من أکبر الأخطاء التی قد نقع فیها هنا هی أن نعتقد بعدم وجود أیة حدود للحریة، أو أن یکون الشرط الوحید لها هو عدم ایجاد الأذى والازعاج للآخرین وهو المنطق الذی وقعت فی حبائله العوالم المادیة والمبنیة على عنصر الآلة، فظهرت التناقضات وسُنّت آلاف العقوبات والغرامات بسبب هذا الأمر، وممّا یدعو للعجب أنّها لا زالت وفیّة لهذا المنطق بل وتفتخر به!
لو کان الإنسان کائناً ذا بعد واحد، لأمکننا الحکم «بتجرید» الحریة من «کل قید أو شرط»، أما إذا أخذنا بنظر الاعتبار الإنسان بوصفه کائناً ذا أبعاد مختلفة، من الناحیة الروحیة والجسمیة، وأنّ «حبّه للحریة» لیس حبّه الوحید، وإنّما هناک أشکالٌ أخرى من الحب تتحکم فی وجوده کحبّه لتکامل العشق وللأعمال الصالحة ولطهارة الروح، وحبّه لأبناء جلدته، وحبّه للعلم والفکر، وحبّه لله تعالى، فکیف یمکننا تجاهل حدود الحریة أو جعل مسألة عدم إزعاج الآخرین هو الضابط الوحید للحریة؟
فالحریة المشروعة والمنطقیة هی أن لا یصاب أی من المتطلبات الضروریة للإنسان بالضرر، وبتعبیر آخر ترکیب من جمیع أشکال العشق، وتناسب مع جمیع الأحاسیس الفطریة والرغبات.
و على هذا الأساس فإنّ الحریات التی تقعد بالإنسان عن التکامل أو تسوقه نحو الانحطاط الفکری والاجتماعی أو تطلقه من قید لتربطه بقید آخر، وتحرره من قفص ثم تحبسه فی قفص آخر أکثر استحکاماً; فهذه فی الحقیقة لیست من الحریة فی شیء. وإنّما هی طغیان وعبثیة، ذل وتخلّف، وإذا أحسنا الظن فإننا نقول إنّها لا تعدو عن الحصول على المقصود والاستغلال المقیت وممیت نابع من غریزة وعشق، وإذابة جمیع المثل الأصیلة فی وجود الإنسان.
بل إنّ الحریة نفسها ذات أبعاد وشعب شتى إذا طغت فی جانب خلقت عبودیة فی آخر کالحریة الفکریة والحریة الفردیة، والحریة الاجتماعیة والحریة الاقتصادیة وأمثال ذلک.
و سنرى کیف تؤدّی «الحریة فی التنافس» فی المجالات الاقتصادیة والاستغلالات الفردیة إلى أنواع من التناقضات. کما سنرى وخامة الأغلال الاستعماریة التی أصابت شعوب العالم من جراء هذا النوع من الحریة التی تبّنته الاطروحة الرأسمالیة وکیف جرّت العالم نحو الحروب والدمار.
