تعقیباً للآیات السابقة فی الحدیث عن برنامج المشرکین والذین کفروا بأنعم الله وکون مصیرهم إلى دار البوار، تتحدّث هذه الآیات عن برنامج عباد الله المخلصین والنعم النازلة علیهم، یقول تعالى: (قل لعبادی الّذین آمنوا یقیموا الصّلاة وینفقوا ممّا رزقناهم سرّاً وعلانیة)قبل أن یأتی ذلک الیوم الذی لا یستطیع فیه الإنسان من التخلّص من العذاب بشراء السعادة والنعیم الخالد، ولا تنفع الصداقة حینئذ (من قبل أن یأتی یوم لا بیع فیه ولا خلال).
ثمّ تتطرّق الآیة إلى معرفة الله عن طریق نعمه، معرفة تؤدّی إلى إحیاء ذکره فی القلوب، وتحثّ الإنسان على تعظیمه فی مقابل لطفه وقدرته، لأنّ من الاُمور الفطریة أن یشعر الإنسان فی قلبه بالحبّ والودّ لمن أعانه وأحسن إلیه.
ویبیّن هذا الموضوع من خلال عدّة آیات (الله الّذی خلق السّماوات والأرض وأنزل من السّماء ماءً فأخرج به من الثّمرات رزقاً لکم).
ثمّ أنّه (وسخّر لکم الفلک) سواء من جهة موادّها الأوّلیة المتوفّرة فی الطبیعة، أو من جهة القوّة المحرّکة لها وهی الریاح التی تهب على البحار والمحیطات بصورة منتظمة لتسییر هذه السفن فتنقل الإنسان وما یحتاج إلیه من منطقة إلى اُخرى بیسر وسهولة: (لتجری فی البحر بأمره).
(وسخّر لکم الأنهار) کی تسقوا من مائها زروعکم، وتشربوا أنتم وأنعامکم، وفی کثیر من الأحیان تکون طریقاً للسفن والقوارب، وتستفیدون منها فی صید الأسماک.
ولیست موجودات الأرض ـ فقط ـ مسخّرةً لکم، بل (وسخّر لکم الشّمس والقمر دائبین) (1) .
ولیست مخلوقات العالم بذاتها فقط، بل حتى الحالات العرضیة لها هی فی خدمتکم: (وسخّر لکم اللیل والنّهار وآتاکم من کلّ ما سألتموه) من احتیاجاتکم البدنیّة والاجتماعیة وجمیع وسائل السعادة والرفاه (وإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوه) لأنّ النعم المادیة والمعنویة للخالق شملت جمیع وجودکم وهی غیر قابلة للإحصاء، وعلاوةً على ذلک فإنّ ما تعلمونه من النعم بالنسبة لما تجهلونه کقطرة فی مقابل البحر.
وعلى الرغم من کلّ هذه الألطاف والنعم ف(إنّ الإنسان لظلوم کفّار).
فلو کان الإنسان یستفید من هذه النعم بشکلها الصحیح لاستطاع أن یجعل الدنیا حدیقة غنّاء ولنفّذ مشروع المدینة الفاضلة، ولکن بسبب عدم الاستفادة الصحیحة لها أصبحت حیاته مظلمة، وأهدافه غیر سامیة، فتراکمت علیه المشاکل والصعاب وقیّدته بالسلاسل والأغلال.
1. «دائبین» من مادّة «الدؤوب» بمعنى إدامة العمل طبقاً للسنّة الثابتة، وبما أنّ الشمس والقمر مستمرّان بشکل ثابت من ملایین السنین، وما لها من فوائد عظیمة للکائنات، لا نجد هناک عبارة لهما أفضل من دائبین.
