«النسیء» على وزن «الکثیر» من مادة «نسأ» ومعناها التأخیر ویمکن أن تکون هذه الکلمة اسم مصدر أو مصدراً، وتطلق على ما یؤجل من إعطاء المال أو قبضه.
وکان عرب الجاهلیة یؤخرون بعض الأشهر الحرم، فمثلا کانوا ینتخبون شهر «صفر» بدل شهر محرم فی عام فیحرمونه، کما حدث لأحد زعماء قبیلة بنی کنانة، إذ خطب فی اجتماع کبیر نسبیّاً فی موسم الحج بمنى وقال: إنّنی أخرت المحرم هذا العام وانتخبت شهر صفر مکانه. (1)
وقد روی عن ابن عباس: إنّ أوّل من سنّ هذه السنّة هو عمرو بن لحی، (2) وقال بعضهم: بل هو قلمس «من بنی کنانة». (3)
وفلسفة هذا العمل «التأخیر والنسیء» فی عقیدتهم أن توالی ثلاثة أشهر حُرم تباعاً کذی القعدة وذی الحجة والمحرم یسبب إضعاف معنویات المحاربین، لأنّ عرب الجاهلیة کانوا یتوقون إلى الإغارة وسفک الدماء والحرب، وأساساً فإنّ الحرب والإغارة وما شاکلهما کان یمثل جزءاً من حیاتهم، وکان من الصعب علیهم أن یتحملوا ثلاثة أشهر حرم (یتوقف فیها القتال) لذا فقد کانوا یسعون لفصل شهر المحرم عن هذه الأشهر (أو یؤخروه)!
کما یرد هذا الاحتمال أیضاً، وهو أنّ شهر ذی الحجة قد یقع فی الصیف أحیاناً، ممّا یسبب علیهم، حرجاً فی موضوع الحج، ونعرف أن الحج لم یکن مسألة عبادیة عندالعرب فحسب، بل کان موسماً کبیراً منذ زمن إبراهیم الخلیل (علیه السلام) یجتمع فیه خلق کبیر، وتقام فیه الأسواق التجاریة والاقتصادیة والمحافل الشعریة والخطابیة، ویفیدون منها فوائد عامّة، لذلک کانوا یبدلون شهر ذی الحجة حسب میولهم ویجعلون مکانه شهراً آخر طیب الأجواء لطیف الهواء.
وربّما کانت کلتا الغایتین صحیحتین.
وعلى کل حال، کان هذا العمل باعثاً على إشعال نار الحرب أکثر فأکثر، وأن تُسحق الغایة من الأشهر الحرُم، وأن یتلاعب بمواسم الحج حسب الأهواء ابتغاء المنافع المادیة.
وقد عدّ القرآن هذا العمل زیادةً فی الکفر، لأنّهم إضافةً إلى شرکهم وکفرهم الإعتقادی فإنّهم بسحقهم هذا الدستور کانوا یرتکبون کفراً عملیاً، ولا سیما أنّهم کانوا یرتکبون مخالفتین فی آن واحد إذ کانوا یحرّمون ما أحل الله ویحلّون ما حرّم الله.
1. بحارالانوار، ج 9، ص 98 و211; تفسیر نورالثقلین، ج 2، ص 217.
2. المصدر السابق.
3. المصدر السابق.
