یستند القرآن الکریم ـ الذی یعتبر کتاب هدایة وتربیة ـ فی طریقته إلى الوقائع العینیّة لتقریب المفاهیم الصعبة إلى أذهان الناس من خلال ضرب الأمثال الحسّیة الرائعة من حیاة الناس، وهنا ـ أیضاً ـ لأجل أن یُجسّم حقائق الآیات السابقة التی کانت تدور حول التوحید والشرک، الإیمان والکفر، الحقّ والباطل، یضرب مثلا واضحاً جدّاً لذلک ..
یقول أوّلا: (أنزل من السّماء ماءً) الماء عماد الحیاة وأصل النمو والحرکة، (فسالت أودیة بقدره) تتقارب السواقی الصغیرة فیما بینها، وتتکوّن الأنهار وتتّصل مع بعضها البعض، فتسیل المیاه من سفوح الجبال العظیمة والودیان وتجرف کلّ ما یقف أمامها، وفی هذه الأثناء یظهر الزَّبد وهو ما یرى على وجه الماء کرغوة الصابون من بین أمواج الماء حیث یقول القرآن الکریم: (فاحتمل السّیل زبداً رابی).
«الرابی» من «الربو» بمعنى العالی أو الطافی، والربا بمعنى الفائدة مأخوذ من نفس هذا الأصل.
ولیس ظهور الزبد منحصراً بهطول الأمطار، بل (وممّا یوقدون علیه فی النّار إبتغاء حلیة أو متاع زبد مثله) (1) أی الفلزات المذابة بالنّار لصناعة أدوات الزینة منها أو صناعة الوسائل اللازمة فی الحیاة.
بعد بیان هذا المثال بشکله الواسع لظهور الزبد لیس فقط فی الماء بل حتى للفلزات وللمتاع، یستنتج القرآن الکریم (کذلک یضرب الله الحقّ والباطل) ثمّ یتطرّق إلى شرحه فیقول: (فأمّا الزّبد فیذهب جفاءً وأمّا ما ینفع النّاس فیمکث فی الأرض).
فأمّا الزبد الذی لا فائدة فیه فیذهب جفاءً ویصیر باطلا متلاشیاً، وأمّا الماء الصافی النقی المفید فیمکث فی الأرض أو ینفذ إلى الأعماق لتتکوّن منه العیون والآبار تروی العطاش، وتروی الأشجار لتثمر، والأزهار لتتفتّح، وتمنح لکلّ شیء الحیاة.
وفی آخر الآیة ـ للمزید من التأکید فی مطالعة هذه الأمثال ـ یقول تعالى: (کذلک یضرب الله الأمثال).
1. تشیر هذه الآیة إلى الأفران التی تستعمل لصهر الفلزات، فهذه الأفران تتمیّز بوجود النّار من تحتها ومن فوقها یعنی نارٌ تحت الفلز ونار فوقه، وهذه من أفضل أنواع الأفران حیث تحیط بها النّار من کلّ جانب.
