لقد أشارت الآیات السابقة إلى اجتماعات سریة شیطانیة کان یعقدها بعض المنافقین أو أشباههم، وقد تطرقت الآیة الأخیرة إلى هذا الأمر بشیء من التفصیل، وکلمة «النجوى» لا تعنی الهمس فقط، بل تطلق على کل اجتماع سری أیضاً، لأنّها مشتقة من المادة «نجوه» على وزن «دفعه» أی بمعنى الأرض المرتفعة، وبما أنّ الأرض المرتفعة تکون شبه معزولة عن الأراضی التی حولها، وأنّ الجلسات السریة والهمس یتّمان بمعزل عن الأفراد الذین یکونون فی الأراضی المحیطة بها سمّیت هذه الأخیرة بالنجوى.

ویرى بعضهم أنّ کلمة «النجوى» مشتقة من مادة «النجاة» أی التحرر، وبمعنى أنّ البقعة المرتفعة تکون بمنأى ومنجى عن خطر السیل، وأنّ الاجتماع السری أو الهمس یکونان بمنجى من معرفة الآخرین.

والآیة هنا تذکر أنّ أغلب الاجتماعات السرّیة التی یعقدها اُولئک تهدف إلى غایات شیطانیة شریرة لا خیر فیها ولا فائدة، إذ تقول: (لا خیر فی کثیر من نجواهم ).

ولکی لا یحصل وهم من أنّ کل نجوى أو همس أو اجتماع سری یعتبر عملا مذموماً أو حراماً جاءت الآیة بأمثال کمقدمة لبیان قانون کلی، وأوضحت الموارد التی تجوز فیها النجوى، مثل أن یوصی الإنسان بصدقة أو بمعونة للآخرین أو بالقیام بعمل صالح أو أن یصلح بین الناس، فتقول الآیة فی هذا المجال: (إلاّ من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بین الناس ).

فإذا کان هذا النوع من النجوى أو الهمس أو الاجتماعات السرّیة لا یشوبه الریاء والتظاهر، بل کان مخصصاً لنیل مرضاة الله، فإنّ الله سیخصص لمثل هذه الأعمال ثواباً وأجراً عظیماً، حیث تقول الآیة: (ومن یفعل ذلک ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتیه أجراً عظیماً ).

وقد عرف القرآن النجوى والهمس والاجتماعات السرّیة ـ من حیث المبدأ ـ بأنّها من الأعمال الشّیطانیة، فی قوله تعالى: (إنّما النجوى من الشیطان... ) (1) والسبب هو أنّ هذه الأعمال غالباً ما تحدث لأغراض سیئة، وحیث إنّ عمل الخیر والشیء النافع والإیجابی لا یحتاج فی العادة إلى أن یکون ـ أو یبقى ـ سرّیاً أو مکتوماً عن الناس، ولذلک فلا حاجة بالتحدث عن مثل هذه الأعمال بالهمس والنجوى، أو فی اجتماعات سرّیة.

ولمّا کان من المحتمل أن تطرأ ظروف استثنائیة تجبر الإنسان على الاستفادة من أسلوب النجوى فی أعمال الخیر، لذلک ورد الاستثناء بصورة مکررة فی القرآن، کما فی قوله تعالى: (یا أیّها الذین آمنوا إذا تناجینم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصیت الرّسول وتناجوا بالبرّ والتقوى... ) (2).

والنجوى إذا حصلت إبتداءً فی جمع من الناس، أثارت لدیهم سوء الظّن حیالها، حتى أنّ سوء الظن قد یبدر من الأصدقاء حیال النجوى التی تحصل بینهم، وعلى هذا الأساس فإنّ الأفضل أن لا یبادر الإنسان إلى النجوى إلاّ إذا اقتضت الضرورة ذلک، وهذه هی فلسفة هذا الحکم الوارد فی القرآن.

وبدیهی أنّ سمعة الإنسان تستلزم ـ أحیاناً ـ اتباع اُسلوب النجوى، ومن جملة هذه الموارد تأتی مسألة الصدقات أو المعونات المالیة، التی أجاز القرآن استخدام النجوى بشأنها لحفظ ماء الوجه وسمعة الأشخاص الذین یتلقون هذه المعونات.

والمجال الآخر للنجوى هو عند الأمر بالمعروف، حیث إنّ هذا الأمر لو تمّ أحیاناً بصورة علنیة لأصبح سبباً فی فضیحة أو خجل الشخص المخاطب بالمعروف بین الناس الحاضرین، وقد یصبح سبباً فی أن یمتنع عن قبول ذلک ویقاوم هذا الأمر الذی عبّرت عنه الآیة بالمعروف.

والحالة الاُخرى التی یجوز فیها النجوى هی فی مجال الإصلاح بین الناس، الذی یقتضی أن یکون سریاً أحیاناً لضمان تحقیقه، إذ من الممکن لو أنّ الأمر تمّ بصورة علنیة لحال دون حدوث الإصلاح، لذلک یجب أن یتمّ الإصلاح بالتحدث إلى کل طرف من أطراف النزاع بصورة خفیة، أی بطریق النجوى.

إذن فالنجوى جائزة وقد تکون ضروریة فی الحالات الثلاث التی مر الحدیث عنها، وکذلک فی حالات مشابهة.

والملفت للنظر فی الحالات الثلاث المذکورة أعلاه هو أنّها تأتی کلها ضمن معنى «الصدقة» وذلک لأنّ من یأمر بالمعروف إنّما یدفع زکاة علمه، ومن یسعى فی إصلاح ذات البین یدفع بذلک زکاة قدرته ومنزلته المؤثرة فی الناس.

وقد نقل عن علی بن أبی طالب أمیر المؤمنین (علیه السلام) قوله: «إنّ الله فرض علیکم زکاة جاهکم کما فرض علیکم زکاة ما ملکت أیدیکم» (3).

ونقل عن النّبی (صلى الله علیه وآله) قوله لأبی أیوب: «ألا أدلک على صدقة یحبّها الله ورسوله تصلح بین الناس إذا تفاسدوا وتقرب بینهم إذا تباعدوا». (4)

1. المجادلة، 10.
2. المجادلة، 9.
3. تفسیر نور الثقلین، ج 1، ص 550، وفی کتب اُخرى للتفسیر.
4. تفسیر القرطبی، ج 3، ص 385، ذیل الآیة مورد البحث.