الذین سافروا إلى مکّة یعلمون جیداً أنّها تقع بین جبال صخریة یابسة لا ماء فیها ولا کلأ، وکأنّ الصخور وضعت فی أفران حارّة ثمّ صبّت فی أماکنها. وفی نفس الوقت فهی أکبر مرکز للعبادة وأقدم قاعدة للتوحید على وجه المعمورة، وکذلک هی حرم الله الآمن.
وهنا قد یرد هذا السؤال فی أذهان الکثیرین وهو: لماذا جعل الله هذا المرکز المهمّ فی مثل هذه الأرض؟
یجیب الإمام علی (علیه السلام) على هذا السؤال من خلال أوضح العبارات وأجمل التعابیر الفلسفیّة فی خطبته القاصعة حیث یقول: «وضعه بأوعر بقاع الأرض صخراً وأقلّ نتائق الدنیا مدراً... بین جبال خشنة ورمال دمثة... ولو أراد سبحانه أن یضع بیته الحرام ومشاعره العظام بین جنّات وأنهار وسهل وقرار، جمّ الأشجار، دانی الثمار، ملتفّ البنا، متّصل القوى، بین برّة سمراء وروضة خضراء، وأریاف محدقة، وعراص مغدقة وریاض ناظرة وطرق عامرة، لکان قد صغر قدر الجزاء على حسب ضعف البلاء، ولو کان الأساس المحمول علیها والأحجار المرفوع بها بین زمردة خضراء، ویاقوتة حمراء، ونور وضیاء، لخفّف ذلک مصارعة الشکّ فی الصدور، ولوضع مجاهدة إبلیس عن القلوب، ولنفى معتلج الریب من الناس، ولکنّ الله یختبر عباده بأنواع الشدائد، ویتعبّدهم بأنواع المجاهد، ویبتلیهم بضروب المکاره، إخراجاً للتکبّر من قلوبهم، وإسکاناً للتذلّل فی نفوسهم ولیجعل ذلک أبواباً فتحاً إلى فضله، وأسباباً ذللا لعفوه» (1) .