لاحظنا فی الآیات المتقدمة أنّ نبی الله «صالحاً» من أجل هدایة وتربیة قومه الضالین «ثمود» ذکرهم بعظیم خلق الله لهم من التراب.. وتفویض إعمار الأرض إلیهم إذ قال : (هو أنشأکم من الأرض واستعمرکم فیها...) .
لکن هذه الکلمة مع جمالها الخاص وجذابیتها التی تعنی العمران وتفویض الإختیارات وإعداد الوسائل اللازمة وتهیأتها ، تبدّلت هذه الکلمة فی عصرنا إلى درجة أنّها مُسخت وأصبحت تعطی معنىً معاکساً لمفهوم القرآن تماماً.
ولیست کلمة الاستعمار وحدها انتهت إلى هذا المصیر المشؤوم ، فهناک کلمات کثیرة فی العربیة وفی لغات اُخرى مسخت وحُرّفت وتبدّلت وانقلبت رأساً على عقب ، مثل کلمات «الحضارة» و«الثقافة» و«الحریة» وفی ظلال هذه التحریفات تأخذ هذه الکلمات وأمثالها طریقها إلى التغرّب والبعد عن معناها ، وتتحول لعبادة المادة وأسر الناس وإنکار الحقائق والتوغل فی کل أنواع الفساد وما إلى ذلک .
وعلى کل حال ، فإنّ معنى «الاستعمار» فی عصرنا ومفهومه الواقعی هو «استیلاء الدول العظمى السیاسیة والصناعیة على الأمم المستضعفة قلیلة القدرة ، بحیث تکون نتیجة هذا «الاستیلاء» وهذه «الغارة» امتصاص دمائهم وسلب خیراتهم ومصادرة حیاتهم .
هذا الإستعمار الذی له أوجه شؤم مختلفة ، یتجسم مرّة بشکل «ثقافی» واُخرى بوجه «فکری» وثالثة بوجه «اقتصادی» ورابعة بوجه «سیاسی» وقد یبدو بوجه «عسکری» أیضاً ، وهو الذی بدل دنیانا وجعلها سوداء مظلمة ، فالأقلیة فی هذه الدنیا لدیهم کل شیء ، والأکثریة العظمى فاقدة لکل شیء هذا الاستعمار هو السبب فی الحروب والدمار والانحرافات والفساد والتسابق التسلیحی الذی یقصم الظهر .
القرآن استعمل لهذا المفهوم مفردة «الإستضعاف» التی تنطبق تماماً على هذا المعنى أی «جعل الشیء ضعیفاً» بالمعنى الواسع والشامل للکلمة ، جعل الفکر ضعیفاً ، وجعل الاقتصاد ضعیفاً ، وجعل السیاسة ضعیفة... الخ ..
وقد اتسع مجال الإستعمار إلى درجة بحیث أصبحت کلمة الاستعمار «استعماریة» أیضاً ، وذلک لأنّ مفهومها اللغوی قد انقلب رأساً على عقب تماماً.
وعلى کل حال ، فإن الاستعمار من القَصَصِ الطویلة المثیرة للحزن والألم ، بحیث یمکن أن یقال أنّه یستوعب تاریخ البشریة أجمع وإن تغیّر وجهه دائماً ، ولکن من غیر المعلوم أنّه متى یزول من المجتمعات الإنسانیة ، وتقوم حیاة البشر على أساس التعاون والاحترام المتبادل بین الناس والمساعدة لیتقدم الواحد بعد الآخر فی جمیع المجالات...؟!