الرّکون إلى الظالمین یورث مفاسد کثیرة لا تخفى على أحد بصورتها الإجمالیة ولکن کلّما تفحصنا فی هذه المسألة أکثر اکتشفنا مسائل دقیقة وجدیدة. فالرکون إلى الظالمین یبعث على تقویتهم، وتقویتهم مدعاة إلى اتساع رقعة الظلم والفساد فی المجتمعات، ونقرأ فی الأوامر الإسلامیة أنّ الإنسان ما لم یُجبر «وفی بعض الأحیان حتى مع الإجبار» لا یحق له أن یراجع القاضی الظالم من أجل اکتساب حقّه، (1) لأنّ مراجعة مثل هذا القاضی الحاکم الجائر من أجل إحقاق الحق مفهومها أن یعترف ضمناً برسمیته وتقواه، ولعل ضرر هذا العمل أکبر من الخسارة التی تقع نتیجة فقدان الحق.
والرکون إلى الظلمة یؤثر تدریجاً على الثقافة الفکریة للمجتمع، فیضمحل مفهوم «قبح الظلم» ویؤدّی بالناس إلى الرغبة فی الظلم.
وأساساً لا نتیجة من الرکون إلى الغیر بصورة التعلق والإرتباط الشدید إلاَّ سوء الحظ والشقاء، فکیف إذا کان هذا الرکون إلى الظالمین؟
إنّ المجتمع الحضاری المقتدر هو المجتمع الذی یقف على قدمیه، کما یعبر القرآن الکریم فی مثل بدیع فی الآیة 29 من سورة الفتح إذ یقول: (فاستوى على سوقه) والمجتمع الحرّ المستقلّ هو المجتمع الذی یکتفی ذاتیاً، وإرتباطه أو تعاونه مع الآخرین هو إرتباط على أساس المنافع المتبادلة لا على أساس رُکون الضعیف إلى القوی، لأنّ هذا الرکون ـ سواء کان من جهة فکریة أو ثقافیة أو اقتصادیة أو عسکریة أو سیاسیة ـ لا یخلّف سوى الأسر والاستثمار، ولا یثمر سوى المساهمة فی ظلمهم والمشارکة فی خططهم.
وبالطبع فإنّ الآیة المتقدمة لیست خاصّة بالمجتمعات فحسب، بل تشمل العلاقة والإرتباط بین فردین أیضاً، فلا یجوز لإنسان مؤمن أن یرکن إلى أی ظالم، فإنّه إضافة إلى فقدان استقلاله لرکونه إلى دائرة ظلمه، فسیؤدّی إلى تقویته واتساع الفساد والعدوان کذلک.