إنّ فضیلة العفو والصفح وترک الانتقام والثأر تعتبر أصلاً من الاُصول الشرعیة والعقلیة الواردة فی الکتاب والسنة، ولکنّه لا یعنی عدم وجود الاستثناء فی بعض الموارد، بل هناک موارد یکون العفو والصفح فیها سبباً لجرّأة المجرمین والمنحرفین، ولا شک أنّه لا أحد یرى فی العفو فی مثل هذه الموارد فضیلة أخلاقیة، بل إنّ حفظ نظام المجتمع والنهی عن المنکر والتصدّی لمنع وقوع الجریمة تقتضی عدم التساهل مع المجرم، وترک العفو فی مثل هذه الموارد، والعمل بمقتضى العدل وما یفرضه من العقاب على المجرم.
ولذلک ورد فی القرآن الکریم بالنسبة إلى المقابلة بالمثل فی الآیة 194 من سورة البقرة إشارة إلى هذا المعنى حیث تقول: (فَمَنْ اعْتَدَى عَلَیْکُمْ فَاعْتَدُوا عَلَیْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَیْکُمْ).
وطبعاً هناک احتمال آخر فی تفسیر هذه الآیة، وهو أنّ هذه الآیة فی مقام جواز القصاص العادل فقط ولا تدلّ على الوجوب أو الاستحباب (وفی الاصطلاح أنّ الأمر هنا هو فی مقام توهّم الخطر والمنع).
وعلى أیة حال فإنّ العفو والعقوبة لکل واحدة منهما محلاًّ خاصاً لا ینبغی استخدام أحدهما مکان الآخر، فالعفو إنّما یکون فضیلة فیما لو کان الإنسان قادراً على الإنتقام والمقابلة بالمثل وأنّه لو سلک طریق العفو لم یکن ذلک من موقع الضعف والتخاذل ولا یرى الطرف الآخر أنّ هذا الموقف الإنسانی نقطة ضعف فی هذا الشخص، فمثل هذه الحالة للعفو تکون مفیدة وبنّاءة للطرفین، فإنّها بالنسبة إلى الطرف المظلوم والذی مکنته الظروف من الظالم یسبب فی صفاء قلبه وضبط جماح نفسه وسیطرته على نوازعه وأهوائه النفسانیة، وکذلک یعتبر مفیداً للظالم المغلوب حیث یدفعه إلى إصلاح نفسه وتهذیبها وعدم تکرار ذلک العمل العدوانی.
وقد نجد فی الأحادیث الإسلامیة أیضاً إشارة إلى هذا الاستثناء، ومن ذلک ما ورد فی الحدیث الشریف عن أمیرالمؤمنین(علیه السلام) أنّه قال: «العَفوُ یُفسِدُ مِنَ اللَّئِیمِ بِقَدَرِ إِصلاحِهِ مِنَ الکَرِیمِ»(1).
ونقرأ فی حدیث آخر عن هذا الإمام قوله: «العَفوُ عَنِ المُقِرِّ لا عَنِ المُصِرِّ عَفو»(2).
وأیضاً ورد فی الحدیث الشریف عن هذا الإمام(علیه السلام) أیضاً قوله: «جـاز بِالحَسَنَةِ وَتَجـاوَزَ عَنِ السَّیئَةِ مـا لَم یَکُن ثَلماً فِی الدِّینِ أَو وَهناً فِی سُلطـانِ الإسلامِ»(3).
ففی مثل هذه الموارد یجب التحرّک على مستوى إلحاق الجزاء العادل بالمسیء.
وجاء فی حدیث آخر عن الإمام زین العابدین(علیه السلام) فی تأیید هذا المعنى حیث قال: «حَقٌ مَنْ أَسـاءَکَ أَنْ تَعفُوَ عَنهُ، وَإِنْ عَلِمتَ أَنَّ العَفوَ عَنهُ یضِرُّ إِنتَصَرتَ قـالَ اللهُ تَبـارَکَ وَتَعـالَى وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعدَ ظُلِمهِ فَاُولَئِکَ مـا عَلَیهِم مِنْ سَبِیل»(4).
ولکن لا ینبغی أن یکون وجود هذا الاستثناء سبباً لسوء التصرّف فی بعض الموارد وأن یجعلها بعض الناس ذریعة للإنتقام فی مورد العفو بحجّة أنّ العفو هنا یتسبب فی زیادة الجرأة لدى المذنب والمجرم، بل ینبغی النظر بأخلاص وبعیداً عن حالات التعصّب إلى أصل العفو والصفح وموارد الاستثناء بدّقة کبیرة والعمل طبق هذه الموارد والاستثناءات.
والجدیر بالذکر أنّ العفو فی دائرة إجراء الحدود والتعزیرات الشرعیة غیر جائز إلاّ فی بعض الموارد المنصوصة فی الروایات الإسلامیة، لأنّ إجراء الحد والتعزیر یعدّ من الواجبات الشرعیة فی مواردها.