إذا عرفت ذلک فاعلم أنّ الأقوال فی المسألة کثیرة جدّاً، والمهمّ منها أربعة:
1 ـ الفساد مطلقاً سواء کان المنهی عنه عبادة أو معاملة.
2 ـ الصحّة مطلقاً وهو ما نقل عن أبی حنیفة.
3 ـ التفصیل فی المعاملة بین النهی عن السبب والنهی عن المسبّب وأنّه یوجب الفساد فی الأوّل دون الثانی، وهو ما ذهب إلیه المشهور ومنهم المحقّق الخراسانی(رحمه الله).
4 ـ التفصیل بین العبادة والمعاملة وأنّه یوجب الفساد فی الاُولى دون الثانیّة.
ثمّ اعلم أنّ محلّ النزاع فی المسألة هو النهی المولوی لا الإرشادی کما مرّ، کما أنّه بحث فی مقام الثبوت لا الإثبات، أی النزاع فی أنّه لو فرض نهی وکان مولویّاً فهل یوجب الفساد أو لا؟ فلا یبحث عن مقام الإثبات وأنّه متى یکون النهی إرشادیّاً ومتى یکون مولویّاً، والعجب من بعض الأعاظم حیث وقع الخلط فی کلماته بین المقامین.
وکیف کان فالحقّ أنّ النهی یوجب الفساد فی العبادات وذلک لجهتین:
الاُولى: أنّ العبادة مرکّبة حقیقة وروحاً من أمرین: الحسن الفعلی والحسن الفاعلی، والمراد من الحسن الفعلی صلاحیة ذات العمل للتقرّب به إلى الله تعالى، ومن الحسن الفاعلی قصد الفاعل التقرّب به إلى الله، والنهی ینافیها فی کلتی المرحلتین لأنّه یکشف أوّلا: عن کون الفعل مبغوضاً للمولى وأنّه لا حسن له عنده، وثانیاً: عن عدم کون الفاعل متقرّباً به إلى الله تعالى لأنّه کیف یمکن للفاعل قصد التقرّب بما لا یصلح للتقرّب به إلى الله.
نعم إذا کان جاهلا بتعلّق النهی أمکن حینئذ أن یصدر منه قصد التقرّب کما لا یخفى، ولکن هذا من ناحیة حسنه الفاعلی، وأمّا الحسن الفعلی وعدمه فلا إشکال فی أنّه لا ربط له بعلم المکلّف وجهله، فیوجب عدمه فی حال الجهل أیضاً بطلان العمل.
ثمّ إنّ المحقّق الخراسانی(رحمه الله) أورد هیهنا إشکالا وأجاب عنه بوجوه عدیدة، أمّا الإشکال فحاصله أنّ اقتضاء النهی الفساد فی العبادات إنّما یتمّ فیما إذا کان النهی المتعلّق بها دالا على الحرمة الذاتیّة، ولا یعقل تحریمها ذاتاً لأنّ المکلّف إمّا أن یقصد القربة أو لم یقصدها، فإن لم یقصدها فلا عبادة کی تحرم بالنهی ذاتاً وتفسد، وإن قصدها فهذا غیر مقدور له، إذ لا أمر فی البین کی یقصده ویتحقّق به العبادة وتحرم ذاتاً وتفسد إلاّ إذا قصد القربة تشریعاً، ومعه یتّصف الفعل بالحرمة التشریعیّة دون الذاتیّة لامتناع اجتماع المثلین.
وأمّا جوابه:
أوّلا: ما مرّ فی بعض المقدّمات من أنّ المراد من العبادة فی المسألة إنّما هو العبادة الشأنیّة، أی ما لو تعلّق الأمر به کان أمره عبادیّاً ولا یسقط إلاّ بقصد القربة، ومن المعلوم أنّ تحریم ذلک ذاتاً بمکان من الإمکان.
وثانیاً: أنّه ینتقض بالعبادات الذاتیّة کالرکوع والسجود حیث إنّهما ـ کما مرّ ـ لا تحتاج فی عبادیتها إلى تعلّق أمر بها، فیمکن تعلّق الحرمة بذاتها کحرمة السجود للصنم لأنّها ثابتة وإن لم یقصد بها القربة ولا یضرّ بعبادیتها حرمتها شرعاً وإن أضرّت بمقربیتها.
وثالثاً: أنّه لا منافاة بین الحرمة الذاتیّة والحرمة التشریعیّة ولا یستلزم منهما اجتماع المثلین، لأنّ الحرمة التشریعیّة تتعلّق بفعل القلب وهو الاعتقاد بوجوب العمل، والحرمة الذاتیّة تتعلّق بذات الفعل الخارجی، فهما لا تجتمعان فی محلّ واحد حتّى یلزم اجتماع المثلین.
ورابعاً: لو سلّمنا أنّ النهی فی العبادات لا یکون دالا على الحرمة الذاتیّة نظراً إلى الإشکال المزبور، إلاّ أنّ النهی فیها ممّا یدلّ على الفساد من جهة الحرمة التشریعیّة فلا أقلّ من دلالتها على سقوط الأمر عن العبادة وأنّها لیست مأمور بها من أصلها، وهو یکفی فی فسادها.
أقول:یرد علیه:
أوّلا: إنّ قضیّة امتناع اجتماع المثلین تتصوّر فی الاُمور التکوینیّة لا الاُمور الاعتباریّة حیث لا مانع عقلا من اجتماع المثلین فی الاعتباریات کما لا مانع من اجتماع الضدّین فیها، فإنّ البحث فیها بحث عن الحسن والقبح واللغویّة وعدمها لا عن الإمکان والاستحالة کما مرّ بیانه کراراً.
وثانیاً: إنّ اجتماع الملاکین من الحرمة فی مورد یوجب اندکاک أحدهما فی الآخر وتأکّده به، فتکون هناک حرمة واحدة مؤکّدة متعلّقة بفعل واحد وإن کان فیه ملاکان للحرمة، وهو نظیر ما إذا تعلّق النذر بفعل واجب، حیث لا إشکال فی انعقاده وتأکّد وجوب الواجب به.
وبهذا یظهر أنّ الوجه الثالث من الوجوه الأربعة التی أجاب بها المحقّق الخراسانی(رحمه الله)عن الإشکال فی غیر محلّه.
مضافاً إلى أنّ البدعة والتشریع لیس مجرّد عمل للقلب بل إنّه یتشکّل من عمل خارجی کالصیام فی العیدین ومن عقد القلب بکونه مشروعاً.
وإن شئت قلت: إنّ الاعتقاد القلبی یکون سبباً لانطباق عنوان التشریع على العمل الخارجی، وعلى أیّ حال: یتّحد متعلّق الحرمة الذاتیّة مع متعلّق الحرمة التشریعیّة فیعود المحذور الذی فی کلام المستشکل.
وهکذا الوجه الأوّل والثانی، أمّا الأوّل: فلأنّه مبنی على تعلّق النهی فی لسان الأدلّة على ذات الأفعال المنهی عنها مع أن الظاهر أنّه تعلّق بالصّلاة مع قصد القربة فی مثل قوله (علیه السلام): «دعی الصّلاة أیّام أقرائک» فلیست العبادة الواردة فی لسان الأدلّة العبادة الشأنیّة بل إنّها ناظرة إلى مقام الفعل والقصد.
وأمّا الثّانی: (وهو النقض بالعبادات الذاتیّة) فلأنه التزام بنفس الإشکال وإقرار بأنّه لو لم تکن العبادة ذاتیّة کان الإشکال وارداً، فیکون الجواب أخصّ من الإشکال.
فالوجه الصحیح والتامّ من الوجوه الأربعة إنّما هو الوجه الرابع وهو کفایة الحرمة التشریعیّة لفساد العمل.
ثمّ إنّ للمحقّق الحائری(قدس سره) فی المقام تفصیلا آخر، وهو التفصیل بین ما إذا تعلّق النهی بنفس المقیّد وهی الصّلاة المخصوصة مثلا (کأن یقال مثلا لا تصلّ فی الحمّام) وما إذا تعلّق النهی بأمر آخر یتّحد مع الطبیعة المأمور بها (کأن یقال مثلا «کون صلاتک فی الحمّام حرام» أو «کون صیامک فی العیدین حرام») ففی الصورة الاُولى یوجب النهی الفساد من جهة عدم إمکان کون الطبیعة من دون تقیید ذات مصلحة توجب المطلوبیّة، والطبیعة المقیّدة بقید خاصّ ذات مفسدة توجب المبغوضیّة، لأنّ الجهة الموجبة للمبغوضیّة لیست مباینة لأصل الطبیعة حتّى فی عالم الذهن، فلا یمکن أن تکون مبغوضاً ویکون أصل الطبیعة محبوبة من دون تقیید.
وبعبارة اُخرى: لو بقیت المحبوبیّة التی هی ملاک الصحّة فی العبادة فی المثال یلزم کون الشیء الواحد خارجاً وجهةً محبوباً ومبغوضاً وهو مستحیل، وأمّا الصورة الثانیّة فالصحّة والفساد فیها یبتنیان على کفایّة تعدّد الجهة فی تعدّد الأمر والنهی ولوازمها من القرب والبعد
والإطاعة والعصیان والمثوبة والعقوبة وحیث اخترنا کفایة تعدّد الجهة فی ذلک فالحقّ فی المقام الصحّة»(1).
أقول: یرد علیه:
أوّلا: أنّ باب الاجتماع یتصوّر فی ما إذا کان فی البین عنوانان مستقلاّن وهو لیس صادقاً فی المقام لأنّ کون الصّلاة فی الحمّام هو من الخصوصیّات الفردیّة واللوازم الوجودیّة للصّلاة فلا یعدّ عنواناً مستقلا عن عنوان الصّلاة.
وثانیاً: لو سلّم صحّة هذا التفصیل ثبوتاً فلا یصحّ فی مقام الإثبات حیث لا أظنّ فی هذا المقام وجود مورد فی لسان الشرع تعلّق النهی فیه بالخصوصیّة الخارجة عن الذات، أی
بأمر آخر یتّحد مع الطبیعة المأمور بها بل الظاهر أنّ جمیع النواهی الشرعیّة هی من موارد الصورة الاُولى، أی تعلّق النهی فیها بنفس المقیّد کقوله «لا تصلّ فی الحمّام» وقوله «لا تصمّ فی السفر» وغیر ذلک.