تفسیر واستنتاج

SiteTitle

صفحه کاربران ویژه - خروج
ورود کاربران ورود کاربران

LoginToSite

SecurityWord:

Username:

Password:

LoginComment LoginComment2 LoginComment3 .
SortBy
 
الأخلاق فی القرآن 3
تنویهالعفو والانتقام فی الروایات الإسلامیة

تتعرض «الآیة الاُولى» من الآیات محل البحث إلى الحدیث عن مسألة المقابلة بالمثل وجزاء السیئة بالسیئة وأنّ ذلک من حق المؤمنین (لکی لا یرى المعتدی والمجرم نفسه فی أمن من العقاب) ثمّ أشارت الآیة إلى مسألة العفو والصفح وترک الانتقام وتقول: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِینَ).

ونظراً إلى أنّ سورة الشورى من السور التی نزلت بأجمعها فی مکّة المکرّمة، ونعلم أنّ المسلمین فی ذلک الزمان کانوا فی دائرة العدوان الواسع الموجّه إلیهم من قبل الأعداء المشرکین، ومع ذلک فالقرآن الکریم فی الآیة 39 من هذه السورة یأمر المسلمین أن لا یستسلموا فی مقابل الظلم والعدوان، وعندما یواجهون حالة الظلم هذه فعلیهم أن یستمدّوا العون من إخوانهم ویتکاتفوا فیما بینهم لردع هذا العدوان، ثم یشیر فی الآیة 40 إلى هذه الحقیقة، وهی أنّه لا ینبغی أن یتحرّکوا من موقع الانتقام والثأر بسبب ما یرونه من العدوان على بعض أصدقائهم ورفاقهم وبالتالی یتجاوزون الحدّ بالردّ بالمثل فیکونون فی صف الظالمین أیضاً، وعلیهم کذلک أن یتخذوا العفو والصفح سلوکاً إنسانیاً لهم فیما لو لم یترتب علیه آثار سیئة.

أمّا المراد من کلمة (وأصلح) فی هذه الآیة والتی وردت بعد کلمة العفو، فالمفسّرون ذهبوا إلى تفسیرات متعددة، فبعض ذهب إلى أنّ المراد من الإصلاح هوالإصلاح بین الإنسان وربّه، بینما ذهب البعض الآخر إلى أنّ المراد به الإصلاح بین المظلوم والظالم حتّى لا تتکرّر هذه القضیّة بینهما مرّة اُخرى، وذهب ثالث إلى أنّ المراد به هو إصلاح النفس وتطهیرها من أدران الانتقام وشوائب الغضب والتوتر الذی تفرضه حالات الصراع مع الطرف الآخر، وذهب بعض إلى أنّ معناه ترک القصاص.

ولا یبعد أن یراد بهذه الکلمة جمیع هذه المعانی التی ذکرت فی تفسیرها، وعلى أیّة حال فإنّ الآیة تبیّن بوضوح هذه الحقیقة، وهی أنّ العفو والإصلاح الذی یأتی بعده بإمکانه أن یقلع جذور الحقد من قلوب الناس، وعبارة (فأجرُهُ عَلى اللهِ) بشکل مطلق وبدون تعیّین

حدود لهذا الأجر حتّى الجنّة أیضاً یدلّ على أنّ هذا الأجر والثواب إلى درجة من العظمة والسعة أنّه لا یعلم مقداره إلاّ الله تعالى.

أمّا «الآیة الثانیة» فناظرة إلى حادثة الإفک التی وقعت فی صدر الإسلام، یعنی ما قام به بعض المنافقین من إتّهام إحدى زوجات النبی الأکرم(صلى الله علیه وآله) بما ینافی العفة ولغرض الخدشة فی شخصیة النبی الأکرم(صلى الله علیه وآله) وموقعیّة الإسلام، فتشیر الآیة الشریفة إلى أنّ مسألة العفو والصفح مطلوبة فی کل الأحوال حتّى تجاه المذنبین والملوّثین، لأنّ هذه الآیة نزلت عندما أقسم بعض الصحابة بعد قضیة الإفک أنّهم لن یساعدوا أی شخص من الأشخاص الذین اشترکوا فی هذه الواقعة، فمنعتهم عن استخدام أدوات العقاب وأمرتهم بالعفو والصفح تجاه هؤلاء الخاطئین وقالت: (وَلاَ یَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْکُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ یُؤْتُوا أُوْلِی الْقُرْبَى وَالْمَسَاکِینَ وَالْمُهَاجِرِینَ فِی سَبِیلِ اللهِ).

ثمّ تضیف الآیة: إنّ على المؤمنین أن یسلکوا طریق العفو والصفح وتقول: (وَلْیَعْفُوا وَلْیَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ یَغْفِرَ اللهُ لَکُمْ)، فی حین أنّکم تأملون من الله الرحمة والمغفرة، فکذلک علیکم أن تسلکوا هذا الطریق تجاه الآخرین: (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِیمٌ)فیغفر لکم أیضاً ویرحمکم.

والملاحظة الملفتة للنظر هنا أنّ قضیة الإفک کانت بمثابة مؤامرة خطیرة استهدفت الإسلام وشخصیة النبی الأکرم(صلى الله علیه وآله)، حیث تبنّى هذه المؤامرة جماعة من المنافقین، ولکنّ بعض المسلمین الغافلین إنخدعوا بهذه الحیلة وتورّطوا فی هذا الإثم، ورغم ذلک فالقرآن الکریم یوصی المؤمنین بالعفو والصفح عن هؤلاء الغافلین الذین تورّطوا بهذه المؤامرة من موقع الجهل لا من موقع الخبث والحقد والنفاق، وعلیه فبالنسبة إلى المسائل الشخصیة والاُمور الخاصة بالأفراد فالعفو یکون بطریق أولى.

أمّا الفرق بین (العفو) و(الصفح) فیقول الراغب فی مفرداته، إنّ العفو بمعنى المغفرة والصفح ترک اللّوم والتوبیخ والذی هو مرحلة أعلى من العفو، لأنّه یمکن أن یعفو الإنسان

عن الطرف المقابل إلاّ أنّه لا یترک لومه وتوبیخه أو معاتبته، ولکن بما أنّ الصفح فی اللغة یعنی الإعراض بالوجه عن الإنسان المذنب فیمکن أن یکون إشارة إلى لزوم تناسی ذنب المذنب ووضعه فی زاویة الإهمال والغفلة ولا یکتفی بترک اللّوم فقط، أی أنّ لا یترتّب أی أثر سلبی على العلاقة بین الطرفین.

وهنا ملاحظة مهمّة اُخرى وهی أنّ هذه الطائفة من المؤمنین أقسموا على أن لا یمدّوا ید العون لجمیع المتورّطین فی قضیّة الافک، أی أن قسمکم بالنسبة إلى مثل هذه الاُمور لا أثر له على مستوى العمل والممارسة لأنّه لا یقع فی دائرة التکلیف بالنسبة إلى الاُمور الخیّرة.

«الآیة الثالثة» تأمر النبی الأکرم(صلى الله علیه وآله) بأوامر أخلاقیة ثلاثة ویتّضح منها تکلیف الآخرین أیضاً وتقول: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِینَ).

هذه التعلیمات الثلاثة التی وردت فی الآیة الشریفة بمثابة أوامر صادرة من الله تعالى إلى نبیّه الکریم باعتباره قائداً للاُمّة واُسوة حسنة لسائر المسلمین وبذلک توضّح فی مضمونها أهمیّة العفو والصفح فی دائرة المسؤولیة الملقاة على عاتق القادة الإلهیین، فالأمر الأوّل من هذه الأوامر الإلهیة هو الأمر بالعفو والصفح، والأمر الثانی إشارة إلى أنّ على القائد أن لا یحمّل الناس ما فوق طاقتهم وقدرتهم وأن لا یطلب منهم سوى المعروف الممکن، وفی الأمر الثالث نجد التوصیة بأهمال الکلمات اللامسؤولة الصادرة عن الجاهلین والمخالفین وعدم ترتیب الأثر على مزاحماتهم وما یرتکبونه تجاه أتباع الحق من ممارسات سلبیة وکلمات شانئة.

إنّ القادة الحقیقیین والسالکین طریق الحق یواجهون فی مسیرتهم الإلهیة الکثیر من الأفراد المتعصّبین والجاهلین والمعاندین الذین لا یجدون فرصة فی الوقیعة بأصحاب الحق وإیجاد الأذى والضرر بهم إلاّ واستغلّوها، فالآیة أعلاه وکذلک الکثیر من الآیات القرآنیة الاُخرى تؤکّد على المؤمنین السالکین فی خط الله والتقوى أن یجنّبوا أنفسهم الصراع مع هؤلاء وأنّ الأفضل لهم التعامل مع مثل هذه المسائل من موقع اللآمبالاة

والإهمال والإعراض، والتجربة العملیة تشیر إلى أنّ أفضل طریق لإیقاظ هؤلاء من غفلتهم وإطفاء نار غضبهم وصدهم وتعصّبهم هو هذه الطریقة فی التعامل معهم من موقع قوّة الشخصیة وکبر النفس.

وقد ورد فی الحدیث الشریف عن رسول الله(صلى الله علیه وآله) أنّه عندما نزلت هذه الآیة الشریفة سأل رسول الله(صلى الله علیه وآله) جبرائیل عن ذلک فقال: لا أدری حتّى أسأل العالم، ثمّ أتاه فقال: «یـا مُحِمَّد إِنّ اللهَ یَأَمُرُکَ أَنْ تَعفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَکَ وَتُعطِی مَنْ حَرَمَکَ وَتَصِلَ مَنْ قَطَعَکَ»(1).

وینطلق الحدیث فی «الآیة الرابعة» لیخاطب جمیع المسلمین ویأمرهم بأنّهم إذا أرادوا التعامل بالمثل مع الأعتداء الموجّه من الآخرین ویعاقبوا علیه فعلیهم أن لا یتجاوزوا المقدار المشروع وهو مقدار المثل فقط لا أکثر، ولکنّهم إذا التزموا جانب البر والعفو والصفح فإنّ ذلک أفضل من الحل السابق وتقول الآیة: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَیْرٌ لِلصَّابِرِینَ).

وقد ورد فی الروایات الشریفة أنّ هذه الآیة نزلت فی معرکة اُحد عندما نظر النبی الأکرم(صلى الله علیه وآله) إلى جسد عمّه حمزة، وقد استشهد فی میدان المعرکة ومثّل به الأعداء القساة وشقّوا بطنه وأخرجوا کبده وقطعوا اُذنه وأنفه، فلّما رأى النبی الأکرم(صلى الله علیه وآله) ذلک تأثّر کثیراً وبعد أن حمد الله وأثنى علیه شکى له حاله وقال: «أَصبِرُ أَصبِرُ»(2).

والملفت للنظر أنّ الآیة التی تلیها تقول: (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُکَ إِلاَّ بِاللهِ) وهی إشارة إلى أنّ على الإنسان الذی یعیش هذه اللّحظات الألیمة وتستولی على وجوده سحابة من الحزن والهم بسبب ما یواجهه من عدوان القساة وجرائمهم فإنّ علیه أن یلتحف بالصبر والصفح رغم أنّها حالة صعبة وعسیرة لا یستطیعها الإنسان إلاّ بمدد من الله تعالى ومعونته.

وبالطبع فإنّ السماح بالردّ بالمثل الوارد فی أوّل الآیة الشریفة یعود إلى أصل قتل العمد،

ولکن بالنسبة إلى المثلة والتی هی عمل غیر إنسانی وصادر من روحیّة ملّوثة فإنّ المقابلة بالمثل لا تجوز فی هذه الحالة، وهذا المعنى وردبصراحة فی الروایات الإسلامیة التی تؤکّد عدم جواز المثلة حتّى بالکلب العقور، فحتّى لو استفید من الآیة الشریفة جواز المثلة(3)فإنّه یکون المراد منها بمعونة الروایات الصریحة هو أصل القتل فقط لا المثلة، وذهب بعض المفسّرین إلى أنّ مسألة الانتقام بالأکثر من الحد الشرعی والتهدید بالمثلة لم یکن صادراً من النبی الأکرم(صلى الله علیه وآله)، بل من المسلمین، وعمومیة الخطاب فی الآیة الشریفة تؤیّد هذا المعنى وأنّ هذا التصمیم صدر من المسلمین لا من رسول الله(صلى الله علیه وآله).

وتأتی «الآیة الخامسة» لتتحدّث إلى النبی الأکرم(صلى الله علیه وآله) وتأمره بما فوق العفو والصفح وتقول: (ادْفَعْ بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ السَّیِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا یَصِفُونَ).

أمّا «الآیة السادسة» فتؤکّد هذا المعنى أیضاً بعبارة اُخرى تقول: (وَلاَ تَسْتَوِی الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّیِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِی بَیْنَکَ وَبَیْنَهُ عَدَاوَةٌ کَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِیمٌ).

ونقرأ فی الآیة 22 من سورة الرعد عندما تستعرض صفات اُولوا الألباب والعقول أنّ إحدى صفاتهم هی: (وَیَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّیِّئَةَ) وهذا التعبیر یمکن أن یکون إشارة إلى أنّ هؤلاء یتحرّکون على مستوى جبران أخطائهم وذنوبهم بالحسنات وأعمال الخیر، وکذلک یمکن أن تکون إشارة إلى أنّ هؤلاء یجیبون الإساءة الموجّه من الغیر بالإحسان من جهتهم ولا یردّون بالمثل على الطرف الآخر لکی یوقضوا عناصر الخیر فی وجدان الطرف الآخر ویجعلونه یعیش الندم على ما صدر منه تجاههم.

ویحتمل أیضاً فی تفسیر هذه الآیة أن یکون کلا المعنیین مراداً لها(4).

ویستفاد من هذه الآیات الثلاثة جیداً أنّ النبی الأکرم(صلى الله علیه وآله) وکذلک المؤمنین مأمورون بتجاوز حالة العفو والصفح والصعود إلى مرتبة أرقى منها ورد السیئة بالحسنة وهو العمل الذی لا یتیسّر من أی شخص کان، ولهذا فإنّ الآیة التی بعدها تقول: (وَمَا یُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِینَ صَبَرُوا وَمَا یُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظّ عَظِیم).

وفی الحقیقة فإنّ مقابلة السیئة بالحسنة عمل ثقیل جدّاً لا یستطیع النهوض به إلاّ من اُوتی القدرة على النهوض بالأعمال الخیّرة المهمّة، والذین یعیشون الإیمان والتقوى والقیم الإنسانیة بالمستوى الأعلى.

والملفت للنظر أنّ سیرة النبی الأکرم(صلى الله علیه وآله) والأئمّة المعصومین(علیهم السلام) طافحة بمثل هذه النماذج من السلوکیات الأخلاقیة والإنسانیة حتّى أنّه أحیاناً یؤدّی سلوکهم الإنسانی هذا إلى انقلاب الطرف الآخر من موقع الشر والعداوة إلى موقع الخیر والمحبّة، والتجارب العملیة الکثیرة تشیر إلى التأثیر الکبیر لهذه الأعمال الأخلاقیة فی دائرة السلوک الإنسانی والعلاقات الاجتماعیة.

وتتعرض «الآیة السابعة» إلى الحدیث عن مسألة القصاص والتی تعدّ أحد الأحکام الاجتماعیة المهمّة للإسلام والتی تضمن حقوق الناس وتحفظ لهم أنفسهم ودمائهم من أشکال العدوان بحیث أنّ القرآن الکریم یعبّر عن القصاص بکلمة «الحیاة» ولکنّه فی نفس الوقت یفضّل علیه العفو والصفح وتقول: (یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا کُتِبَ عَلَیْکُمْ الْقِصَاصُ فِی الْقَتْلَى).

وبعد أن تذکر الآیة موارد القصاص بالمثل تقول: (فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أَخِیهِ شَىْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَیْهِ بِإِحْسَان ذَلِکَ تَخْفِیفٌ مِنْ رَبِّکُمْ وَرَحْمَةٌ).

فلو أنّ القصاص تبدّل إلى الدیة فعلى الطرف الآخر أن یتّخذ سبیل المعروف فی عملیة أداء الدیة إلى ولی المقتول، وهذا المعنى بمثابة التخفیف والرحمة من الله تعالى للناس.

وفی ختام الآیة صرح القرآن الکریم أنّ بعد العفو والصفح أو تبدیل القصاص إلى الدیة لا حقّ فی الرجوع فی ذلک وممارسة سلوک العدوان والقساوة وقتل القاتل عند القدرة والاستطاعة، وتحذّر المسلمین من هذا الموقف الخطیر وتقول: (فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِکَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِیمٌ).

لأنّ بعد العفو عن القاتل أو تبدیل القصاص بالدیة فإنّ ذلک یعنی إغلاق الطریق تماماً عن العودة وبذلک یسقط حق القصاص تماماً، وعلیه یکون الانتقام من القاتل بمثابة القتل العمد الذی یترتب علیه العقوبة فی الشریعة الإسلامیة.

وهذه الآیة تضع القاتل بین الخوف والرجاء، فمن جهة تفتح علیه باب القصاص حتى لا یتجرأ أحد على تلویث یده بدماء الأبریاء خوفاً من القصاص، ومن جهة اُخرى فإنّها قد فتحت باب العفو ثم حذّرت من الانتقام بعده ولتقف حائلاً فی طریق الخشونة والعدوان اللاّمسؤول من بعض الجماعات المتطرفة والمنفعلة، وهذا هو منتهى التدبیر والحکمة فی هذه المسألة الاجتماعیة المهمّة.

والتعبیر بکلمة (أخیه) فی الآیة المذکورة یشیر إلى أنّه حتى لو وقعت حادثة قتل بین المسلمین فإنّ ذلک لا یعنی قطع رابطة الاُخوّة بینهم، وفی صورة عدم وجود ضرورة للقصاص فلا ینبغی إتّخاذه سبیلاً لحلّ الأزمة، وهذا التعبیر یدلّ على أنّ الإسلام یرجّح العفو على القصاص ویتحرّک من موقع تفعیل الشعور بالمحبّة والاُخوّة لدى الأولیاء بدلاً من ورح الثأر والانتقام.

وقد ورد هذا المضمون فی روایة عن ابن عباس أیضاً(5).

وکذلک عبارة: (ذَلِکَ تَخْفِیفٌ مِنْ رَبِّکُمْ وَرَحْمَةٌ) تدلّ مرّة اُخرى على المفهوم القرآنی فی ترجیح العفو والصفح على القصاص أو تبدیله بالدیة.

وفی «الآیة الثامنة» نقرأ خطاباً لجمیع المؤمنین فی دائرة الاختلافات والنزاعات العائلیة حیث تقول الآیة محذّرة للمؤمنین: (یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِکُمْ وَأَوْلاَدِکُمْ عَدُوّاً لَکُمْ فَاحْذَرُوهُمْ).

وهذه العداوة یمکن أن تتجسد فی السلوک العملی للشخص بطرق مختلفة، فمثلاً تتجلّى العداوة فی البعد المعنوی کأن تمنع الزوجة أولادها المسلمین من الهجرة إلى المدینة فی عصر البعثة، أو استعمال أسالیب الضغط النفسی لعدم الوصیة ببعض الترکة والمیراث إلى أعمال الخیر وما ینفع الإنسان فی آخرته أو تعرض الإنسان لبعض الأذى وتحمیل الظروف الصعبة من قبل الزوجة المشاکسة أو الأبناء المنحرفین ولکن الآیة الشریفة تصرّح فی ذیلها بأنّ العفو والصفح أفضل وتقول: (وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِیمٌ).

ولا شک أنّه لولا وجود العفو والصفح فی أجواء العائلة من قبل الأب والولی على اُمور الأهل والأطفال أو کان کل فرد من أفراد الاُسرة یتحرّک فی تعامله مع الآخرین من موقع الانتقام وأخذ الحق والمقابلة بالمثل، فإنّ هذه الأجواء الاُسریّة ستتحوّل إلى جهنّم ومحرقة یعیش فیها الأفراد القلق والاضطراب الدائم وعدم الأمن والراحة وبالتالی یتسبب ذلک فی إنهدام العائلة وتلاشیها.

والملفت للنظر أنّ الله تعالى یذکر فی هذه الآیة الشریفة بصراحة أنّ العفو فی المرتبة الاُولى ثم الصفح بعده، ویذکر فی ذیل الآیة بشکل ضمنی الأمر مرّة اُخرى بالمغفرة لأنّه یقول: (أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ یَغْفِرَ اللهُ لَکُمْ) أو إذا تحرکتم أنتم من موقع العفو والصفح والمغفرة فستکونون مشمولین لعفو الله تعالى ومغفرته أیضاً.

أمّا الفرق بین العفو والصفح والغفران(6)، فالظاهر أنّ العفو هو المرتبة الاُولى فی عملیة التعامل بالحسن فی مقابل العمل السیء ویعنی ترک الانتقام وردّ الفعل المماثل، وأمّا الصفح فیعنی الإعراض عن السیئة وعدم الاعتناء بها وکأنها لم تکن، وأمّا الغفران فیعنی التغطیة على آثار الخطیئة والذنب بحیث ینساها الناس، وهذه آخر مرحلة من مراحل مقابلة السیئة والتعامل معها بالطریقة الإیجابیة، وهی أفضل مقامات الإنسان المؤمن فی مقابل خطأ الآخرین وسیرتهم.

وفی «الآیة التاسعة» نجد أنّ العفو والصفح ذکرا إلى جانب أعمال الخیر الاُخرى وأنّ الله تعالى وعد بالعفو أیضاً فی مقابل ذلک العمل فتقول: (إِنْ تُبْدُوا خَیْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوء فَإِنَّ اللهَ کَانَ عَفُوّاً قَدِیراً).

وعلیه فلا ینبغی أن یتصوّر الإنسان أنّ الانتقام عند القدرة سیجلب له الفخر والعزّة، فالفخر هو أن یتحرّک الإنسان فی هذه الموارد من موقع ضبط النفس وتحریک عناصر الخیر فی أعماقه والمقابلة بالعفو والصفح فیما إذا کان العفو فی موقعه ولم یثر فی نفس الطرف الآخر عناصر الشر أو سو الظن.

وتتعرض «الآیة العاشرة» والأخیرة من الآیات محل البحث إلى موقف النبی من المشرکین وتوصیته بأن یتخذ الصبر جلباباً فی مقابل أذى المشرکین وعدوان المعاندین والمخالفین وتقول: (وَاصْبِرْ عَلَى مَا یَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِیلا).

ومعلوم أنّ أحد الوسائل فی عملیة التصدّی للرسالة والدعوة الإلهیة وما کان یمارسه المشرکون والأعداء تجاه النبی الأکرم(صلى الله علیه وآله) هو أنواع الهتک والإهانة والشتم والأذى للنبی الأکرم(صلى الله علیه وآله) بحیث کان یشتد على قلب النبی الأکرم(صلى الله علیه وآله)ذلک أحیاناً، ولکن مع ذلک فإنّ الله تعالى یوصیه بالتزام الصبر والمداراة وغض الطرف عن ذلک الواقع المؤلم وأن یهجرهم هجراً جمیلاً.

والمراد بـ (الهجر الجمیل) هو الهجران المقترن بالمحبّة وحسن الخلق والتأسف على حال هؤلاء الناس المشاکسین ودعوتهم إلى الحق والخیر، وهذه هی إحدى الطرق التربویة فی مقابل الأفراد الذین یعیشون حالة الجهل والعناد فی مقابل الحق بحیث إذا تعامل معهم الإنسان بالمثل فإنّ ذلک من شأنه أن یزیدهم طغیاناً وعناداً، ولذا أمرت الآیة الشریفة أن یتّخذ الإنسان موقف اللامبالاة أمام أذاهم وکلماتهم اللامسؤولة، ولکن البعض تصوّر أنّ الأمر فی هذه الآیة کان قبل نزول آیة الجهاد التی نسخت هذه الآیة واستبدلت العفو بالجهاد، وفی حین أنّ الأمر لیس کذلک، لأنّ الجهاد له محل معیّن، والهجر الجمیل له محل آخر.

 

وعلى أیّة حال فإنّ هذه الآیة توصی بإتّخاذ سلوک العفو والصفح وخاصة فی مقابل الأشخاص الذین ینطلق لسانهم دائماً بالکلمات الوقحة واللاّمسؤولة ولا یمتنعون عن أی کلام وقح وذمیم، لأنّ الهجر الجمیل لا یتحقّق بدون عملیة العفو والصفح.

وکما یقول المرحوم الطبرسی فی مجمع البیان أنّ هذه الآیة بمثابة الخطاب لجمیع الدعاة والمبلّغین فی کل زمان ومکان أن یلتزموا جانب ضبط النفس فی مقابل أذى المخالفین والأعداء ولا یستسلموا أمام حالات الانفعال لموقف الجهلاء وکلماتهم اللاّمسؤولة ویقابلوهم بحسن الأخلاق والمداراة والإغماض(1).

وهکذا توضّح الآیات أعلاه والتی تخاطب أحیاناً جمیع المسلمین وأحیاناً اُخرى النبی الأکرم(صلى الله علیه وآله) بعنوان قائد الاُمّة الإسلامیة، المقام السامی للعفو والصفح من بین الفضائل الأخلاقیة والمثل الإنسانیة العلیا فی مقابل الحوادث الصعبة وتحدّیات الواقع الاجتماعی غیر الملائم، وتجعل من هذه الفضیلة الأخلاقیة أساساً للتعامل الإسلامی بین أفراد المجتمع وحتى فی مقابل الأعداء والمخالفین فیما لو لم یترتب على العفو والصفح أثراً سلبیاً.

 


1. مجمع البیان، 2، ص512.
2. تفسیر العیاشی; والدر المنثور، فی ذیل الآیة المبحوثة.
3. نهج البلاغة، الرسالة 47.
4. راجع تفسیر المیزان ج16 فی تفسیر ذیل الآیة.
5. تفسیر روح البیان، ج1، ص285.
6. الملفت للنظر أنّ کلمة (غفران) کما أنّها تطلق على الله تعالى، کذلک تطلق على الإنسان فی آیات عدیدة مثل: (قُلْ لِلَّذِینَ آمَنُوا یَغْفِرُوا لِلَّذِینَ لاَ یَرْجُونَ أَیَّامَ اللهِ) (الجاثیة، الآیة 14)، و(وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ یَغْفِرُونَ)الشورى، الآیة 37.

 

 

تنویهالعفو والانتقام فی الروایات الإسلامیة
12
13
14
15
16
17
18
19
20
Lotus
Mitra
Nazanin
Titr
Tahoma