مسائل التقلید
ویقع البحث فیه فی ثلاث مقامات:
لا إشکال فی أنّه لابدّ من أن یکون العامی مجتهداً فی خصوص هذه المسألة التی لا مؤونة لاستنباطها واجتهادها، فإنّ لزوم رجوع الجاهل إلى العالم أمر إرتکازی لجمیع العقلاء، وسیأتی أنّ المهمّ والعمدة فی باب التقلید إنّما هو بناء العقلاء، وما یشاهد من أنّهم یکتبون فی إبتداء رسائلهم العملیّة من أنّه لابدّ للعامی أن یجتهد فی خصوص هذه المسألة فهو لمجرّد تقریب الذهن وإرشاد العامی.
إذا عرفت هذا فاعلم أنّه استدلّ لجواز التقلید باُمور أربع:
الأمر الأوّل: (وهو العمدة فی المسألة) سیرة العقلاء فی جمیع أعصار وأنحاء العالم وجمیع الصنائع والتجارات والزراعات والعلوم المختلفة البشریّة کعلم الطب وشعبه المتفاوتة (طبّ الإنسان وطبّ الحیوان وطبّ النبات) وغیره من سائر العلوم، بل جمیع المجتهدین والمتخصّصین للعلوم البشریّة یکون تخصّصهم واجتهادهم فی فنون طفیفة معدودة، وأمّا بالإضافة إلى سائر الفنون والحرف فیکونون مقلّدین، فالمجتهد فی علم الفقه مثلا یقلِّد الأطباء فی علم الطبّ والمعمار فی بناء داره مثلا، وهکذا فی غیرها ممّا یحتاج إلیه فی اُمور معاشه، بل وفی موضوعات أحکام معاده، وکثیراً مّا یتّفق أنّ عدّة من طلاّب العلوم مثلا یتعلّم کلّ واحد منهم علماً خاصّاً ویصیر متخصّصاً فی ذلک وفی نفس الوقت یقلّد کلّ واحد من أصحابه فی علمه الخاصّ به، فیکون کلّ منهم متخصّصاً فی علم واحد ومقلّداً فی سائر العلوم.
ولذلک نقول: إنّ ما یدور فی الألسنة فی یومنا هذا من وجوب التحقیق فی المسائل الشرعیّة الفرعیّة على کلّ أحد ولا معنى للتقلید فیها بعد إمکان التحقیق، کلام شعری أو هتاف سیاسی، بل الأخباری المنکر للتقلید أیضاً إمّا أن ینکره باللسان وقلبه مطمئن بالإیمان، أو یکون إنکاره من باب الخلط بین الاجتهاد بالمعنى العامّ والاجتهاد بالمعنى الخاصّ کما مرّ بیانه آنفاً.
ثمّ إنّه لا بأس أن نشیر هنا إلى أنّ هذا البناء للعقلاء یکون فی الواقع ناشئاً من انسداد صغیر فإنّهم یلاحظون فی الأموال مثلا أنّهم لو اعتمدوا فیه على العلم فقط وأنکروا حجّیة الید على الملکیّة لأنسدّ باب العلم فی هذا المقام وإن کان مفتوحاً فی الأبواب والموارد الاُخرى، ولذلک یعتبرون حجّیة کثیر من الاُصول والقواعد کقاعدة الید وغیرها، وهذه هى النکتة التی أشار إلیها المحقّق الخراسانی (رحمه الله)بقوله: «وإلاّ لأنسدّ باب العلم على العامی».
الأمر الثانی: الاستدلال بالکتاب العزیز بجملة من الآیات:
منها: آیة النفر، وقد مرّ الکلام فیه تفصیلا فی مبحث حجّیة خبر الواحد، وینبغی هنا أن نشیر إلى نکتة منها فقط، وهى أنّ هذه الآیة ناظرة إلى باب الاجتهاد والتقلید لا باب الروایة، فإنّ التفقّه الوارد فیها بمعنى الاجتهاد والاستنباط عن نظر وبصیرة، وإلاّ ربّ حامل روایة وفقه إلى من هو أفقه منه، کما أنّ الإنذار أیضاً من وظائف وشؤون المجتهد لا الراوی، أی إنّما یقدر على الإنذار من کان بصیراً بالحکم الإلهی، وعالماً متیقّناً به، وقادراً على تمییز الواجب عن المستحبّ، وناظراً فی الحلال والحرام، وقد مرّ أیضاً أنّ کلمة «لعلّ» فیها کنایة عن الوجوب، وإلاّ فمادّة الحذر وماهیته لا تقبل الاستحباب کما لا یخفى.
نعم، هیهنا إشکالان لو أمکن دفعهما کان الاستدلال بالآیة فی المقام تامّاً وإلاّ فلا:
أحدهما: أنّ الآیة لا اطلاق لها حتّى تشمل صورة العلم وعدمه فلعلّ المقصود من قوله تعالى: (لَعَلَّهُمْ یَحْذَرُونَ) خصوص ما إذا حصل من الإنذار العلم والیقین بحکم الله فلا یعمّ صورة حصول الظنّ کما هو محلّ النزاع فی المقام، وبعبارة اُخرى: أنّ للآیة قدر متیقّن فی مقام التخاطب فإطلاقها لیس بحجّة لعدم حصول جمیع مقدّمات الحکمة.
والجواب عنه: أنّ الآیة مطلقة، ومجرّد وجود قدر متیقّن فی مقام التخاطب لا ینافی الاطلاق کما ذکرناه فی محلّه، وإلاّ لأختلّ غالب النصوص المطلقة لنزولها أو ورودها فی مقامات خاصّة.
ثانیهما: أنّها فی مقام بیان وظیفة المجتهد لا المقلّد، فلا اطلاق لها من هذه الجهة.
وفیه: أنّه مجرّد دعوى لا شاهد علیها، بل الظاهر کون الآیة فی مقام البیان من الجانبین.
منها: آیة السؤال، وهى قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَکَ إِلاَّ رِجَالا نُوحِی إِلَیْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّکْرِ إِنْ کُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ)(1) وقوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِکَ إِلاَّ رِجَالا نُوحِی إِلَیْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّکْرِ إِنْ کُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ)(2) (والفرق بینهما هو إضافة کلمة «من» فی الثانیة).
هذه الآیة من جهة أقوى دلالة من آیة النفر لأنّها فی مقام بیان وظیفة المقلّد وتلک کانت فی مقام بیان وظیفة الفقیه والمجتهد على قول.
وتقریب الاستدلال بها واضح، فإنّ المراد من أهل الذکر أهل العلم والقرآن من العلماء کما نصّ علیه جماعة.
ولکن أورد علیه أوّلا: بأنّ موردها وشأن نزولها إنّما هو أهل الکتاب فی باب اُصول الدین التی یعتبر فیها تحصیل العلم، فیکون الأمر بالسؤال من أهل الذکر لتحصیل العلم من أقوالهم فیعمل بالعلم لا بأقوالهم تعبّداً لیثبت المطلوب.
وثانیاً: بأنّ ذیلها وهو قوله تعالى: (إِنْ کُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) أقوى شاهد على أنّ الغرض من السؤال هو العلم فالآیة تقول: «إن کنت لا تعلم فاسأل حتّى تعلم».
لکن الإنصاف إمکان دفع کلیهما...
أمّا الإیراد الأوّل: فلأنّ المورد لیس مخصّصاً والآیة مطلقة تعمّ السؤال عن اُصول الدین وغیرها، وتقیید بعض المصادیق (وهو اُصول الدین) بالعلم بدلیل من الخارج لا یوجب تقیید سائر المصادیق به واعتباره فیها، فکما أنّه یمکن تقیید جمیع المصادیق بدلیل منفصل کقوله: «لا تکرم الفسّاق منهم» بالنسبة إلى دلیل «أکرم العلماء» کذلک یمکن تقیید بعض المصادیق کما إذا قیل: «لا تکرم الفسّاق من النحویین».
وأمّا الإیراد الثانی: فلأنّ قوله تعالى: (إِنْ کُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) هو فی مقام بیان الموضوع، أی تقول الآیة: «اسأل عند عدم العلم حتّى تکون لک الحجّة» کما إذا قیل: «إن کنت لا تعلم دواء داءک فارجع إلى الطبیب» فلیس معناه أنّ قول الطبیب یوجب العلم دائماً.
وبعبارة اُخرى: قوله تعالى: (إِنْ کُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) لیس من قبیل بیان الغایة حتّى یورد علیها بما ذکر.
وبعبارة ثالثة: تارةً یکون العلم موضوعاً واُخرى یکون غایةً، وما نحن فیه من قبیل الأوّل، فهى تقول: إنّ الموضوع للرجوع إلى البیّنة أو القسم أو الموضوع للرجوع إلى الخبرة إنّما هو الجهل، وهذا لا یعنی حصول العلم بعد الرجوع.
سلّمنا کونه غایة، لکن لیس المراد من العلم فی المقام الیقین الفلسفی کما مرّ کراراً بل المراد منه هو العلم العرفی الذی یحصل من ناحیة إقامة أیّة حجّة، فإنّ العرف والعقلاء یعبّرون بالعلم فی کلّ مورد قامت فیه الحجّة.
هذا ـ ولکن الآیات الواردة فی المسألة کبعض الروایات الواردة فیها التی سنشیر إلیها إمضاءً لما عند العقلاء من رجوع الجاهل إلى العالم، نعم لا ضیر فیها من هذه الجهة.
الأمر الثالث: الروایات الواردة فی خصوص المقام، وهى کثیرة إلى حدّ تغنینا عن البحث حول إسنادها.
منها: ما رواه أبو عبیدة قال: قال أبو جعفر(علیه السلام): «من أفتى الناس بغیر علم ولا هدى من الله لعنته ملائکة الرحمة وملائکة العذاب ولحقه وزر من عمل بفتیاه»(3).
فهو یدلّ بمفهومه على جواز الإفتاء بعلم، ولا ریب فی أنّ المقصود من العلم فیه إنّما هو الحجّة.
منها: ما رواه عنوان البصری عن أبی عبدالله جعفر بن محمّد(علیهما السلام) فی حدیث طویل یقول فیه: «سل العلماء ما جهلت وإیّاک أن تسألهم تعنّتاً وتجربة»(4).
ومنها: ما رواه إسماعیل بن الفضل الهاشمی قال: «سألت أبا عبدالله(علیه السلام) عن المتعة فقال: «ألق عبدالملک بن جریح فسله عنها فإنّ عنده منها علماً»(5).
ومنها: ما رواه فی تحف العقول من کلام الحسین بن علی(علیه السلام) فی الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر، ویروى عن أمیر المؤمنین(علیه السلام): «اعتبروا أیّها الناس ... بأنّ مجاری الاُمور والأحکام على أیدی العلماء بالله الاُمناء على حاله وحرامه ...»(6).
ومنها: ما رواه فی المستدرک عن علی(علیه السلام): أنّه قال فی حدیث: «فإذا کان کذلک إتّخذ الناس رؤساء جهّالا یفتون بالرأی ویترکون الآثار فیضلّون ویضلّون فعند ذلک هلک هذه الاُمّة»(7).
ومنها: ما رواه فی المستدرک أیضاً عن تفسیر الإمام العسکری(علیه السلام): عن رسول الله(صلى الله علیه وآله): «أنّ الله لا یقبض العلم انتزاعاً ینتزعه من الناس ولکن یقبضه بقبض العلماء، فإذا لم ینزل عالم إلى عالم یصرف عنه طلاّب حکّام الدنیا وحرامها، ویمنعون الحقّ أهله ویجعلونه لغیر أهله، واتّخذ الناس رؤساء جهّالا، فسألوا فأفتوا بغیر علم فضلّوا وأضلّوا»(8).
ومنها: ما رواه مفضّل بن یزید قال: قال أبو عبدالله(علیه السلام): «أنهاک عن خصلتین فیهما هلک الرجال، أنهاک أن تدین الله بالباطل، وتفتی الناس بما لا تعلم»(9).
ومنها: ما رواه عبدالرحمن بن الحجّاج قال: قال لی أبو عبدالله(علیه السلام): «إیّاک وخصلتین ففیهما هلک من هلک إیّاک أن تفتی الناس برأیک أو تدین بما لا تعلم»(10).
ومنها: ما رواه عبدالرحمن بن الحجّاج أیضاً قال: «سألت أبا عبدالله(علیه السلام) عن مجالسة أصحاب الرأی فقال: جالسهم وإیّاک عن خصلتین تهلک فیهما الرجال، أن تدین بشیء من رأیک أو تفتی الناس بغیر علم»(11).
ومنها: ما رواه موسى بن بکر قال: قال أبو الحسن(علیه السلام): «من أفتى الناس بغیر علم لعنته ملائکة الأرض وملائکة السماء»(12).
ومنها: ما رواه إسماعیل بن زیاد عن أبی عبدالله عن أبیه(علیهما السلام) قال: «قال رسول الله(صلى الله علیه وآله): من أفتى الناس بغیر علم لعنته ملائکة السماء والأرض»(13).
ومنها: ما رواه الطبرسی فی الإحتجاج عن أبی محمّد العسکری(علیه السلام) فی حدیث طویل: «فأمّا من کان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدینه، مخالفاً على هواه، مطیعاً لأمر مولاه، فللعوام أن یقلّدوه»(14).
ودلالته على المطلوب واضحة.
ومنها: ما رواه حذیفة قال: سألته عن قول الله عزّوجلّ: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللهِ)قال: «أما إنّهم لم یتّخذوهم آلهة إلاّ أنّهم أحلّوا لهم حلالا فأخذوا به وحرّموا حراماً فأخذوا به، فکانوا أربابهم من دون الله»(15).
وقد ورد الذمّ فیهما على عمل الیهود حیث أخذوا أحکامهم عن العلماء المحرّفین لأحکام الله بما یظهر منه أنّه لو کان هؤلاء علماء صالحین لم یکن هناک ذمّ فی الرجوع إلیهم.
ومنها: ما رواه عمر بن حنظلة عن أبی عبدالله(علیه السلام) فی حدیث طویل: «قال ینظر أنّ من کان منکم ممّن قد روى حدیثنا ونظر فی حلالنا وحرامنا وعرف أحکامنا فلیرضوا به حکماً فإنّی قد جعلته علیکم حاکماً، فإذا حکم بحکمنا فلم یقبل منه فإنّما إستخفّ بحکم الله وعلینا ردّ، والرادّ علینا الرادّ على الله وهو على حدّ الشرک بالله»(16).
ومنها: ما رواه أبو خدیجة عن أبی عبدالله(علیه السلام): «... اجعلوا بینکم رجلا قد عرف حلالنا وحرامنا، فإنّی قد جعلته علیکم قاضیاً ...»(17).
وهما وإن وردا فی باب القضاء ولکن ظاهرهما أو صریحهما کون النزاع فی الشبهات الحکمیّة فلو جاز الرجوع إلى القضاة فیها مع النزاع جاز الرجوع إلیهم فیها بدونه أیضاً فتأمّل.
ومنها ما رواه إسحاق بن یعقوب عن الإمام الحجّة(علیه السلام): «... وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فیها إلى رواة أحادیثنا فإنّهم حجّتی علیکم وأنا حجّة الله ...»(18).
ومنها: عدّة من الأحادیث الواردة فی نفس الباب مثل الحدیث11 و15 من الباب الحادی عشر من المستدرک، ومثل الحدیث 15 و21 و34 و35 و36 من الباب الحادی عشر من الوسائل (وإن کان بعضها لا یخلو عن کلام) ممّا یدلّ على إرجاع الناس إلى أعاظم أصحابهم نظیر زرارة وأبی بصیر ومحمّد بن مسلم وزکریّا بن آدم وبرید بن معاویة وأشباههم، ولا شکّ أنّهم کانوا ممّن یعالجون تعارض الأخبار ویجمعون بین المطلق والمقیّد والعام والخاصّ وما یشبه ذلک، ولا شکّ فی أنّ هذه نوع من الاجتهاد فالأخذ منهم کان من باب أخذ المقلّد من المجتهد.
إلى غیر ذلک ممّا ورد فی هذا المعنى وهى متفرّقة فی أبواب مختلفة من الوسائل والمستدرک فی أبواب صفات القاضی.
الأمر الرابع: إجماع المسلمین، وقد یعبّر عنه بسیرة المتشرّعة لأنّه إجماع عملی والظاهر أنّه أیضاً ینشأ من بناء العقلاء على رجوع الجاهل إلى العالم، ولا أقلّ من احتماله، أی احتمال أنّ المتشرّعین والمتدیّنین بنوا على الرجوع إلى العالم بالمسائل الشرعیّة لا بما هم متشرّعون بهذا الشرع المقدّس بل بما هم عقلاء أو بما أنّه من الاُمور الفطریّة الارتکازیّة (کما إعترف به المحقّق الخراسانی) ثمّ أمضاه الشارع المقدّس وإذاً لیس الإجماع أو السیرة دلیلا مستقلا برأسه.
هذا کلّه ما یمکن أن یستدلّ به لجواز التقلید، ولکن مع ذلک کلّه نقل صاحب المعالم وصاحب الفصول عدم جوازه عن جماعة، فقال صاحب المعالم(قدس سره)، أنّه عزى فی الذکرى إلى بعض علماء الأصحاب وفقهاء حلب منهم القول بوجوب الاستدلال على العوام، وقال صاحب الفصول(قدس سره): «ذهب شرذمة إلى عدم جواز التقلید» والمشهور أیضاً أنّ الأخباریین منکرون لجواز التقلید.
ویمکن أن یستدلّ لهم أنّ العامی إمّا أن یکون عربیاً یفهم الکتاب والسنّة، ویدرک مفاهیم الألفاظ واللغات، فلا حاجة له حینئذ إلى الرجوع إلى المجتهد، بل هو بنفسه یلاحظ أدلّة الأحکام ویعمل بها، وأمّا أن یکون عجمیاً فهو وإن لا یدرک معانی الألفاظ واللغات ولکن لا حاجة له إلى التقلید أیضاً لأنّه یکفیه دلالة المجتهد إلى موارد الأدلّة ووضعها بین یدیه حتّى یصیر قادرا على إستخراج الأحکام واستنباطها منها، فالمجتهد حینئذ یکون من قبیل المترجم فحسب، لا مرجعاً ومقلّداً.
ولکنّه واضح البطلان، أمّا فی عصرنا هذا فلما نشاهده من سعة دائرة الفقه وأدلّة الأحکام والقواعد، والبعد الحاصل بیننا وبین عصر الأئمّة المعصومین(علیهم السلام)، الذی یوجب بطبعه غموضاً شدیداً فی فهم أدلّة الأحکام ومقاصد الإمام(علیه السلام) فإنّ تعلیمها بجمیع المقلّدین وعرضها لهم یستلزم نفر جمیعهم إلى الحوزات العلمیّة، وهذا ممّا یلزم منه إختلال النظام والمعاش.
وأمّا بالنسبة إلى أعصار الأئمّة المعصومین(علیهم السلام) التی کان تحصیل المسائل فیها خفیف المؤونة، وإسناد الروایات فیها واضحة، أو لم یکن حاجة إلیها لإمکان الوصول إلى الأئمّة(علیهم السلام)مباشرةً وبدون الواسطة، وبالجملة کان الاجتهاد والاستنباط فی ذلک الزمان بسیطاً جدّاً بالنسبة إلى زماننا هذا، فبالنسبة إلى تلک الأعصار نقول أیضاً: لم یکن تحصیل ملکة الاجتهاد ممکناً لجمیع الناس خصوصاً لغیر العرب، سیّما إذا لاحظنا أنّ کثیراً من الناس فاقدون للإستعداد اللازم لفهم المسائل الشرعیّة الدقیقة، بل وفی مستواها البسیط، وهذا ممّا ندرکه بوجداننا بالإضافة إلى عوام عصرنا فتدبّر.
والحاصل: أنّ فرض إمکان الاجتهاد لجمیع آحاد الناس فی جمیع الأحکام الشرعیّة من دون فرق بین الرجال والنساء، ومن کان قریب العهد بالبلوغ من البدوی والقروی وغیرهما أمر یشبه بالخیال والرؤیا، ومن یدّعیه إنّما یدّعیه باللسان ویخالفه عند العمل، کما هو ظاهر، کما أنّ الأمر کذلک فی سائر العلوم.
هذا ـ وعمدة أدلّتهم لعدم جواز التقلید هى الآیات الناهیة بظاهرها عن التقلید، وهى على طائفتین:
الطائفة الاُولى: ما تنهی عن العمل بالظنّ على نحو العموم، فإنّ من الظنون ما یحصل من قول المجتهد للمقلّد.
والطائفة الثانیة: آیات وردت فی خصوص باب التقلید وهى کثیرة (تبلغ إلى عشر آیات):
منها: قوله تعالى: (وَإِذَا قِیلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَیْنَا عَلَیْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ کَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ یَعْقِلُونَ شَیْئاً وَلاَ یَهْتَدُونَ)(19) وقوله تعالى: (بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّة وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ)(20). وقوله تعالى: (وَکَذَلِکَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِکَ فِی قَرْیَة مِنْ نَذِیر إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّة وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ)(21). إلى غیر ذلک ممّا یدلّ على هذا المعنى.
والجواب عنهما: أمّا عن الطائفة الاُولى فقد اُجیب عنها بأنّها عام تخصّص بأدلّة حجّیة الظنون المعتبرة.
ولکن قد مرّ سابقاً أنّ لسان هذه الآیات آبیة عن التخصیص.
واُجیب عنها أیضاً: بأنّها واردة فی اُصول الدین لأنّها ناظرة إلى تقلیدهم فی الشرک وعبادة الأوثان، ومحلّ النزاع فی المقام هو الفروع، والمنع عن العمل بالظنّ خاصّ بالاُصول.
ولکن قد مرّ أیضاً أنّ هذا الجواب لا یساعد مع لحن بعضها کقوله تعالى: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَیْسَ لَکَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ کُلُّ أُوْلَئِکَ کَانَ عَنْهُ مَسْئُولا) فإنّه وإن فرض کون الفؤاد خاصّاً بالاُصول ولکنّه لا ریب فی أنّ السمع والبصر لا أقلّ من کونهما عامین یشملان الفروع والاُصول لو لم یکونا خاصّین بالفروع.
هذا مضافاً إلى أنّ المورد لا یکون مخصّصاً فی أی مقام.
والجواب الثالث (وهو الصحیح): أنّ الظنّ الوارد فی هذه الطائفة لا یراد منه الاحتمال الراجح فی الذهن، بل هو عبارة عن الحدس والتخمین بلا أساس ودلیل، فلا یعمّ الظنّ المعتبر المعتمد على الحجّة لأنّ ذلک یعدّ من مصادیق العلم عند العقلاء، والشاهد على ذلک نفس التعبیرات الواردة فی هذه الآیات ففی قوله تعالى: (إِنْ یَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الاَْنْفُسُ)(22)حیث جعل الظنّ قریناً لهوى الأنفس، کما أنّ فی قوله تعالى: (إِنْ یَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ یَخْرُصُونَ)(23) حیث جعل قریناً للخرص والتخمین بلا دلیل.
ویشهد على ذلک أیضاً أنّ من ظنونهم ما جاء فی قوله تعالى (قبل الآیة الاُولى من الآیتین المزبورتین) (أَلَکُمْ الذَّکَرُ وَلَهُ الاُْنثَى تِلْکَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِیزَى إِنْ هِیَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّیْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُکُمْ مَا أَنزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَان) فقد نفت هذه المزعمة: أنّ لهم الذکر وللباری تعالى الاُنثى، لأنّه وهم غیر معقول ولا یعتمد على الحجّة والدلیل، بل الدلیل العقلی القطعی على خلافه.
ویؤیّد ذلک کلّه ما ذکرنا آنفاً من أنّ الظنون المعتبرة العقلائیّة تعدّ علماً عند العرف کما یساعد علیه وجداننا العرفی وإرتکازنا العقلائی.
وأمّا عن الطائفة الثانیة: فهو واضح جدّاً، لأنّ التقلید على خمسة أقسام: تقلید الجاهل عن الجاهل، وتقلید العالم عن الجاهل، وتقلید العالم عن العالم، وتقلید الجاهل عن العالم الفاسق، وتقلید الجاهل عن العالم العادل، ولا إشکال فی أنّ الأربعة الاُول ممنوعة مذمومة عقلا وشرعاً، والجائز الممدوح منها هو القسم الأخیر، کما لا إشکال فی أنّ التقلید فی مورد آیات هذه الطائفة إنّما هو تقلید الجاهل عن الجاهل، کما یشهد علیه قوله تعالى: (أَوَلَوْ کَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ یَعْقِلُونَ شَیْئاً وَلاَ یَهْتَدُونَ) الوارد فی الآیة الاُولى منها.
وبهذا یظهر الجواب عن الروایات الناهیة عن التقلید، فإنّها أیضاً أمّا وردت بالنسبة إلى تقلید الجاهل عن الجاهل، أو تقلید الجاهل عن العالم الفاسق، وکلاهما ممنوعان عند العقل والشرع.
هذا کلّه فی المقام الأوّل من البحث فی أحکام التقلید.