وفی مقابل ما ذکرنا من الأحادیث الشریفة هنا روایات وردت فی المصادر الحدیثیة تشیر إلى أنّ الإسلام یؤیّد حالة الانزواء والعزلة وتقع على الضد ممّا ذکرناه من الأحادیث السابقة، ومن ذلک:
1 ـ ما ورد عن الرسول الأعظم(صلى الله علیه وآله) قوله: «العُزلَةُ عِبـادَةٌ»(1).
2 ـ ما ورد عن أمیرالمؤمنین(علیه السلام): «مَنْ إِنفَرَدَ عَنِ النَّاسِ أَنَسَ بِاللهِ سُبحـانِهِ»(2).
3 ـ ما ورد أیضاً عن أمیرالمؤمنین(علیه السلام): «فِی اعتِزالِ أَبنـاءِ الدُّنیـا جَمــاعُ الصَّلاحِ»(3).
4 ـ وعن الإمام(علیه السلام) نفسه أیضاً قال: «فِی الإنفِرادِ لِعبـادَةِ اللهِ کُنُوزُ الأَربـاحِ»(4).
5 ـ ونقرأ فی حدیث عن الإمام موسى الکاظم(علیه السلام) أنّه قال لهشام: «الصَّبرُ عَلَى الوَحدَةِ عَلامَةُ عَلى قُوَّةِ العَقلِ فَمَنْ عَقَلَ عَنِ اللهِ إِعتَزَلَ عَنِ الدُّنیـا وَالرَّاغِبِینَ فَیهـا وَرَغِبَ فِی مـا عِندَ اللهِ»(5).
وهذه الأحادیث تدلّ على أنّ الانزواء والابتعاد عن الناس من علامات العقل والمعرفة وسبب لحضور القلب للعبادة والتوصل إلى کثیر من المراتب المعنویة والکمالات الأخلاقیة.
6 ـ وورد فی حدیث آخر عن الإمام الصادق(علیه السلام) أنّه قال: «إِنْ قَدرْتَ أَنْ لا تَخرُجَ مِنْ بَیتِکَ فَافعَل، فَإنَّ عَلَیکَ فِی خُرُوجِکَ ألاّ تَغتَـابَ وَلا تَکذِبَ وَلا تَحسُدَ وَلا تُرائِیَ وَلا تَتصَنَّعَ وَلا تُدهِنَ»(6).
7 ـ قال أمیر المؤمنین(علیه السلام): «سَلامَةُ الإِنسـانِ فِی إِعتَزالِ النَّاسِ»(7).
8 ـ نختم هذا البحث بحدیث آخر عن أمیرالمؤمنین(علیه السلام) ـ وإن کانت الأحادیث فی هذا الباب کثیرة ـ قال: «مَنْ إِعتَزلَ النَّاسَ سَلِمَ مِنْ شَرِّهِم»(8).
وقد یستدل أتباع العزلة والانزواء من المتصوّفة والمرتاضین ومؤیدوهم ببعض الآیات القرآنیة لتبریر مسلکهم الانعزالی، ومن ذلک ما ورد فی الآیة 16 من سوره الکهف حیث تقول: (وَإِذْ اعْتَزَلُْتمُوهُمْ وَمَا یَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ فَأْوُوا إِلَى الْکَهْفِ یَنشُرْ لَکُمْ رَبُّکُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَیُهَیِّیءْ لَکُمْ مِنْ أَمْرِکُمْ مِرفَقاً).
وکذلک فی ما ورد فی سورة مریم(علیها السلام) الآیة 48 و 49 من حدیث ابراهیم(علیه السلام): (وَأَعْتَزِلُکُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَأَدْعُو رَبِّی عَسَى أَلاَّ أَکُونَ بِدُعَاءِ رَبِّی شَقِیّاً * فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا یَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَیَعْقُوبَ وَکُلّاً جَعَلْنَا نَبِیّاً).
فکلا هاتین الآیتین تقرّران أنّ العزلة عن الناس والابتعاد عن المجتمع یتسبب فی القرب من الله تعالى ونیل المواهب الإلهیة ونزول البرکات والرحمة من الله تعالى على هذا الإنسان، وهذا یشیر إلى أنّ العزلة لیست أمراً مذموماً وحسب، بل مطلوبة أیضاً فی دائرة المفاهیم القرآنیة.