توضح الآیة الاُولى موضع النّبی (صلى الله علیه وآله) من الناس وحسناتهم وسیئاتهم وتؤکّد أوّلا بأن إطاعة النّبی (صلى الله علیه وآله) هی فی الحقیقة طاعة لله: (ومن یطع الرّسول فقد أطاع الله ) أی لا انفصال بین طاعة الله وطاعة الرّسول، وذلک لأنّ النّبی (صلى الله علیه وآله) لا یخطو أیة خطوة خلافاً لإرادة الله ... کل ما یصدر منه من فعل وقول وتقریر إنّما یطابق إرادة الله سبحانه وتعالى ومشیئته.
ثمّ تبیّن أنّ النّبی (صلى الله علیه وآله) لیس مسؤولا عن الذین یتجاهلون ویخالفون أوامره، کما أنّه لیس مکلّفاً بإرغام هؤلاء على ترک العصیان، بل إنّ مسؤولیة النّبی (صلى الله علیه وآله)هی الدعوة للرسالة الإلهیّة التی بعث بها، والأمر بالمعروف والنهی عن المنکر، وإرشاد الضالین والغافلین تقول الآیة: (ومن تولى فما أرسلناک علیهم حفیظاً ).
وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ کلمة «حفیظ» صفة مشبهة باسم الفاعل، وتدلّ على ثبات واستمرار الصفة فی الموصوف، بخلاف اسم الفاعل «حافظ»، فعبارة «حفیظ» تعنی الذی یراقب ویحافظ بصورة دائمة مستمرة، ویستدل من الآیة على أنّ واجب النّبی (صلى الله علیه وآله) هو قیادة الناس وهدایتهم وإرشادهم، ودعوتهم إلى إتّباع الحقّ واجتناب الباطل، ومکافحة الفساد، وحین یصر البعض على اتّباع طریق الباطل والانحراف عن جادة الحقّ، فلا النّبی (صلى الله علیه وآله)مسؤول عن هذه الانحرافات، ولا المطلوب منه أن یراقب هؤلاء المنحرفین فی کل صغیرة وکبیرة، کما لیس المطلوب منه (صلى الله علیه وآله) أن یستخدم القوة لإرغام المنحرفین على العدول عن انحرافهم، ولایمکنه بالوسائل العادیة القیام بمثل هذه الأعمال.
وعلى هذا الأساس، فإنّ الآیة قد تکون ـ أیضاً ـ إشارة إلى غزوات کغزوة اُحد حیث کان النّبی (صلى الله علیه وآله) مکلّفاً ـ فقط ـ بتجنید الإمکانیات المتوفرة من الناحیة العسکریة فی إعداد خطة للدفاع عن المسلمین حیال هجمات الأعداء، وبدیهی أن تکون إطاعة الرّسول (صلى الله علیه وآله) فی هذا الأمر إطاعة لله، ولو افترضنا أنّ أفراداً عصوا الرّسول فی هذا المجال وأدّى عصیانهم إلى تراجع المسلمین، فالعاصون ـ وحدهم ـ هم المسؤولون عن ذلک، ولیس الرّسول (صلى الله علیه وآله).
والأمر المهم الآخر فی هذه الآیة هو أنّها واحدة من أکثر آیات القرآن دلالة على حجّیة السنّة النّبویة الشّریفة، فهی حکم بوجوب الاذعان للأحادیث الصحیحة المرویة عنه (صلى الله علیه وآله)، واستناداً إلى هذه الآیة لا یجوز لأحد القول بقبول القرآن وحده وعدم قبول أحادیث وسنّة النّبی (صلى الله علیه وآله)، لأنّ الآیة صریحة بأن إطاعة أقوال النّبی (صلى الله علیه وآله) وأحادیثه المرویة عنه بطرق صحیحة، هی بمثابة إطاعة الله.
ومن المنطلق نفسه تثبت حقیقة اُخرى، هی ضرورة إطاعة أئمة أهل بیت النّبی (صلى الله علیه وآله)، وهی ما أکد علیها حدیث «الثقلین» الوارد فی المصادر الإسلامیة السنیة والشیعیة، وفیه بیّن النّبی (صلى الله علیه وآله) ـ صراحة ـ حجیة أحادیث أئمة أهل البیت (علیهم السلام)، ومنه نستنتج أنّ إطاعة أوامرهم هی إطاعة للرسول وبالنتیجة إطاعة لله تعالى، ولما کانت أحادیث أئمة أهل البیت (علیهم السلام) بمثابة أحادیث النّبی (صلى الله علیه وآله)، فلا یستطیع أحد أن یقول: إنّی أقبل القرآن وأرفض أحادیث أهل البیت (علیهم السلام)، فذلک نقض للآیة المذکورة أعلاه وللآیات المشابهة.
ولذلک نقرأ فی الأحادیث التی أوردها صاحب تفسیر البرهان فی تفسیر هذه الآیة مایؤکّد هذه الحقیقة:
إنّ الله وهب نبیّه حقّ الأمر والنهی فی الآیة المذکورة، والنّبی (صلى الله علیه وآله) بدوره وهب هذا الحق لعلی بن أبی طالب (علیه السلام) وسائر الأئمّة (علیهم السلام) من بعده، والناس ملزمون بإطاعة أوامر هذه النخبة الطاهرة (علیهم السلام)، لأنّ أوامر ونواهی النّبی (صلى الله علیه وآله) والأئمّة من أهل بیته الکرام هی أوامر ونواهی الله، وطاعتهم طاعة لله، وهم لا یأتون بشیء من عند أنفسهم وکل ما جاؤوا به للمسلمین هو من عند الله. (1)
أمّا الآیة الثّانیة ففیها إشارة إلى وضع نفر من المنافقین أو المتذبذبین من ضعاف الإیمان، الذین یتظاهرون حین یحضرون عند النّبی (صلى الله علیه وآله) والمسلمین بأنّهم مع الجماعة، ویظهرون الطاعة للرسول (صلى الله علیه وآله) لیدفعوا بذلک الضرر عن أنفسهم ولیحموا مصالحهم الخاصّة، بدعوى الإخلاص والطاعة للنّبی (صلى الله علیه وآله) (ویقولون طاعة ).
وبعد أن ینصرف الناس من عند النّبی (صلى الله علیه وآله) ویختلی هؤلاء بأنفسهم یتجاهلون عهودهم فی إطاعة النّبی ویتآمرون فی ندواتهم الخاصّة ـ السرّیة اللیلیة ـ على أقوال النّبی: (فإذا برزوا من عندک بیّت طائفة منهم غیر الذی تقول واللّه یکتب ما یبیّتون ).
نعرف من هذه الآیة أنّ المنافقین فی زمن الرّسول (صلى الله علیه وآله) کانوا لا یألون جهداً فی التآمر على النّبی (صلى الله علیه وآله)، وکانوا یخططون فی اجتماعاتهم السرّیة للوقوف بوجه الدعوة.
ولکن الله یأمر نبیّه بأن لا یلتفت إلى مکائد هؤلاء، وأن لا یخافهم ولا یخشى خططهم وأن یتجنب الاعتماد علیهم فی مشاریعه، بل یتوکل على الله الذی هو خیر ناصر ومعین: (فاعرض عنهم وتوکل على الله وکفى بالله وکیلا ).
1. تفسیر البرهان، ج 1، ص 396.
