بعد ما بحثنا عن الباطل وأنّه کالرماد المتناثر إذا إشتدّت به الریح، نبحث فی هذه الآیة عن الحقّ وإستقراره، یقول الله تعالى مخاطباً النّبی (صلى الله علیه وآله) باعتباره الاُسوة لکلّ دعاة الحقّ (ألم تر أنّ الله خلق السّماوات والأرض بالحقّ).
«الحقّ» کما یقول الراغب فی مفرداته «المطابقة والتنسیق» وله استعمالات اُخرى: فتارةً یستعمل الحقّ فی العمل الصادر وفقاً للحکمة والنظام کما فی قوله تعالى: (هو الّذی جعل الشّمس ضیاءاً والقمر نوراً... ما خلق الله ذلک إلاّ بالحقّ). (1)
وتارةً یطلق على الشخص الذی قام بهذا العمل المحکم، کما نطلقها على الله عزّوجلّ (فذلکم الله ربّکم الحقّ). (2)
وتارةً اُخرى یطلق على الإعتقاد الذی یطابق الواقع کما فی قوله تعالى: (فهدى الله الّذین آمنوا لما اخْتلفوا فیه من الحقّ). (3)
ومرّةً یقال للقول والعمل الذی یتحقّق فی الوقت المناسب کما فی قوله تعالى: (حقّ القول منّی لأملأنّ جهنّم). (4)
وعلى أیّة الحال فمقابل «الحقّ» الباطل والضلال واللعب وأمثالهما.
لکنّ الآیة التی نحن بصددها تشیر إلى المعنى الأوّل، وهو إنشاء عالم الخلق. حیث توضّح أن الغرض من خلق السّماء والأرض هو الحکمة والنظام والحساب، فالله تعالى لیس محتاجاً فی خلقها ولا ناقصاً لکی یسدّ نقصه بها، بل هو الغنی عن کلّ شیء، وهذا العالم الواسع دار لنمو المخلوقات وتکاملها.
ثمّ یضیف: إنّ الدلیل فی عدم الحاجة إلیکم ولا إلى إیمانکم هو: (إن یشأ یذهبکم ویأت بخلق جدید).
وهذا العمل لیس صعباً عند الله (وما ذلک على الله بعزیز).
والشاهد على هذا القول فی سورة النساء (وإن تکفروا فإنّ لله ما فی السّماوات وما فی الأرض وکان الله غنیّاً حمیداً * إن یشأ یذهبکم أیّها النّاس ویأت بآخرین وکان الله على ذلک قدیر). (5) وهذا التّفسیر بخصوص الآیة أعلاه منقول عن ابن عبّاس.
وهناک احتمال آخر، وهو أنّ الجملة أعلاه تشیر إلى مسألة المعاد وأنّ الله قادر على أن یفنی جمیع الناس ویأت بخلق آخر، فهل تشکّون فی مسألة المعاد وبعثکم من جدید؟
1. یونس، 5.
2. یونس، 32.
3. البقرة، 213.
4. السجدة، 13.
5. النساء، 131 و133.
