تحدثت الآیات الأخیرة عن مواقف طائفة من الکافرین، ومواقف اُخرى لطائفة من المؤمنین، کما ذکرت هذه الآیات نهایة کل من الطائفتین، وهی بهذا تأتی مکملة للآیات السابقة التی تحدثت بشأن المنافقین.
وتشیر الآیة: (انّ الّذین یکفرون باللّه ورسله ویریدون ان یفرّقوا بین اللّه ورسله ویقولون نؤمن ببعض ونکفر ببعض ویریدون ان یتخذوا بین ذلک سبیلاً ) إلى طائفة فرقوا بین الأنبیاء ،فاعتبروا بعضهم على حق والبعض الآخر على باطل، فتؤکد أنّ هذا النفر من الناس کفار حقیقیون.
والواقع أنّ هذه الآیة توضح موقف الیهود والنصارى، فالیهود کانوا یرفضون الإیمان بالنّبی عیسى نبی النصارى، والیهود والنصارى معاً کانوا یرفضون الإذعان لنبوة نبی الإسلام (صلى الله علیه وآله) فی حین أنّ کتابیهم السماویین قد أثبتا نبوة هؤلاء الأنبیاء.
وهذا التمییز بین الحقائق الثابتة وقبول بعضها ورفض البعض الآخر، سببه أنّ هؤلاء کانوا یتبعون أهواءهم ونزواتهم ویسیرون وراء عصبیاتهم الجاهلیة، وینبع أحیاناً من حسد هؤلاء ونظرتهم الضیقة.
وهذا دلیل عدم إیمان هؤلاء بالأنبیاء وبالله، لأنّ الإیمان لیس هو قبول ما طابق هوى النفس أو رفض ما یخالف الأهواء والمیول، فهذه الحالة ما هی إلاّ نوع من عبادة الهوى ولا صلة لها بالإیمان، فالإیمان الحقیقی هو ذلک الذی یدفع الإنسان إلى قبول الحقیقة ـ سواء طابقت هواه ومیوله أو خالفتهما ـ ولذلک فإنّ القرآن الکریم اعتبر الذین یزعمون أنّهم یؤمنون بالله وببعض الأنبیاء کفاراً حقیقیین، وعلى هذا الأساس فإن ما یتظاهرون به من إیمان لا حقیقة ولا قیمة له مطلقاً، لأنّه لا ینبع من روح طلب الحقیقة.
والقرآن الکریم یهدد هؤلاء ـ وأمثالهم ـ بأنّهم یلقون الذل والهوان، حیث تقول الآیة: (اولئک هم الکافرون حقا واعتدنا للکافرین عذاباً مهیناً ) وقد یکون وصف العذاب فی هذه الآیة بـ «المهین» سببه أنّ هؤلاء بقبولهم بعض الأنبیاء ورفضهم الإیمان بالبعض الآخر منهم، إنّما یوجّهون الإهانة بحق عدد من الأنبیاء، لذلک یجب أن ینال هؤلاء عذاباً مهیناً یتناسب واهانتهم تلک.
