هذه الآیات ـ فی الحقیقة ـ بمثابة تسلیة لخاطر النّبی (صلى الله علیه وآله)، کما أنّها نازلة لبیان وظیفته ومسؤولیته، وفی الواقع إنّ من أهم النتائج التی یُتوصل إلیها من القصص السابقة للاُمم الماضیة هی أن لا یکترث النّبی ومن معه من أتباعه المؤمنون حقّاً من کثرة الأعداء، ولا یخافوا منهم، ولا یشکّوا أو یتردّدوا فی هزیمة عَبَدة الأصنام والظالمین الذی یقفون بوجوههم، وأن یواصلوا طریقهم ویعتمدوا على الله واثقین به.
لذلک یقول القرآن الکریم فی هذا الصدد: (فلاتکُ فی مِریة ممّا یعبدُ هؤلاء ما یعبدون إلاّ کما یعبدُ آباؤهم من قبل) (1) .
ویقول بعدها مباشرةً: (وإنّا لموفّوهم نصیبهم غیر منقوص) على أنّ جملة موفوهم نصیبهم تعنی أداء الحق کاملا، لکن ذکر کلمة غیر منقوص للتأکید أکثر على هذه المسألة.
وفی الحقیقة إنّ هذه الآیة تجسّم هذه الحقیقة، وهی أنّ ما قرأناه من قصص الاُمم السابقة لم یکن أسطورة، کما أنّها لا تختص بالماضین، فهی سنّة أبدیة وخالدة وهی لجمیع الناس ماضیاً وحاضراً ومستقبلا.
غایة ما فیه الأمر أنّ هذا العقاب فی کثیر من الاُمم السابقة نزل على شکل بلایا مهولة وعظیمة، لکنّه وجد شکلا آخر فی شأن أعداء نبی الإسلام، وهو أنّ الله أعطى القدرة والقوة العظیمة لنبیّه وأصحابه المؤمنین بحیث استطاع أن یهزم أعداءه الظالمین اللجوجین الذین اصروا على انحرافهم وغرورهم.
ویسلّی القرآن قلب النّبی (صلى الله علیه وآله) مرّة اُخرى، فیحدّثه عن موسى وقومه قائلا: (ولقد آتینا موسى الکتاب فاختلف فیه)... ویقول إذا ما رأیت أنّ الله لا یعجل العذاب على قومک، فلأنّ مصلحة الهدایة والتعلیم والتربیة لقومک توجب ذلک وإلاّ فانّ القرار الالهی المسبق یقتضی التعجیل بعملیة التحکیم والقضاء وبالتالی إنزال العقاب (ولولا کلمة سبقت من ربّک لقضی بینهم وإنّهم لفی شکٍّ منه مریب) وبالرغم من ذلک فهم فی شک من هذا الامر (2) .
کلمة «مریب» مشتقّة من «الریب» ومعناه الشکّ المقترن بسوء الظن والنظرة السیئة والقرائن المخالفة، وعلى هذا فیکون مفهوم هذه الکلمة أنّ عبدة الأصنام ما کانوا یترددون فی مسألة حقیقة القرآن أو نزول العذاب على المفسدین فحسب، بل کانوا یدّعون بأنّ لدیهم قرائن تخالف ذلک أیضاً.
أمّا «الراغب» فیقول فی «مفرداته»: إنّ معنى الریب هو الشک الذی یرفع عنه الحجاب بعدئذ ویعود إلى الیقین، فعلى هذا یکون مفهوم الآیة أنّ الحجاب سیکشف عاجلا عن حقانیة دعوتک وکذلک عن عقاب المفسدین وتظهر حقیقة الأمر!
ویضیف القرآن لمزید التأکید (وإنّ کلاًّ لمّا لیوفّینّهم ربّک أعمالهم) وهذا الأمر لیس فیه صعوبة على الله ولا حرج إذ (إنّه بما یعملون خبیر).
الطریف أنّ القرآن یقول: (لیوفّینّهم ربّک أعمالهم) لیشیر مرّة اُخرى إلى مسألة تجسّم الأعمال وأنّ الجزاء والثواب هما فی الحقیقة أعمال الإنسان نفسه التی تتخذ شکلا آخر وتصل إلیه ثانیةً.
وبعد ذکر قصص الأنبیاء والأمم السابقة ورمز نجاحهم ونصرهم، وبعد تسلیة قلب النّبی (صلى الله علیه وآله) وتقویة إرادته، یبیّن القرآن ـ عن هذا الطریق ـ أهمّ دُستور اُمر به النّبی (صلى الله علیه وآله) وهو (فاستقم کما اُ مرت).
«استقم» فی طریق الإرشاد والتبلیغ... استقم فی طریق المواجهة والمواصلة استقم فی أداء الوظائف الإلهیّة ونشر التعلیمات القرآنیة.
ولکن هذه الإستقامة لیست لینال فلانٌ أو فلان مستقبلا زاهراً، ولیست للریاء وما شابه ذلک، ولیست لإکتساب عنوان البطولة، ولا اکتساب «المقام» أو «الثروة» أو «الموفقیة» أو «القدرة»، بل هی لمجرّد طاعة الله وإتّباع أمره (کما اُ مرت).
کما أنّ هذه الإستقامه لیست علیک وحدک، فعلیک أن تستقیم أنت (ومن تاب معک)استقامة خالیةً من کل زیادة ونقصان وإفراط أو تفریط (ولا تطغو) إذ (إنّه بما تعملون بصیر) ولا تخفى علیه حرکة ولا قول ولا أی خطّة اُخرى... الخ.