کنّا قد نوهّنا ـ فی هامش الآیة 3 من نفس هذه السورة ـ بأنّ بعضاً ممن لیس لهم علم استنتجوا ـ من ضم تلک الآیة إلى هذه الآیة ـ أنّ تعدد الزوجات مشروط بتحقیق العدالة بینهنّ، وأنّه لمّا کان تحقیق العدالة أمراً غیر ممکن، فلذلک قالوا بأنّ الإسلام قد منع تعدد الزوجات.
ویفهم من الروایات الإسلامیة أنّ أوّل من طرح هذا الرأی هو «ابن أبی العوجاء» وکان من أصحاب المذهب المادی، ومن المعاصرین للإمام الصّادق (علیه السلام)، وجاء طرحه لرأیه هذا فی نقاش له مع المفکر الإسلامی المجاهد «هشام بن الحکم» فلما أعیى «هشاماً» الجواب توجه من بلدته الکوفة إلى المدینة المنورة «لمعرفة الجواب» فقدم على الإمام الصّادق (علیه السلام)فتعجب الإمام من مقدمه قبل حلول موسم الحج أم العمرة، ولکن هشاماً أخبر الإمام بسؤال ابن أبی العوجاء، فکان جواب الإمام الصّادق (علیه السلام) على السؤال هو أنّ المقصود بالعدالة الواردة فی الآیة الثّالثة من سورة النساء، هی العدالة فی النفقة (وضرورة رعایة الحقوق الزوجیة واُسلوب التعامل مع الزوجة) أمّا العدالة الواردة فی الآیة 129 من نفس السورة (والتی اعتبر تحقیقها أمراً مستحیلا) فالمقصود بها العدالة فی المیول القلبیة، (وعلى هذا الأساس فإن تعدد الزوجات لیس ممنوعاً ولا مستحیلا إذا روعیت فیه الشروط الإسلامیة)، فلما رجع هشام بالجواب إلى ابن ابی العوجاء حلف هذا الأخیر أنّ هذا الجواب لیس من عندک. (1)
ومعلوم أنّ تفسیرنا لکلمتی العدالة ـ الواردتین فی الآیة الثّالثة والآیة 129 من سورة النساء ـ بمعنیین یختلف أحدهما عن الآخر، إنّما هو للقرینة الواضحة الواردة مع کل من الآیتین المذکورتین، لأنّ الآیة الأخیرة تأمر الإنسان أن لا یمیل میلا شدیداً لإحدى زوجاته ویترک الاُخریات فی الحیرة من شأنهنّ، ولهذا فهی تدل على جواز تعدد الزوجات مع اشتراط أن لا یحصل إجحاف بحق إحداهنّ لحساب الاُخرى، مع الإذعان باستحالة تحقق المساواة فی الحب القلبی لکلا الزوجتین، أمّا فی الآیة الثّالثة من سورة النساء فقد ورد التصریح فی أوّلها بجواز تعدد الزوجات.
أمّا الآیة الثانیة من الآیتین الأخیرتین، فهی تشیر إلى هذه الحقیقة، وهی أنّه لو استحال مواصلة الحیاة الزوجیة للطرفین ـ الزوج والزوجة ـ واستحال الإصلاح بینهما، فإنّهما ـ والحالة هذه ـ غیر مرغمین على الإستمرار فی مثل هذه الحیاة المُرّة الکریهة، بل یستطیعان أن ینفصلا عن بعضهما وعلیهما اتخاذ موقف شجاع وحاسم فی هذا المجال دون خوف أو رهبة من المستقبل، لأنّهما لو انفصلا فی مثل تلک الحالة فإنّ الله العلیم الحکیم سیغنیهما من فضله ورحمته، فلا یعدمان الأمل فی حیاة مستقبلیة أفضل، فتقول الآیة الکریمة فی هذا المجال: (وإن یتفرقا یغن الله کلا من سعته وکان الله واسعاً حکیماً ).