واستدلّ لها بأمرین:
الأوّل: دعوى الإجماع من ناحیة الشهید(رحمه الله) فی الذکرى حیث قال: «أخبار الفضائل یتسامح فیها بما لا یتسامح فی غیرها عند أهل العلم» والظاهر أنّه ذکر المسألة بعنوان مسألة اُصولیّة، کما أنّ ظاهر قوله: «عند أهل العلم» العامّة والخاصّة معاً.
الثانی: طائفة من الأخبار التی فیها صحیح السند (کروایتی هشام بن سالم الآتیتین) وفیها ضعاف أو مراسیل.
1 ـ ما رواه هشام بن سالم عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: «من بلغه عن النبی (صلى الله علیه وآله)شیء من الثواب فعمله کان أجر ذلک له وإن کان رسول الله(صلى الله علیه وآله) لم یقله»(1).
2 ـ ما رواه هشام بن سالم أیضاً عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: «من سمع شیئاً من الثواب على شیء فصنعه کان له، وإن لم یکن على ما بلغه»(2).
والظاهر عند النظر البدوی کونهما روایتین مستقلّتین ولکن عند الدقّة یحتمل قویّاً إتّحادهما کما لا یخفى.
3 ـ ما رواه محمّد بن مروان عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: «من بلغه عن النبی(صلى الله علیه وآله)شیء من الثواب ففعل ذلک طلب قول النبی(صلى الله علیه وآله) کان له ذلک الثواب وإن کان النبی(صلى الله علیه وآله) لم یقله»(3).
4 ـ ما رواه محمّد بن مروان أیضاً قال سمعت أبا جعفر(علیه السلام) یقول: «من بلغه ثواب من الله على عمل فعمل ذلک العمل التماس ذلک الثواب اُوتیه وإن لم یکن الحدیث کما بلغه»(4).
5 ـ ما رواه صفوان عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: «من بلغه شیء من الثواب على شیء من الخیر فعمل (فعمله) به کان له أجر ذلک، وإن کان (وإن لم یکن على ما بلغه) رسول الله(صلى الله علیه وآله) لم یقله»(5).
6 ـ ما رواه علی بن موسى بن جعفر بن طاووس فی کتاب الإقبال عن الصادق(علیه السلام) قال: «من بلغه شیء من الخیر فعمل به کان له ذلک وإن لم یکن الأمر کما بلغه»(6).
7 ـ ما رواه الصدوق عن محمّد بن یعقوب بطرقه إلى الأئمّة(علیهم السلام) إنّ: «من بلغه شیء من الخیر فعمل به کان له من الثواب ما بلغه وإن لم یکن الأمر کما نقل إلیه»(7).
والظاهر رجوع هذا الحدیث إلى سابقه ولعلّه إلى الروایة الثانیة التی نقلها الکلینی أیضاً عن هشام بن سالم، کما أنّ المحتمل قویّاً کون روایة ابن طاووس أیضاً راجعة إلى إحدى الروایات السابقة فالروایات السبعة ترجع فی الواقع إلى أربعة.
8 ـ ما ورد فی کتاب عدّة الداعی من طریق العامّة: عن عبدالرحمن الحلوانی مرفوعاً إلى جابر بن عبدالله الأنصاری قال: قال رسول الله(صلى الله علیه وآله): «من بلغه من الله فضیلة فأخذ بها وعمل بما فیها إیماناً ورجاء ثوابه أعطاه الله تعالى ذلک وإن لم یکن کذلک».
ثمّ قال مؤلّف الکتاب (عدّة الداعی): فصار هذا المعنى مجمعاً علیه عند الفریقین(8).
أقول: أمّا الدلیل الأوّل وهو الإجماع فیمکن النقاش فیه من جهتین:
فأوّلا: من ناحیة وجود المخالف مثل صاحب المدارک والعلاّمة والصدوق وشیخه محمّد بن حسن بن الولید.
فقد قال صاحب المدارک فی کتابه فی مبحث الوضوءات المستحبّة: وما یقال من أنّ أدلّة السنن یتسامح فیها بما لا یتسامح فی غیرها فمنظور فیه لأنّ الاستحباب حکم شرعی یتوقّف على دلیل شرعی.
وقال الصدوق(رحمه الله) فی باب صلاة غدیر خمّ: إنّ شیخنا لم یصحّح أخبار هذه الصّلاة فلا اعتبار بها (بصلاة غدیر خمّ) عندنا.
فإنّه لو کان الإجماع قائماً على التسامح فی أدلّة السنن لم یقل بهذا.
وثانیاً: من ناحیة إنّه محتمل المدرک والظاهر أنّ مدرکه هو أخبار من بلغ.
فالعمدة فی المقام إنّما هى الأخبار، واستدلّ بها بأنّ ظاهرها ترتّب الثواب على العمل لا من باب التفضّل فقط بل من باب إنّ العمل یوجب الإستحقاق، ففی حدیث صفوان: «کان له أجر ذلک» (المشار إلیه هو العمل)، وکذلک فی حدیث هشام (الذی مرّ إنّه من أهمّها): «کان أجر ذلک له» فقد اُضیف الأجر فی هذین الحدیثین إلى العمل، وهو ظاهر فی کون العمل مأموراً به ولازمه الاستحباب النفسی.
وبعبارة اُخرى: لا إشکال فی أنّ هذه الأخبار تحرّضنا إلى العمل والتحریض إلى العمل دلیل على کونه محبوباً، والمحبوبیة تدلّ على وجود الأمر.
هذا غایة البیان للاستدلال بهذه الأخبار على الاستحباب.
لکن أورد علیه بوجوه عدیدة بعضها قابل للدفع:
1 ـ إنّ هذه الأخبار أخبار آحاد، وقد ثبت فی محلّه عدم حجّیتها بالنسبة إلى الاُصول.
ویمکن الجواب عنه بأمرین: أحدهما: إنّ المسألة فقهیّة لا اُصولیّة. ثانیهما: إنّه قد وقع الخلط بین اُصول الفقه واُصول الدین وما ذکر من عدم حجّیة أخبار الآحاد إنّما هو بالنسبة إلى الثانی لا الأوّل.
لکنّ فیه: إنّ اُصول الفقه أیضاً على المبنى المختار لا تثبت بخبر الواحد لأنّ عمدة الدلیل على حجّیته إنّما هو بناء العقلاء، وهم لا یقنعون به فی المسائل الأساسیة الاُصولیّة فلا یکتفون به مثلا فی ما یسمّى الیوم بالدُستور، وباللغة الفارسیّة «قانون أساسی» ولا ریب فی اتّحاد القاعدة الفقهیّة مع القاعدة الاُصولیّة فی هذه الجهة (أی الأهمیّة والخطورة).
اللهمّ إلاّ أن یقال: إنّ خبر الواحد فی ما نحن فیه معتضد بعمل الأصحاب قدیماً وحدیثاً، مضافاً إلى تظافر الأخبار فی المقام، وهو کاف فی إثبات المطلوب.
2 ـ إنّه لا یستفاد من هذه الأخبار أکثر من الثواب الإنقیادی کما أنّه مقتضى صراحة بعض التعابیر الواردة فیها کقوله(علیه السلام): «ففعل ذلک طلب قول النبی(صلى الله علیه وآله)» أو «التماس ذلک الثواب» وکما أنّه مقتضى التفریع بالفاء فی بعض آخر (فعمله) حیث إنّ مثل هذه التعابیر ظاهرة أو صریحة فی أنّ الباعث على العمل إنّما هو الإنقیاد والتماس الثواب، وحینئذ بناءً على ترتّب الثواب على الإنقیاد أیضاً لا تکون هذه الأخبار دلیلا على الاستحباب بل غایة ما یستفاد منها الإرشاد إلى حکم العقل بحسن الإنقیاد.
وإن شئت قلت: لا أقلّ من صیرورتها مجملة بالنسبة إلى دلالتها على الاستحباب.
أقول: هذا عمدة الإیراد على الاستدلال بهذه الأخبار على الاستحباب النفسی، وذلک وقع الأعلام فی حیص وبیص فی مقام الجواب عنه.
فأجابوا عنه أوّلا: بأنّ لازم هذا (کون المدلول الثواب الإنقیادی فقط) ترتّب الثواب الإنقیادی کلّما حصل الاحتمال بکون هذا العمل صادراً من ناحیة الرسول(صلى الله علیه وآله) ولو من طریق فتوى فقیه فلماذا عبّر فیها بخصوص الخبر؟
ولکنّه قابل للدفع بأنّ الغالب فی نشوء الاحتمال إنّما هو الخبر الضعیف، فالروایات ناظرة إلى الفرد الغالب، أضف إلى ذلک وجود احتمال خصوصیّة فی الثواب الإنقیادی الحاصل من الخبر وهى احترام قول النبی(صلى الله علیه وآله) والأئمّة(علیهم السلام).
وثانیاً: بأنّ الثواب الإنقیادی أمر لازم لنیّة العبد لنفس العمل کما لا یخفى، بینما الظاهر من هذه الروایات ترتّب الثواب على نفس العمل.
ولکنّه أیضاً قابل للدفع بأنّ الثواب الإنقیادی أیضاً مربوط بالعمل لا النیّة، غایة الأمر أنّه یترتّب على العمل المستند إلى النیّة کما یحکم به الوجدان فی باب التجرّی أیضاً.
3 ـ (وهو من أهمّها) إنّ لحن هذه الأخبار لحن التفضّل لا الاستحقاق کما یشهد علیه أنّ ظاهرها ترتّب نفس الثواب الذی بلغه، مع أنّه لو کان من باب الاستحقاق، کان الثواب الاستحقاقی تابعاً فی درجته مقدار ما یقتضیه العمل واقعاً سواء کان أقلّ ممّا بلغه أو أکثر.
نعم لا یوجد هذا اللحن فی الصحاح منها (وهى روایتی هشام) لکنّه موجود فی عدّة متضافرة، منها والتضافر موجب لجبر الضعف وحصول الوثوق بالصدور.
4 ـ ما أفاده المحقّق النائینی (رحمه الله) من «أنّ هذه الأخبار مسوقة لبیان أنّ البلوغ یحدث مصلحة فی العمل بها فیکون البلوغ کسائر العناوین الطارئة على الأفعال الموجبة لحسنها وقبحها والمقتضیة لتغییر أحکامها، کالضرر والعسر والنذر والإکراه وغیر ذلک من العناوین الثانویة، فیصیر حاصل معنى قوله (علیه السلام) «إذا بلغه بعد حمل الجملة الخبریة على الإنشائیّة هو أنّه یستحبّ العمل عند بلوغ الثواب علیه کما یجب العمل عند نذره، فیکون مفاد الأخبار حجّیه قول المبلّغ وأنّ ما أخبر به هو الواقع، فیترتّب علیه کلّ ما یترتّب على الخبر الواجد للشرائط»(9).
أقول: إنّ معنى هذا الکلام قبول دلالة الأخبار على الاستحباب لعدم الفرق بین أن نستفید منها الحجّیة الاُصولیّة أو الاستحباب فی مسألة فقهیّة ولا تترتّب علیه ثمره غیر ما سیأتی ذکره فی التنبیهات، فلیس هذا إشکالا على دلالة أخبار من بلغ.
5 ـ ما ذهب إلیه فی تهذیب الاُصول وهو: «أنّ الظاهر من هذه الأخبار أنّ وزانها وزان الجعالة، بمعنى وضع الحکم على العنوان العام لیتعقّبه کلّ من أراد، فکما أنّ تلک، جعل معلّق على ردّ الضالّة، فهذا أیضاً جعل متعلّق على الإتیان بالعمل بعد البلوغ برجاء الثواب.
توضیحه: أنّ غرض الشارع لما تعلّق على التحفّظ بعامّة السنن والمستحبّات ویرى أنّ الاکتفاء فی طریق تحصیلها بالطرق المألوفة ربّما یوجب تفویت بعضها، فلأجل ذلک توصّل إلى مراده بالحثّ والترغیب إلى إتیان کلّ ما سمع عن الغیر الذی یحتمل کونه ممّا أمر به رسول الله(صلى الله علیه وآله) وأردف حثّه باستحقاق الثواب وترتّب المثوبة على نفس العمل حتّى یحدث فی نفس المکلّف شوقاً إلى الإتیان، لعلمه بأنّه یثاب بعمله طابق الواقع أو خالف ... وممّا ذکرنا یظهر إنّ استفادة الاستحباب الشرعی منها مشکل غایته، للفرق الواضح بین ترتّب الثواب على عمل له خصوصیّة ورجحان ذاتی فیه کما فی المستحبّات وبین ترتّب الثواب على الشیء لأجل إدراک المکلّف ما هو الواقع المجهول کما فی المقام، کما أنّ جعل الثواب على المقدّمات العلمیة لأجل إدراک الواقع لا یلازم کونها اُموراً استحبابیّة وکما أنّ جعل الثواب على المشی فی طریق الوفود إلى الله أو إلى زیارة الإمام الطاهر الحسین بن علی(علیهما السلام) لأجل الحثّ إلى زیارة بیت الله أو الإمام لا یلازم کون المشی مستحبّاً نفسیّاً»(10).
أقول: لا یترتّب على نفس ما یکون مجرّد طریق أو مقدّمة إلى شیء ثواب کما ذکر فی محلّه فی مبحث مقدّمة الواجب سواء کانت مقدّمة العلم أو مقدّمة الوجود مع أنّ الظاهر من هذه الأخبار ترتّب الثواب على نفس العمل، وهذا یقتضی کونه مستحبّاً ولو بعنوان ثانوی غیر کونه مقدّمة.
6 ـ إنّه یمکن أن یکون مورد الروایات ما إذا کان المبلّغ ثقة کما هو الظاهر فی بدو النظر من قوله(علیه السلام): «بلغه» لأنّ البلوغ ظاهر فی البلوغ الصحیح، ولا أقلّ من عدم کونه فی مقام البیان من هذه الجهة (کون المبلغ ثقة أو غیر ثقة) فلا یمکن التمسّک بإطلاقه بل إنّه فی مقام بیان أنّ الثواب یترتّب على العمل حتّى فی صورة التخلّف عن الواقع.
لکن یمکن أن یقال: إنّ اطلاق حدیث من بلغ یقتضی عدم الفرق بین البلوغ من الطرق المعتبرة أو غیرها لصدق البلوغ على کلیهما، ویؤیّده فهم الفقهاء، حیث إنّهم فی باب التسامح فی أدلّة السنن تمسّکوا بهذه الأخبار.
وإن شئت قلت: بلوغ الخبر أعمّ من أن یکون الخبر مطابقاً للواقع أو غیر مطابق، فالبلوغ صحیح على کلّ حال وإن لم یکن الخبر مطابقاً للواقع.
7 ـ إنّها تتعارض مع منطوق آیة النبأ لأنّها تدلّ بإطلاقها على وجوب التبیّن حتّى فی المستحبّات.
واُجیب عنه: بأنّ عموم الآیة أو إطلاقها یخصّص أو یقیّد بهذه الروایات.
8 ـ إنّ مدلولها أخصّ من المدّعى من ناحیة وأعمّ منها من ناحیة اُخرى، فهو أخصّ من باب أنّ موردها ما إذا وعد بالثواب، فلا یعمّ غیره کما إذا ورد خبر ضعیف بصیغة الأمر کقوله «اغتسل» من دون الوعد بالثواب، وأعمّ من جهة إنّها تشمل ما إذا کان الخبر الضعیف دالا على الوجوب أیضاً.
ویمکن الجواب عن هذا بأنّها شاملة لموارد عدم الوعد بالثواب بمدلولها الالتزامی کما لا یخفى، لإلغاء الخصوصیّة من هذه الناحیة عرفاً. وأمّا عمومها بالنسبة إلى الخبر الدالّ على الوجوب فلا بأس به لأنّ المعتبر دلالته على رجحان الفعل وترتّب الثواب فیصیر بضمیمة أخبار من بلغ دلیلا على الاستحباب.
هذا کلّه هو ما اُورد على أخبار من بلغ من الإیرادات حیث کان الأوّل منها إیراداً من ناحیة السند والباقی من ناحیة الدلالة، وکان أهمّها الذی لا یمکن الجواب عنه، هو الإشکال الثانی وحینئذ لا یمکن التمسّک بهذه الأخبار لإثبات استحباب ما أمرت به الأخبار الضعاف، فلا یجوز الفتوى بالاستحباب بل لابدّ أن یقیّد بلزوم إتیان العمل بقصد الرجاء، وبهذا یسقط کثیر من المستحبّات الواردة فی کتب الفتوى والرسائل العملیّة، فاللازم الإتیان بها بقصد الرجاء لا الورود، إلاّ إذا کان دلیلها الأخبار المعتبرة لا الضعاف.
ثمّ إنّه لو سلّمنا دلالتها على الاستحباب فلیس مفادها حجّیة الخبر الضعیف بعنوان مسألة اُصولیّة بحیث یکون مثل قوله (علیه السلام): «ما أدّیا عنّی فعنّی یؤدّیان» بل إنّ مفادها مجرّد إعطاء قاعدة کلّیة فقهیّة وهى استحباب العمل بعنوان ثانوی وهو عنوان البلوغ.
والفرق بین الأمرین یظهر فی بعض الفروع نظیر ما مثّل به الشیخ الأعظم الأنصاری(رحمه الله)فی رسائله من غسل المسترسل من اللحیة فی الوضوء، فالحکم باستحبابه من باب دلالة خبر ضعیف علیه لا یوجب جواز المسح ببلله لأنّ المسح لابدّ من أن یکون من بلل الوضوء، ولا یصحّ ببلل ما لیس منه ولو کان مستحبّاً فیه إلاّ إذا ثبت کونه جزءاً مستحبّاً من الوضوء بدلیل معتبر، فلا إشکال حینئذ فی جواز المسح به.
أضف إلى ذلک کلّه خروج هذه الأخبار عن محلّ النزاع (وهو تصحیح العبادة الاحتیاطیّة) لأنّه إمّا أن تکون أخبار من بلغ کافیة لإثبات الاستحباب الشرعی أو لا، وفی کلا الحالین یکون البحث عنها خارجاً عن محلّ النزاع، أمّا على الأوّل فلأنّ محلّ البحث فی المقام ما إذا لم یکن فی البین حجّة على الوجوب أو الاستحباب واُرید الاحتیاط، فلو کانت هذه الأخبار کافیة لإثبات الحجّیة للخبر الضعیف فلا معنى لإتیان العمل بقصد الاحتیاط کما لا یخفى.
وأمّا على الثانی فلأنّ المفروض فی محلّ الکلام عدم کفایة قصد الرجاء مع أنّ مقتضى التعبیر الوارد فی هذه الأخبار لزوم قصد الرجاء فی هذه الموارد، فلا فائدة فی الاستناد إلى أخبار من بلغ لما هو محلّ البحث.
بقی هنا اُمور
الأمر الأوّل: إنّ إحراز موضوع البلوغ من وظیفة المجتهد لا المقلّد سواء کانت المسألة اُصولیّة أو کانت قاعدة فقهیّة أو مسألة فقهیّة، أمّا بناءً على کونها اُصولیّه فلأنّ الحجّیة أو عدمها أمر تشخیصها من شأن المجتهد، وأمّا بناءً على کونها قاعدة فقهیّة أو مسألة فقهیّة فلأنّ تشخیص البلوغ أو عدمه یتوقّف على إعمال مقدّمات فنیّة لا یکون فی استطاعة المقلّد غالباً.
الأمر الثانی: أنّه لا فرق فی المقام بین أن یکون الخبر الضعیف مفاده استحباب الشیء أو وجوبه لاتّحاد المناط فیهما وهو بلوغ الثواب، فالخبر الدالّ على الوجوب حیث إنّ من مدلوله ترتّب الثواب والأجر یتحقّق به موضوع البلوغ، فیکون مشمولا لأخبار من بلغ، ویصیر مفاده مستحبّاً بالعنوان الثانوی وإن لم یثبت به الوجوب بالعنوان الأوّلی، نعم هذا کلّه بناءً على عدم کون المسألة اُصولیّة، وأمّا إذا کانت المسألة اُصولیّة فحیث إنّه یثبت بهذه الأخبار حجّیة الخبر الضعیف یکون الخبر معتبراً من ناحیة السند فیدلّ على الوجوب بلا إشکال.
اللهمّ إلاّ أن یقال: بإمکان بالتبعیض فی الحجّیة، وذلک بأن لا یکون مفاد هذه الأخبار بناءً على هذا المبنى أیضاً أکثر من الحجّیة من ناحیة دلالة الخبر على الرجحان لا الحجّیة مطلقاً، فیثبت به مجرّد رجحان العمل واستحبابه فحسب.
الأمر الثالث: أنّه لا فرق بین أن یکون الخبر منسوباً إلى النبی(صلى الله علیه وآله) أو إلى الأئمّة المعصومین(علیهم السلام)، لأنّ روایات الباب من هذه الجهة على ثلاث طوائف فطائفة: منها یکون الموضوع فیها مطلق بلوغ الثواب کالروایة 6 و8 و9 من الباب، وفی طائفة اُخرى مقیّد بالبلوغ عن النبی (صلى الله علیه وآله) کالروایة 5 و4 و3 و1، وفی طائفة ثالثة مقیّد بالبلوغ عن الله تبارک وتعالى کالروایة7.
أمّا الطائفة الاُولى: فلا إشکال فی شمولها للخبر المنسوب إلى الأئمّة(علیهم السلام) کما لا إشکال فی عدم تقییدها بالطائفتین الاُخریین لأنّهما من قبیل المثبتین.
وأمّا الطائفة الثانیة والثالثة: فیمکن أیضاً الاستدلال بهما لجهتین:
الاُولى: إلغاء الخصوصیّة من النبی(صلى الله علیه وآله)وإنّ الأئمّة وارثون له وحاملون لعلومه.
الثانیة: الأخبار الخاصّة التی تدلّ على أنّ ما عند الأئمّة(علیهم السلام) من علم الحلال والحرام والشرائع والأحکام نزل به جبرئیل(علیه السلام) وأخذوه من رسول الله(صلى الله علیه وآله) فقد ورد فی بعضها عن أبی عبدالله(علیه السلام) یقول: «حدیثی حدیث أبی وحدیث أبی حدیث جدّی وحدیث جدّی حدیث الحسین(علیه السلام) وحدیث الحسین(علیه السلام) حدیث الحسن(علیه السلام)وحدیث الحسن حدیث أمیر المؤمنین(علیه السلام) وحدیث أمیر المؤمنین حدیث رسول الله(صلى الله علیه وآله) وحدیث رسول الله(صلى الله علیه وآله) قول الله عزّوجلّ»(11).
وفی بعضها الآخر عن الصادق(علیه السلام): «ما سمعته منّی فاروه عن أبی وما سمعته منّی فاروه عن رسول الله(صلى الله علیه وآله)»(12).
فبضمّ هذه الروایات إلى الخبر الضعیف المروی عن الأئمّة(علیهم السلام) یثبت موضوع البلوغ عن النبی(صلى الله علیه وآله) أو الله سبحانه بلا إشکال.
الأمر الرابع: أنّ هذه الأخبار لا تشمل ما إذا احتمل الاستحباب من غیر ناحیة الخبر الضعیف من فتوى فقیه بل من شهرة أو إجماع منقول أو من غیر ذلک ممّا لیس بحجّة شرعاً (فی صورة عدم حصول الیقین أو الاطمئنان بسببها بوجود خبر لم یصل إلینا) وإن کانت بعضها مطلقةً کما مرّ آنفاً لانصرافها إلى البلوغ عن المعصوم بالخبر المروی عنه.
وإن شئت قلت: لا یصدق عنوان البلوغ عن المعصوم فی فتوى الفقیه باستحباب شیء أو وجوبه لأنّ الفقیه یخبر عن رأیه بالوجوب أو الاستحباب ولا یکون واسطة فی النقل.
الأمر الخامس: أنّه یکفی فی المقام مجرّد ورود أمر من ناحیة المعصوم(علیه السلام)من دون أن یعد بالثواب صریحاً، کما إذا ورد فی روایة ضعیفة: «اغتسل للزیارة» لما مرّ سابقاً من أنّه لا فرق فیما نحن فیه بین أن یکون الوعد بالثواب مدلولا مطابقیاً للخبر أو مدلولا التزامیاً له، ولا إشکال فی أنّ الأمر بعمل یدلّ بالالتزام على ترتّب أجر وثواب علیه.
الأمر السادس: أنّ الظاهر عدم شمول الأخبار لما یدلّ على کراهة عمل أو حرمته، فلا یجری التسامح فی أدلّة المکروهات لأنّ موضوعها بلوغ الثواب، وهو یصدق فیما إذا کان الفعل ذو مصلحة وترتّب علیه ثواب، والمکروه أو الحرام لا یکون فی ترکه مصلحة فلا یترتّب علیه ثواب بل إنّه مجرّد اجتناب عن مفسدة یوجب النجاة من العقاب.
لکن الإنصاف أنّ ظاهر جملة من الآیات والروایات ترتّب الثواب على ترک المعصیة إذا کان بعنوان الإطاعة لله کقوله تعالى: (وَمَنْ یُطِعْ اللهَ وَرَسُولَهُ یُدْخِلْهُ جَنَّات تَجْرِی مِنْ تَحْتِهَا الاَْنْهَارُ ...)(13) وقوله تعالى: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِیَ الْمَأْوَى)(14) وقوله تعالى: (وَمَنْ یُطِعْ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِکَ مَعَ الَّذِینَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَیْهِمْ ...)(15)، إذن فتأتی فیها أخبار من بلغ، ویکون الکلام فی الخبر الدالّ على الحرمة نظیر الکلام فی الخبر الدالّ على الوجوب.
الأمر السابع: فی شمول أخبار من بلغ الأحادیث المأثورة عن النبی (صلى الله علیه وآله)بطرق العامّة وعدمه.
فنقول: لو کنّا نحن وأخبار من بلغ فلا إشکال فی دخولها تحت اطلاق هذه الأخبار، إلاّ أنّه یمکن أن یقال بأنّ مقتضى بعض الروایات الخاصّة عدم جواز الأخذ بروایاتهم کقوله(علیه السلام)فی مقبولة عمر بن حنظلة: «ما خالف العامّة ففیه الرشاد»(16) وقوله(علیه السلام): «لا تأخذنّ معالم دینک من غیر شیعتنا فإنّک إن تعدّیتهم أخذت دینک عن الخائنین الذین خانوا الله ورسوله وخانوا أماناتهم ...»(17).
لکن الصحیح عدم طروّ منع من ناحیة هذه الروایات لأنّها خارجة عن محلّ الکلام، فمثلا الروایة الاُولى مختصّة بالمرجّحات فی باب تعارض الخبرین، والثانیة ظاهرة فی اُصول الدین بمقتضى تعبیرها بمعالم الدین حیث إنّه ظاهر فی الاُصول وشبهها.
الأمر الثامن: أنّه لا إشکال فی عدم شمول أخبار من بلغ للروایة الضعیفة من ناحیة الدلالة والغیر ظاهرة فی الاستحباب أو الوجوب لعدم صدق موضوع البلوغ حینئذ کما لا یخفى.
الأمر التاسع: أنّه لا تبعد دعوى شمول أخبار من بلغ للإخبار عن بعض الموضوعات الخارجیة التی یلازم الأخبار عن ترتّب الثواب عرفاً کما إذا قام خبر ضعیف على کون مکان معیّن مدفن معصوم کمدفن هود وصالح فی المکان المعروف الآن فی وادی السلام فی أرض الغری أو مقام إمام(علیه السلام)، فإنّ الإخبار بهذه الموضوعات یدلّ التزاماً على ترتّب الثواب على زیارة المعصوم فی المکان الذی قام الخبر على کونه مدفنه، ولا إشکال فی أنّ البلوغ یصدق على کلّ من الدلالة المطابقیّة والالتزامیّة لأنّ العرف یلغی الخصوصیّة عن المدلول المطابقی، فیصیر مثل هذا الخبر مشمولا لأخبار من بلغ.
الأمر العاشر: إذا وردت روایة ضعیفة باستحباب فعل، وورد دلیل معتبر ظنّی بعدم استحبابه فهل تشملهما أخبار من بلغ أو لا؟ قال الشیخ الأعظم الأنصاری(رحمه الله)فی رسالته الخاصّة فی مسألة التسامح: «فیه وجهان بل قولان صرّح بعض مشایخنا بالثانی لأنّ الدلیل المعتبر بمنزلة القطعی فلابدّ من التزام عدم استحبابه وترتیب آثار عدم الاستحباب علیه کما لو قطع بعدم الاستحباب» ثمّ إستشکل فیه بما یرجع حاصله إلى وجهین:
الأوّل: إنّ أخبار من بلغ تعارض أدلّة حجّیة الدلیل المعتبر، ومقتضى القاعدة وإن کان هو التساقط إلاّ أنّ الأمر لمّا دار بین الاستحباب وغیره وصدق بلوغ الثواب حکم بالاستحباب تسامحاً.
فإن قلت: أخبار بلوغ الثواب لا تعمّ نفسها.
قلنا: نعم هو غیر معقول إلاّ أنّ المناط منقّح فلا یقدح عدم العموم اللفظی لعدم تعقّله فافهم فالقول بالتسامح قوی جدّاً.
الثانی: أنّه لا تعارض فی البیان لأنّ الشارع نزّل المظنون بالأدلّة المعتبرة منزلة الواقع المقطوع لا أنّه نزّل صفة الظنّ منزلة صفة القطع، ونزّل نفس الاحتمال المرجوح منزلة القطع بالعدم، وحینئذ یکون الاحتمال باقیاً على حاله، وهو موضوع أخبار عن بلغ، ولذا لا ینکر حسن الاحتیاط مع قیام الأدلّة المعتبرة.
أقول: أوّلا: لا تعارض بین أدلّة حجّیة خبر الواحد وأخبار من بلغ، بل الثانیة حاکمة على الاُولى کحکومة أدلّة الوفاء بالنذر على أدلّة استحباب صلاة اللیل مثلا فیما إذا نذر أن یأتی بها، فإنّ موضوع هذه الأخبار عنوان ثانوی وهو عنوان العمل بالخبر الضعیف امتثالاً لقول النبی(صلى الله علیه وآله) (وتعظیماً واهتماماً بکلامه) وهو متحقّق حتّى بعد قیام دلیل معتبر على عدم الاستحباب.
وثانیاً: لا یبعد دعوى انصراف هذه الأخبار عن مثل هذا المورد، وقد أشار إلیه الشیخ(رحمه الله) نفسه فی ذیل کلامه إلاّ أنّه لم یقبله بقوله «ولا شاهد علیه»، ونحن نقول: الشاهد علیه هو الوجدان.
الأمر الحادی عشر: لو وردت روایة ضعیفة بالاستحباب وروایة ضعیفة اُخرى بعدمه فلا إشکال فی شمول أخبار من بلغ، لعدم جریان ما مرّ فی التنبیه السابق من الانصراف هنا کما لا یخفى، ومنه یظهر الحال فیما إذا وردت روایة ضعیفة اُخرى بالکراهة فلا مانع من الشمول أیضاً لتحقّق موضوع الأخبار وهو بلوغ الثواب وعدم إحراز الإنصراف.
لکن شیخنا الأنصاری(رحمه الله) إستشکل فیه بأنّ لازمه استحباب کلّ من الفعل والترک لأنّ ترک العمل المکروه أیضاً مستحبّ، وهو غیر ممکن لأنّ طلب الفعل والترک قبیح لعدم القدرة على الإمتثال، وصرف الأخبار إلى استحباب أحدهما على وجه التخییر موجب لاستعمال الکلام فی الاستحباب العینی والتخییری (أی استعمال اللفظ فی أکثر من معنى) مع أنّ التخییر بین الفعل والترک فی الاستحباب لا محصّل له (لأنّ المکلّف إمّا فاعل أو تارک على أیّ حال فیکون الطلب التخییری من قبیل تحصیل الحاصل).
أقول: أوّلا: لا إشکال فی جواز استعمال اللفظ فی أکثر من معنى على المبنى المذکور فی محلّه.
ثانیاً: لیس التخییر بین الفعل والترک فی ما نحن فیه من قبیل تحصیل الحاصل لأنّه إنّما یتصوّر فیما إذا لم یکن شقّ ثالث فی المقام بینما الصور المتصوّرة هنا أربعة، فتارةً یأتی بالعمل احتراماً للنبی(صلى الله علیه وآله) ورجاءً للثواب، واُخرى یترکه کذلک، وثالثة یأتی به لا لطلب الثواب وقول النبی(صلى الله علیه وآله) بل لداع من الدواعی الاُخرى، ورابعة یترکه کذلک، وحینئذ یمکن البعث والتحریک لأن یأتی المکلّف بالفعل أو یترکه بقصد القربة وطلباً لما بلغ عن النبی(صلى الله علیه وآله) من الثواب.
فلا إشکال حینئذ فی شمول الأخبار لما نحن فیه، نعم لا یبعد القول بالانصراف فی هذه الصورة أیضاً کما أشار إلیه الشیخ الأنصاری(رحمه الله) فی ذیل کلامه بقوله: «مضافاً إلى انصرافها بشهادة العرف إلى غیر هذه الصورة»(18).
الأمر الثانی عشر: حکى عن الشهید(رحمه الله) فی الدرایة أنّه قال: «جوّز الأکثر العمل بالخبر الضعیف فی نحو القصص والمواعظ وفضائل الأعمال لا فی صفات الله تعالى وأحکام الحلال والحرام وهو حسن حیث لم یبلغ الضعیف حدّ الوضع والاختلاف (الاختلاق)».
وقال شیخنا الأعظم(رحمه الله) بعد نقل کلامه هذا: «المراد بالخبر الضعیف فی القصص والمواعظ هو نقلها واستماعها وضبطها فی القلب وترتیب الآثار علیها عدا ما یتعلّق بالواجب والحرام ... ویدخل حکایة فضائل أهل البیت(علیهم السلام)ومصائبهم من دون نسبة إلى الحکایة ... کأن یقول: کان أمیر المؤمنین یقول کذا ویفعل کذا ویبکی کذا، ونزل على مولانا سیّد الشهداء(علیه السلام) کذا وکذا»(19).
ثمّ استدلّ على الجواز بطریق العقل والنقل وقال: إنّ الدلیل على جواز ما ذکرنا من طریق العقل حسن العمل بهذه مع أمن المضرّة فیها على تقدیر الکذب، وأمّا من طریق النقل فروایة ابن طاووس(رحمه الله) (من بلغه شیء من الخیر فعمل به کان له ذلک(20) والنبوی(21) (وهو روایة عدّة الداعی المذکورة سابقاً).
أقول: یرد علیهما (الشهید والشیخ الأعظم(رحمهما الله)) أوّلا: أنّ المقام داخل فی ما استثنیاه من کلامهما وهو ما یتعلّق بالحرام والحلال لأنّ المقام مشمول لقوله تعالى: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَیْسَ لَکَ بِهِ عِلْمٌ) والقول بغیر علم حرام بمقتضى هذه الآیة وأدلّة اُخرى کثیرة إلاّ إذا قلنا بأنّ المستفاد من أخبار من بلغ حجّیة الخبر الضعیف فیکون حاکماً على هذه الآیة.
ثانیاً: الظاهر من قوله(علیه السلام) «فعمل به» العمل الخارجی الجارحی، ونقل القصص وذکر الفضائل لیس عملا بالقصص والفضائل ولا أقلّ من الإنصراف.
ثالثاً: لا یأمن من المضرّة فی المقام لأنّ هذا یفتح باب الأکاذیب والخرافات فی الشرع المقدّس وادخال ما یوجب الوهن للأنبیاء والأوصیاء ولمعالمهم ومعارفهم، وأیّ مضرّة أشدّ منه؟!
ومن العجب استدلال بعضهم للجواز بما دلّ على رجحان الإعانة على البرّ والتقوى ورجحان الإبکاء على سیّد الشهداء(علیه السلام) ما دامت الغبرى والسماء، وأنّ من أبکى وجبت له الجنّة من باب أنّ ذکر المصائب مقدّمة للبکاء المستحبّ ومقدّمة المستحبّ مستحبّة.
وفیه: أنّ الإعانة والإبکاء ـ کما أفاد الشیخ الأعظم(رحمه الله) ـ قد قیّد رجحانهما بالسبب المباح والمقدّمة المباحة، لعدم جواز التوصّل بالمحرّم لإتیان المستحبّ، فلابدّ حینئذ من ثبوت إباحة المقدّمة من الخارج، ولا یمکن إثبات إباحة شیء وعدم تحریمه بأنّه یصیر ممّا یعان به على البرّ لو کان کذلک لکان لأدلّة الإعانة والإبکاء قوّة المعارضة لما دلّ على تحریم بعض الأشیاء کالغناء فی المراثی والعمل بالملاهی لإجابة المؤمن ونحو ذلک.
الأمر الثالث عشر: هل یترتّب على متعلّق أخبار من بلغ سائر آثار العمل المستحبّ غیر تّرتّب الثواب؟ فإذا ورد خبر ضعیف على استحباب غسل خاصّ فهل یمکن إتیان الصّلاة به بناءً على کفایة الأغسال المستحبّة عن الوضوء؟
قد یقال بالفرق بین ما إذا کان المبنى ثبوت المسألة الاُصولیّة فیترتّب سائر الآثار، وما إذا کان المبنى ثبوت المسألة الفقهیّة فلا یترتّب، ولکن الإنصاف عدم الفرق بین المبنیین لأنّه إذا کان المستفاد من الأخبار مجرّد ترتّب الثواب على ذلک الفعل لا المحبوبیّة الذاتیّة فعلى القول بدلالتها على حجّیة الخبر أیضاً یمکن أن یقال بأنّها تدلّ على الحجّیة من هذه الجهة لا من جمیع الجهاتوإن شئت قلت: کفایة الأغسال المستحبّة عن الوضوء ناظرة إلى ما کان مستحبّاً ذاتیّاً لا ما کان بعنوان الإنقیاد وطلب قول النبی(صلى الله علیه وآله) من العناوین الطارئة.
الأمر الرابع عشر: لا إشکال فی أنّ النسبة بین هذه الأخبار وأدلّة حرمة التشریع لیست التعارض لأنّ الأخبار حاکمة علیها توجب رفع موضوع التشریع تعبّداً کما لا یخفى.
وإن شئت قلت: أخبار من بلغ لسانها لسان أدلّة العناوین الثانویة کأدلّة أمر الوالد وشبهها الجاریة على موضوعات ثانویة، ومن المعلوم أنّها حاکمة على أدلّة العناوین الأوّلیة بل قد یکون واردة علیها إذا کانت قطعیّة.
الأمر الخامس عشر: أنّ ظاهر الأصحاب عدم التفصیل فی مسألة التسامح بین أن یکون الفعل من ماهیّات العبادات المرکّبة المخترعة کما إذا ورد خبر ضعیف على أنّ صلاة الأعرابی أربع رکعات وبین أن یکون من غیرها.
قال الشیخ الأعظم(رحمه الله): «إلاّ أنّ الاُستاذ الشریف(قدس سره) فصّل ومنع التسامح فی الاُولى، والذی بالبال ما ذکره لساناً فی وجه التفصیل هو أنّ(22)... (إلى هنا جفّ قلمه الشریف).
أقول: لعلّ وجه التفصیل فی نظر شریف العلماء(رحمه الله) أنّ المستفاد من مذاق الشرع والذوق الفقهی المتشرّعی أنّ ماهیات العبادات لکونها من المخترعات الشرعیّة التوقیفیّة لا تثبت إلاّ بدلیل معتبر، وهذا غایة ما یمکن أن یقال به فی توجیه هذا التفصیل، وهو فی محلّه، وإن أبیت عن هذا فإنّ الأخبار عامّة تعمّ کلتا الصورتین کما لا یخفى.
إلى هنا تمّ البحث عن أخبار من بلغ وقد تحصّل منه اُمور أهمّها ثلاثة:
الأوّل: إنّه لا یستفاد من هذه الأخبار لا حجّیة الأخبار الضعیفة ولا الاستحباب الفقهی، وما ذکرنا من التنبیهات کان مبنیّاً على أحد المبنیین لا على ما اخترناه من أنّ المستفاد منها مجرّد ترتّب الثواب تفضّلا، وقد جرت عادة القوم على هذا النحو من البحث فکثیراً ما یبحثون عن مسائل لا موضوع لها إلاّ على بعض المبانی.
الثانی: إنّ المستفاد من هذه الأخبار لزوم إتیان العمل بقصد رجاء ترتّب الثواب وإن قلنا بدلالتها على الاستحباب لأنّه صریح مثل قوله (علیه السلام) «فعمل به رجاء ذلک الثواب».
الثالث: إنّ هذه الأخبار لا تحلّ المشکلة التی طرحنا هذا البحث لأجلها، وهى مشکلة العبادات المشکوکة بناءً على اعتبار قصد الأمر القطعی فیها، وذلک باعتبار أنّ المستفاد منها إتیان العمل بقصد الرجاء کما مرّ آنفاً، والمفروض عدم کفایته فی عبادیة العبادة. هذا أوّلا.
وثانیاً: لو سلّمنا الکفایة کان الدلیل أخصّ من المدّعى حیث إنّ هذه الأخبار تشمل خصوص العبادات المشکوکة التی یکون منشأ الشکّ فیها روایة ضعیفة، فلا تعمّ ما کان المنشأ فیه أمر آخر من قبیل شهرة أو إجماع منقول.
نعم هذا کلّه بناءً على اعتبار قصد الأمر الجزمی القطعی فی العبادة، وأمّا على القول بکفایة مطلق المحبوبیة وقصد الرجاء (کما هو المختار) فلا حاجة إلى أخبار من بلغ من الأساس کما لا یخفى، وقد عرفت غیر مرّة أنّ المعتبر فی العبادة الحسن الفعلی والفاعلی، والمراد من الحسن الفعلی کونه أمراً قربیّاً، ومن الحسن الفاعلی کون الداعی والباعث على الإتیان بالعمل هو الله تعالى بأیّ صورة کانت.