، فقدوقع على سند حقّانیّته وأمضاه.

ترى هل یمکن أن یأتی الله الحکیم العادل بمعجزة على ید کذّاب، والعیاذ بالله! فعلى هذا کانت طریقة إعطاء المعجزة لشخص النّبی(صلى الله علیه وآله) ـ بنفسها ـ أعظم شهادة على نبوّته من قبل الله.

وإضافةً للشهادة العملیة المتقدمة، نقرأ فی آیات کثیرة من القرآن شهادة قولیة فی نبوّة النّبی(صلى الله علیه وآله)، کما فی الآیة 40 من سورة الأحزاب (ما کان محمّد أبا أحد من رجالکم ولکن رسول الله وخاتم النّبیین)، وفی الآیة 29 من سورة الفتح أیضاً: (محمّد رسول اللّه والذین معه أشداء على الکفار رحماء بینهم).

قال بعض المفسّرین: إنّ هذه الآیة کانت جواباً على ما قاله بعض رؤوساء الیهود من أهل المدینة، أمثال «کعب بن الأشرف» وأتباعه، إذ قالوا: یا محمّد، من یشهد على أنّک مرسل من قبل الله، فنزلت هذه الآیة: (قل کفى بالله بینی وبینکم شهید)!.

کما یمکن أن تفسّر الآیة المتقدمة بتفسیر آخر وبیان ثان، وذلک أنّ المراد من شهادة الله فی الآیة هی ما سبق من الوعد والذکر فی کتب الله السابقة «کالتّوراة والإنجیل» ویعلم بذلک علماء أهل الکتاب بصورة جیدة!.

وفی الوقت ذاته لا منافاة بین التفسیرات الثلاثة الآنفة الذکر، ومن الممکن أن تجتمع هذه التفاسیر فی معنى الآیة أیضاً.

وتختتم الآیة بنحو من الوعید والتهدید لاُولئک الکفّار بالله، فیقول: (والذین آمنوا بالباطل وکفروا بالله اُولئک هم الخاسرون).

وأی خسران أعظم من أن یعطی الإنسان جمیع وجوده فی سبیل لا شیء؟! کما فعله المشرکون، فقد أعطوا قلوبهم وأرواحهم للأوثان والأصنام.. ووظّفوا جمیع قواهم الجسمانیة والإمکانات الاجتماعیة والفردیة فی سبیل الإعلام والتبلیغ لمذهبهم الوثنی وأهملوا ذکر الله، فلم یُعد علیهم هذا إلاّ بالضرر والخسران!.

وغالباً ما یشیر القرآن إلى هذا الخسران فی آیاته، وفی بعض الآیات یرد التعبیر بکلمة «أخسر» وهی إشارة إلى أنّه لیس فوق هذا الخسران من خسارة ولا أعظم منه!.. (راجع آیات السور هود 22 والنمل 5 والکهف 103).

والمثل الأهمّ هو أنّه قد یتفق للإنسان أحیاناً أن یتضرر فی معاملته ویخسر رأس ماله ویُغلب على أمره، وقد تتسع هذه الدائرة أحیاناً فیثقل کاهله بالدیون، وهذه الحالة أسوأ الحالات والمشرکون هم فی مثل هذه الحالة، بل قدیکونون سبباً لضلال الآخرین وخسرانهم، وکما یصطلح علیه: «الفشل سلسلة متصلة»(1).

فی الآیات المتقدمة عرض قسمان من ذرائع الکفّار قبال دعوة النّبی(صلى الله علیه وآله) وقد أجیب عنهما:

الأوّل: کان قولهم: لم لا یأتی بمعجزة؟!

فأجاب القرآن: إنّ هذا الکتاب المنزل من السماء هو أعظم معجزة.

والثّانی سؤالهم: من الشاهد على صدق دعواک وحقانیّة النبوّة عندک؟

فأجاب القرآن: (کفى بالله شهیداً بینی وبینکم یعلم ما فی السماوات والأرض).

أمّا فی الآیة التالیة فإشارة إلى الذریعة الثّالثة إذ تقول: (ویستعجلونک بالعذاب) إذ یقولون: لو کان عذاب الله حقّاً على الکافرین فلم لا یأتینا!؟

فیجیب القرآن على هذه الذریعة بثلاثة أجوبة.

الأوّل: (ولولا أجل مسمّى لجاءهم العذاب).

وهذا الزمان المعین «الأجل» إنّما هو لهدف أصلی، للإرعواء عن باطلهم وتیقظهم، أو إتمام الحجة علیهم، فالله لا یستعجل أبداً فی أمره، لأنّ العجلة خلاف حکمته.

والثّانی: إنّ اُولئک الذین یتذرّعون بهذا القول ما یدریهم لعل العذاب یأخذهم على حین غرة من أنفسهم (ولیأتینهم بغتةً وهم لا یشعرون)(2).

وبالرغم من أنّ موعد العذاب ـ فی الواقع ـ معین ومقرّر إلاّ أنّ المصلحة تقتضی ألاّ یطّلعوا علیه، وأن یأتیهم دون مقدمات، لأنّه لو عرف وقته لکان باعثاً على تجرؤ الکفّار والمذنبین وجسارتهم... وکانوا یواصلون الذنب والکفر إلى آخر لحظة... وحین یأزف الوعد بالعذاب فإنّهم سیتجهون بالتوبة ـ جمیعاً ـ إلى الله وینیبون إلیه.

والحکمة التربویة لمثل هذا العقاب تقتضی أن یکتم موعده، لتکون کل لحظة ذات أثر بنفسها، ویکون الخوف والإستیحاش منها عاملا على الردع، ویتّضح ممّا قلناه ـ ضمناً ـ أنّ المراد من جملة (وهم لا یشعرون) لا تعنی أنّهم لا یدرکون أصل وجود العذاب، وإلاّ فإنّ فلسفة العذاب والحکمة منه لا یکون لها أثر، بل المراد أنّهم لا یعرفون اللحظة التی ینزل فیها العذاب ولا مقدماته، وبتعبیر آخر: إنّ العذاب ینزل علیهم کالصاعقة وهم غافلون.

ویظهر من آیات متعددة من القرآن أنّ التذرع بالحجج الواهیة لم یکن منحصراً بأهل مکّة، بل کثیر من الأمم السابقین یلتجئون إلى مثل هذه الذریعة، ویصرون على تعجیل العقوبة والعذاب!.

والثالث: وأخیراً فإنّ الجواب القرآنی یتبیّن فی الآیة إذ یقول: (یستعجلونک بالعذاب وإنّ جهنّم لمحیطة بالکافرین).

فإذا تأخر عنهم عذاب الدنیا، فإنّ عذاب الآخرة واقع لا محالة، ومحیط بهم تماماً وسیصیبهم حتماً بحیث إنّ القرآن یذکره بصورة أمر فعلیٍّ (وکأن جهنّم الآن محیطة بهم).

ویوجد تفسیر آخر أکثر دقّةً لهذه الآیة، وهو أنّ جهنم محیطة، الآن فعلا بالکافرین، من جهتین ـ بالمعنى الواقعی للکلمة.

الجهة الأولى: إنّها جهنم الدنیا، إذ هم على أثر شرکهم وتلوثهم بالذنب یحترقون بجهنم التی أعدّوها لأنفسهم، جهنم الحرب وسفک الدماء، جهنم النزاع والشقاق والاختلافات، جهنم القلق والفزع، جهنم الظلم، وجهنم الهوى والهوس والعناد.

والجهة الثّانیة: طبقاً لظاهر الآیات فی القرآن فإنّ جهنم موجودة فعلا، وکما تقدم سابقاً فإنّ جهنم موجودة فی باطن الدنیا، وبهذا فهی محیطة بهم على نحو الحقیقة... وفی سورة التکاثر إشارة لها أیضاً (کلاّ لو تعلمون علم الیقین * لترون الجحیم * ثمّ لترونها عین الیقین)الآیات 5 ـ 7 من سورة التکاثر(3).

ثمّ یضیف القرآن (یوم یغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم ویقول ذوقوا ما کنتم تعملون)(4).

یمکن أن تکون هذه الآیة توضیحاً لإحاطة عذاب جهنم فی یوم القیامة بالکفّار، ویمکن أن تکون بیاناً مستقلا لذلک العذاب الألیم لهم الذی یحیط بهم الیوم على أثر أعمالهم، وفی غد یتجلى هذا العذاب بوضوح ویکون محسوساً ظاهراً.

وعلى کل حال فذکره لإحاطة العذاب (من فوقهم ومن تحت أرجلهم) وعدم ذکره لبقیة الجهات ـ فی الحقیقة ـ هو لوضوح المطلب، وإضافة إلى ذلک فإنّ نار العذاب إذا امتدت ألسنتها من تحت الأرجل ونزلت على الرؤوس، فإنّها تحیط بجمیع البدن أیضاً وتغشى جمیع أطرافه وجوانبه.

وأساساً فإنّ هذا التعبیر مستعمل فی اللغة العربیة، إذ یقال مثلا: إنّ فلاناً غارق من قرنه إلى قدمه فی مستنقع الفسق وعدم العفة، أى إنّ جمیع وجوده غارق فی هذا الذنب، وبهذا یرتفع الإشکال عند المفسّرین فی ذکر القرآن للجهة العلیا «من فوقهم» والجهة السفلى «من تحتهم» والسکوت عن الجهات الأربع الاُخرى، ویتّضح المراد منه بالتقریر الذی بیّناه!

أمّا جملة (ذوقوا ما کنتم تعملون) التی یظهر أنّ قائلها هو الله تعالى، فهی بالإضافة إلى أنّها نوع من العقوبة النفسیة لمثل هؤلاء الأشخاص، فهی کاشفة عن هذه الحقیقة، وهی أنّ عذاب الله لیس إلاّ انعکاساً للأعمال التی یقوم بها الإنسان نفسه فی النشأة الآخرة!.

1. لنا فی هذا الصدد بحث مفصّل بیّناه فی ذیل الآیة 103 من سورة الکهف.
2. «البغتة» مشتقة من «البغت» على زنة وقت ومعناه التحقق المفاجىء وغیر المنتظر لأمر.
3. لمزید الإیضاح یراجع ـ فی هذا الصدد تفسیر الآیة 123 من سورة آل عمران.
4. یرى بعض المفسّرین أنّ کلمة «یوم» متعلقة بفعل محذوف مقدر، وقال بعضهم: هو متعلق ب «محیطة».