الأمر الأوّل: ما حکی عن أبی حنیفة والشیبانی من دلالة النهی على الصحّة، وظاهره دلالته علیها مطلقاً سواء فی المعاملات والعبادات، وحکی عن فخر المحقّقین موافقته لهما بل وافقهما المحقّق الخراسانی(رحمه الله) فی بعض شقوق المعاملة وفی تهذیب الاُصول فی جمیعها، ولکن خالفهما المشهور، والحقّ أنّ کلامهما هذا ساقط عن الاعتبار مطلقاً کما سیأتی بیانه.
وکیف کان فهیهنا ثلاثة أقوال: دلالة النهی على الصحّة مطلقاً، وعدم دلالته علیها مطلقاً، والقول بالتفصیل، أی دلالته علیها فی الجملة.
أمّا القول الأوّل: فاستدلّ له بأنّ النهی لا یصحّ إلاّ عمّا یتعلّق به القدرة، والمنهی عنه هو وقوع المعاملة مؤثّرة صحیحة، فلو کان الزجر عن معاملة مقتضیّاً للفساد للزم أن یکون سالباً لقدرة المکلّف، ومع عدم قدرته یکون لغواً، فلو کان صوم یوم النحر والنکاح فی العدّة مثلا ممّا لا یتمکّن المکلّف من إتیانهما کان النهی عنهما لغواً لتعلّقه بأمر غیر مقدور.
وإن شئت قلت: أنّ الانزجار عن الفعل المنهی عنه حاصل لعدم القدرة علیه، فالنهی عنه حینئذ تحصیل للحاصل.
وأجاب عنه المحقّق الخراسانی(رحمه الله) بالتفصیل بین ما إذا کان النهی فی المعاملات عن المسبّب أو التسبّب، فیدلّ على الصحّة لاعتبار القدره فی متعلّقه عقلا کالأمر وإنّه لا یکاد یقدر على المسبّب أو التسبّب إلاّ فیما إذا کانت المعاملة مؤثّرة صحیحة، وبین ما إذا کان النهی فیها عن السبب فلا یدلّ على الصحّة لأنّ المکلّف قادر على السبب، أی على إجراء الصیغة على أیّ حال: سواء کان صحیحاً أو فاسداً.
هذا کلّه فی المعاملات وأمّا العبادات فقد قسّمها إلى قسمین:
أوّلهما: ما کان منها عبادة ذاتیّة کالرکوع والسجود ممّا لا تحتاج عبادیتها إلى تعلّق أمر بها، فذهب إلى کونها مقدورة صحیحة ولو مع النهی عنها کما إذا کانت مأموراً بها لأنّ عبادیتها لا تتوقّف على تعلّق الأمر به لکی لا یمکن تحقّقها إذا تعلّق النهی بها ولم تکن مأموراً بها.
ثانیهما: ما کان منها عبادة لتعلّق الأمر بها ولاعتبار قصد القربة فی عبادیتها فذهب فی هذا القسم إلى عدم کونه مقدوراً مع النهی عنه لأنّ المبغوض لا یکون مقرّباً فیدلّ النهی فیه على الفساد.
وأورد علیه فی تهذیب الاُصول توجیهاً لقول أبی حنیفة والشیبانی بأنّ مورد نظرهما لیس نفس السبب بما هو فعل مباشری إذ لیس السبب متعلّقاً للنهی فی الشریعة حتّى یبحث عنه بل مورد النظر هو المعاملات العقلائیّة المعتدّ بها لولا نهی الشارع عنها، أعنی العقد المتوقّع منه ترتّب الأثر والمسبّب علیه(1).
أقول: مقصوده أنّ النهی یتعلّق بالسبب بما هو سبب وبوصف السببیّة لا بذات السبب، فلا وجه للتفریق بین النهی عن السبب والنهی عن المسبّب أو التسبّب فی کلام المحقّق الخراسانی(رحمه الله).
ولکن یرد علیه: أنّ لازم هذا رجوع النهی عن السبب إلى النهی عن المسبّب أو النهی عن التسبّب، وهو خلاف التقسیم المفروض فی کلام المحقّق الخراسانی(رحمه الله).
وکیف کان، فالحقّ عدم دلالة النهی على الصحّة مطلقاً بل غایة ما یدلّ علیه إنّما هو صحّة العمل المنهی عنه لولا تعلّق النهی به، وهذا یکفی فی الخروج عن محذور تحصیل الحاصل ومحذور تعلّق النهی بأمر غیر مقدور، وذلک لأنّ الشارع یسلب القدرة عن المکلّف تعبّداً بنهیه عنه نظیر ما یلاحظ فی باب النذر فیما إذا تعلّق بترک عبادة مکروهة مثلا، حیث إنّ الناذر یسلب القدرة عن نفسه تعبّداً وشرعاً لا تکویناً وخارجاً، وفی ما نحن فیه إذا نهى الشارع المقدّس عن بیع المصحف من الکافر فقد سلب عن المکلّف القدره الشرعیّة على البیع التی کانت له قبل النهی، والذی تقتضیه حکمة الشارع الحکیم إنّما هو صحّة المعاملة لولا تعلّق النهی وقبل تعلّقه، وأمّا بعد تعلّقه فالحکمة تقتضی عقلا أو عقلائیّاً الفساد لوجود الملازمة بین المبغوضیّة المستفادة من النهی والفساد عند العرف والعقلاء کما مرّ.
وبعبارة اُخرى: عدم دلالة النهی على الفساد مستلزم للغویّة لا أنّ عدم الفساد مستلزم لها، لاقتضاء الحکمة العقلائیّة أن یکون المبغوض فاسداً.
ثمّ إنّ المصرّح به فی کلمات جماعة من المحقّقین ومنهم المحقّق الخراسانی والمحقّق النائینی(رحمهما الله)أنّ متعلّق النهی فی العبادات لیس هو العبادة الفعلیّة أی العبادة الصحیحة من جمیع الجهات بل إنّما یتعلّق النهی بشیء لو تعلّق الأمر به لکان أمراً عبادیّاً، فإنّ الشرائط الآتیة من قبل الأمر خارجة عن المدلول بل مطلق الشرائط على التحقیق کما صرّح به فی تهذیب الاُصول(2).
أقول: إنّ الظاهر من النواهی المتعلّقة بالعبادات کالنهی عن الصّلاة فی أیّام العادة أنّها تتعلّق بالعبادة الجامعة لجمیع الشرائط حتّى قصد القربة کما مرّ فی بعض الأبحاث السابقة، فمعنى قوله(علیه السلام) «لا تصلّ فی أیّام اقرائک» «لا تصلّ صلاة کنت تأتین بها قبل أیّام العادة» أی الصّلاة الجامعة لجمیع شرائط الصحّة.
هذا ـ مضافاً إلى کونه مقتضى ما اخترناه فی مبحث الصحیح والأعمّ من أنّ الألفاظ الشرعیّة وضعت للصحیح وما یکون مبدأً للآثار، حیث إنّه یقتضی کون متعلّق النهی تلک العبادة الجامعة لتمام شرائط الصحّة، نعم یستلزم النهی سلب القدرة عن إتیانها، وبعبارة اُخرى: النهی یتعلّق بالعبادة الفعلیّة قبل النهی لا بعده.
وبهذا یظهر أنّ دلالة النهی على الفساد ـ أی بطلان کلام أبی حنیفة والشیبانی فی باب العبادات ـ لیست متوقّفة على عدم کون المراد من الصحیح الصحیح من جمیع الجهات وعلى عدم کون المراد من الصحّة هو الصحّة الفعلیّة کما ذهب إلیه جماعة من الأعلام بل النهی یدلّ على الفساد فی باب العبادات ولو کان المراد من الصحّة الصحّة الفعلیّة لأنّ المقصود منها الفعلیّة قبل النهی لا بعده کما مرّ آنفاً.
الأمر الثانی: أنّه قد مرّ شمول النزاع فی المسألة للأعمّ من النهی التحریمی والتنزیهی، ونتیجته دلالة النهی على الفساد مطلقاً حتّى إذا کان تنزیهیاً لأنّه الوجه فی دلالته على الفساد وجود الملازمة بین المبغوضیّة وعدم الإمضاء من جانب الشارع، ولا إشکال فی أنّ النهی التنزیهی أیضاً یدلّ على مبغوضیّة متعلّقه ولو کانت بدرجة أقلّ من التحریمی.
وإن شئت قلت: لا بدّ لکون العبادة مقرّبة من أن یکون العمل محبوباً، والنهی التنزیهی دالّ على عدم کون المتعلّق محبوباً على الأقلّ وإن لم یکن دالا على کونه مبغوضاً.
إن قلت: فکیف الحکم بصحّة العبادات المکروهة؟
قلنا: قد مرّ البحث مستوفى عن العبادات المکروهة وأنّ الکراهة فیها لیست هی الکراهة المصطلحة فراجع.
هذا بالنسبة إلى العبادات، وأمّا المعاملات فلا دلیل على دلالة النهی التنزیهی فیها على الفساد کالنهی عن بیع الأکفان والنهی عن تلقّی الرکبان، حیث إنّ المفروض جواز العمل المکروه فی الکراهة المصطلحة من ناحیة الشارع، فکیف تلازم عدم الإمضاء من جانبه؟ وکیف تکون منافیة للحکمة بعد ملاحظة عدم اعتبار قصد القربة فی المعاملات؟ حیث لا یمکن أن یقال حینئذ: «أنّ النهی التنزیهی یدلّ على الأقلّ على عدم کون المتعلّق محبوباً فلا یکون مقرّباً» کما یقال به فی باب العبادات التی تعلّق بها النهی التنزیهی.
إلى هنا تمّ الکلام فی مباحث النواهی والحمد لله أوّلا وآخراً.