مع ملاحظة أنّ القسم المهمّ من القرآن قد جاء على صورة تأریخ للاُمم السابقة وقصص الماضین، فقد یتساءل البعض: لِمَ یحملُ هذا الکتاب التربوی کل هذا «التاریخ» والقصص؟!
وتتضح العلة الحقیقیة للموضوع بملاحظة عدّة نقاط:
1ـ إنّ التاریخ مختبر لنشاطات البشریة المختلفة، وما رسمه الإنسان فی ذهنه من الأفکار والتصورات یجده بصورة عینیة على صفحات التاریخ. وبملاحظة أنّ أکثر المعلومات البشریة توافقاً مع الواقع والحقیقة هی التی تحمل جانباً حسیّاً، فإنّ دور التاریخ فی إظهار الواقعیّات الحیاتیة یمکن درکه جیداً.
فالإنسان یرى باُم عینیه الهزیمة المُردیة ـ لأمّة ما ـ نتیجة اختلافها وتفرقها، کما یرى النجاح المشرق فی قوم آخرین فی ظل اتّحادهم وتوافقهم، فالتاریخ یتحدّث بلغة ـ من دون لسان ـ عن النتائج القطعیة وغیر القابلة للإنکار للتطبیقات العملیة للمذاهب والخطط والبرامج عند کل قوم.
وقصص الماضین مجموعة من أکثر التجارب قیمة، ونعرف أنّ خلاصة الحیاة ومحصولها لیس شیئاً سوى التجربة.
والتاریخ مرآة تنعکس علیها جمیع ما للمجتمعات الإنسانیة من محاسن ومساوىء ورقی وانحطاط وأسبابها.
وعلى هذا فإنّ مطالعة تاریخ الماضین تجعل عمر الإنسان طویلا بقدر أعمارهم حقّاً، لأنّها تضع مجموعة تجاربهم خلال أعمارهم تحت تصرفه واختیاره.
ولهذا یقول الإمام علی (علیه السلام) فی حدیثه التاریخی خلال وصایاه لولده الحسن المجتبى (علیه السلام) فی هذا الصدد: «أی بنی إنی وإن لم أکن عمّرت عُمْرَ من کان قبلی، فقد نظرت فی أعمالهم، وفکّرت فی أخبارهم، وسرت فی آثارهم، حتى عُدت کأحدهم، بل کأنّی بما إنتهى إلی من اُمورهم قد عمرت من أوّلهم إلى آخرهم» (1) .
والتاریخ الذی نتحدث عنه طبعاً هو التاریخ الخالی من الخرافات والأکاذیب والتملّقات والتحریفات.
ولکن ـ وللأسف ـ مثل هذا النوع من التاریخ قلیل جداً.
ولا ینبغی أن نبعد عن النظر ما للقرآن من أثر فی بیان «نماذج» من التاریخ الأصیل وإراءتها.
التاریخ الذی ینبغی أن یکون کالمرآة الصافیة لا المقعّرة.
التاریخ الذی لا یتحدث عن الوقائع فحسب، بل یصل إلى الجذور ویسترشف النتائج.
فمع هذه الحال لِمَ لا یستند القرآن ـ الذی هو کتاب تربوی عال فی فصوله ـ على التاریخ ویأتی بالشواهد والأمثال من قصص الماضین؟!
2ـ ثمّ بعد هذا فإنّ للتاریخ والقصّة جاذبیة خاصّة، والإنسان واقع تحت هذا التأثیر الخارق للعادة فی جمیع أدوار حیاته من سنّ الطفولة حتى الشیخوخة.
ولذلک فإنّ التاریخ والقصّة یشکلان القسم الأکبر من آداب العالم وآثار الکتّاب. وأحسن الآثار التی خلّفها الشعراء والکتاب الکبار سواء کانوا من بلاد العرب أو من فارس أو من بلاد اُخرى هی قصصهم.
فأنت تلاحظ «الکلستان» ـ لسعدی و«الشاهنامة» لفردوسی و«الخمسة» للنظامی وکذلک آثار «فیجتور هیجو» الفرنسی و«شکسبیر» الإنجلیزی و«غوتِه» الألمانی جمیعها کتبت على هیئة قصص جذابة».
والقصّة سواء کُتبت نثراً أو شعراً، أو عُرضت على شاشة المسرح أو بواسطة الفیلم السینمائی، فإنّها تترک أثراً فی المشاهد والمستمع دونها أثر الاستدلالات العقلیة فی مثل هذا التأثیر.
والعلّة فی ذلک قد تکون أنّ الإنسان حسّی بالطبع قبل أن یکون عقلیاً ویتخبط فی المسائل المادیة قبل أن یتعمق فی المسائل الفکریة.
وکلما ابتعد الانسان عن میدان الحسّ، باتجاه المسائل العقلیة کانت هذه المسائل أثقل على الذهن وأبطأ هضماً.
ومن هنا نلاحظ أنّه لأجل بیان الاستدلال العقلی یستمدّ المفکرون فی المسائل الاجتماعیة والحیاتیة المختلفة من الأمثلة الحسیّة، وأحیاناً یکون للمثال المناسب والمؤثر فی الاستدلال قیمة مضاعفة، ولذلک فإنّ العلماء الناجحین هم اُولئک الذین لهم هیمنة على انتخاب أحسن الأمثلة.
ولم لا یکون الأمر کذلک، والاستدلالات العقلیة هی حصیلة المسائل الحسّیة والعینیّة والتجریبیّة؟!
3ـ القصّة والتاریخ مفهومان عند کل أحد، على خلاف الاستدلالات العقلیة، فإنّ الناس فی فهمها لیسوا سواسیة... وعلى هذا فإنّ الکتاب الشامل الذی یرید أن یستفید منه البدوی الاُمّی والمتوحش... إلى الفیلسوف والمفکر الکبیر، یجب أن یکون معتمداً على التاریخ والقصص والأمثلة.
ومجموعة هذه الجهات تبیّن أنّ القرآن خطا أحسن الخطوات فی بیان التواریخ والقصص فی سبیل التعلیم والتربیة، ولا سیّما إذا التفتنا إلى هذه النقطة، وهی أنّ القرآن لا یذکر الوقائع التاریخیة فی أیّ مجال بشکل عار من الفائدة، بل یذکر معطیاتها بشکل یُنتفع بها تربویاً، کما سنلاحظ «النماذج» والأمثلة فی هذه السورة.
1. نهج البلاغة، الرسالة 31.
