هذه الآیات تشرع فی حدیثها عن الجهاد وتعقّب بذکر قصّة فی هذا الصدّد عن الأقوام السّالفة، مع الإلتفات إلى الأحداث التی مرّت على جماعة من بنی إسرائیل الّذین تهرّبوا من الجهاد بحجّة الإصابة بمرض الطّاعون وأخیراً ماتوا بهذا المرض، یتّضح الإرتباط بین هذه الآیات والآیات السّابقة.
فی البدایة تقول الآیة: (وقاتلوا فی سبیل الله واعلموا أنّ الله سمیع علیم ) یسمع أحادیثکم ویعلم نیاتکم ودوافعکم النفسیة فی الجهاد.
ثمّ یضیف القرآن فی الآیة التالیة: (من ذا الّذی یقرض الله قرضاً حسناً فیضاعفه له أضعافاً کثیرة ) أی ینفق من الأموال التی رزقه الله تعالى إیّاها فی طریق الجهاد وحمایة المستضعفین والمعوزین.
فعلى هذا یکون إقراض الله تعالى بمعنى (الإنفاق فی سبیل الله)، وکما ذکر بعض المفسّرین أنّها تعنی المصارف التی ینفقها الإنسان فی طریق الجهاد، لأنّ تأمین احتیاجات الجهاد فی ذلک الوقت کان فی عهدة المسلمین المجاهدین، فی حین أنّ البعض یرى بأنّ الآیة تشمل کلّ أنواع الإنفاق (1) .
ولکنّ التفسیر الثانی أقرب وأکثر انسجاماً مع ظاهر الآیة، وخاصّة أنّه شاملٌ للمعنى الأوّل أیضاً، وأساساً فإنّ الإنفاق فی سبیل الله ومساعدة الفقراء والمساکین وحمایة المحرومین یُعطی ثمرة الجهاد أیضاً، لأنّ کلاًّ منها یبعث على استقلال المجتمع الإسلامی وعزّته.
(أضعاف) جمع (ضعف) على وزن «عِلم». والضّعف هو أنّ تضیف إلى المقدار مثله أو أمثاله، وقد ورد هنا الجمع مؤکّداً بالکثرة (کثیرة) کما أنّ کلمة (یضاعف) فیها تأکید على هذا المعنى أکثر من کلمة (یُضعّف) (2) ، وکلّ ذلک یدلّ على أنّ الله تعالى یعطی کلّ من ینفق فی سبیله الکثیر الکثیر کالبذرة التی تُبذر فی أرض صالحة وتُسقى فینّمیها ویعیدها إلى صاحبها أضعافاً کثیرة کما سیأتی فی الآیة 261.
وفی ختام الآیة یقول: (والله یقبض ویبصط وإلیه ترجعون )
وتشیر الآیة إلى أنّه لا تتصوروا إن الإنفاق والبذل سوف یؤدّی إلى قلّة أموالکم، لأنّ سعة وضیق ارزاقکم بید الله فهو القادر على أن یعوض ما انفقتموه أضعافاً مضاعفاً، بملاحظة الإرتباط الوثیق لأفراد المجتمع، فإن نفس تلک الأموال التی انفقتموها سوف تعود إلیکم فی الواقع.
هذا من البعد الدنیوی، وأمّا البعد الآخروی للإنفاق فلا تنسوا أنّ جمیع المخلوقات سوف تعود إلى الله عزّوجلّ وسوف یثیبکم حینذاک ویجزل لکم العطاء.
1.التفسیر الکبیر، ج 6، ص 166.
2.قال الراغب فی المفردات، فی مادة «ضعف»: قال البعض: «ضاعفت أبلغ من ضعّفته».
