بعد ما کشفت الآیات السابقة عن وجهی الحقّ والباطل من خلال مثال واضح وبلیغ، أشارت هذه الآیة إلى مصیر الذین إستجابوا لربّهم والذین لم یستجیبوا لهذه الدعوة واتّجهوا صوب الباطل. تقول أوّلا: (للّذین إستجابوا لربّهم الحسنى).
«الحسنى» فی معناها الواسع تشمل کلّ خیر وسعادة، بدءاً من الخصال الحسنة والفضائل الأخلاقیة إلى الحیاة الاجتماعیة الطاهرة والنصر على الأعداء وجنّة الخلد.
ثمّ تضیف الآیة (والّذین لم یستجیبوا له لو أنّ لهم ما فی الأرض جمیعاً ومثله معه لافتدوا به).
لا توجد صیغة أوضح من هذه الآیة فی بیان شدّة عذابهم وعقابهم، یمتلک الإنسان کلّ ما فی الأرض وضعفه أیضاً ویفتدی به للنجاة ولا یحصل النجاة. تشیر هذه الجملة فی الواقع إلى آخر اُمنیة والتی لا یمکن أن یتصوّر أکثر منها، وهی أن یمتلک الإنسان کلّ ما فی الأرض، ولکن شدّة العذاب للظالمین ومخالفی الحقّ تصل بهم إلى درجة أن یفتدوا بکلّ هذه الاُمنیة أو بأکثر منها لنجاتهم. ولنفرض إنّها قُبِلَت منهم فتکون نجاتهم من العذاب فقط، ولکن الثواب العظیم یکون من نصیب الذین إستجابوا لدعوة الحقّ.
ومن هنا یتّضح أنّ العبارة (ومثله معه) لیس المقصود منها أن یکون لهم ضعف ما فی الأرض، بل أنّهم مهما ملکوا أکثر من ذلک فانّهم مستعدّون للتنازل عنه مقابل نجاتهم من العذاب. ودلیله واضح، لأنّ الإنسان یطلب کلّ شیء لمنفعته، ولکن عندما یجد نفسه غارقاً فی العذاب فما فائدة تملکه للدنیا کلّها؟
وعلى أثر هذا الشقاء (عدم قبول ما فی الأرض مقابل نجاتهم) یشیر القرآن الکریم إلى شقاء آخر (اُولئک لهم سوء الحساب).
فما هو المقصود من سوء الحساب؟
للمفسّرین آراء مختلفة حیث یعتقد البعض أنّه الحساب الدقیق بدون أی عفو أو مسامحة، فسوء الحساب لیس بمفهوم الظلم، لأنّ الله سبحانه وتعالى هو العدل المطلق، ویؤیّد هذا المعنى الحدیث الوارد عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنّه قال لرجل: «یافلان مالک ولأخیک؟» قال: جعلت فداک کان لی علیه حقّ فاستقصیت منه حقّی إلى آخره، وعند سماع الإمام لهذا الجواب غضب وجلس ثمّ قال: «کأنّک إذا استقصیت حقّک لم تسیء إلیه! أرأیت ما حکى الله عزّوجلّ (ویخافون سوء الحساب) أتراهم یخافون الله أن یجور علیهم؟! لا والله ما خافوا إلاّ الإستقصاء فسمّاه الله عزّوجلّ سوء الحساب، فمن إستقصى فقد أساءه» (1) .
وقال البعض: المقصود من سوء الحساب، أنّه یلازم حسابهم التوبیخ والملامة وغیرها، فبالإضافة إلى خوفهم من العذاب یؤلمهم التوبیخ.
ویقول البعض الآخر: المقصود هو الجزاء الذی یسوؤهم، کما نقول: إنّ فلان حسابه نقی، أو لآخر: حسابه مظلم، وهذا یعنی نتیجة حسابهم جیدة أو سیّئة، أو تقول: (ضع حسابه فی یده) یعنی حاسبه طبقاً لعمله.
هذه التفاسیر الثلاثة غیر متضادّة فیما بینها، ویمکن أن یستفاد منها فی تفسیر الآیة، وهذا یعنی أنّ هؤلاء الأفراد یحاسبون حساباً دقیقاً، وأثناء حسابهم یُوبّخون ویُلامون ومن ثمّ یستقصى منهم.
وفی نهایة الآیة إشارة إلى الجزاء الثّالث أو النتیجة النهائیة لجزائهم (ومأواهم جهنّم وبئس المهاد).
«المهاد» جمع مهد، بمعنى التهیؤ، ویستفاد منها معنى السریر الذی یستخدم لراحة الإنسان، هذا السریر یهیّأ للاستراحة، وقد ذکر القرآن الکریم هذه الکلمة للإشارة إلى أنّ هؤلاء الطغاة بدلا من أن یستریحوا فی مهادهم یجب أن یحرقوا بلهیب النار.