لا إشکال فی وقوع التخییر بین الأقلّ والأکثر فی لسان العرف والشرع نظیر التخییر بین الواحد والثلاث أو بین الواحد والأکثر فی ذکر الرکوع والسجود والتسبیحات الأربعة ونظیر التخییر بین الثلاثین دلواً والأربعین دلواً مثلا فی بعض منزوعات البئر، والتخییر بین القصر والإتمام فی الأماکن الأربعة المعروفة (ویمکن أن یناقش فی الأخیر بأنّه من قبیل المتباینین لاعتبار اندراج الأقلّ بتمام أجزائه وخصوصّیاته ضمن الأکثر بینما صلاة القصر لیست کذلک لأنّها مندرجة فی الإتمام مجرّدة عن التسلیم) هذا فی لسان الشرع، وأمثلته فی العرف أیضاً کثیرة.
إنّما الإشکال فیما ذکر لعدم إمکانه عقلا من دعوى أنّه مع تحقّق الأقلّ فی الخارج وحصوله یحصل الغرض، ومعه یکون الأمر بالأکثر لغواً لا یمکن صدوره من الحکیم.
وقد أجاب عنه المحقّق الخراسانی(رحمه الله)، بأنّه یمکن أن یفرض أنّ المحصّل للغرض فیما إذا وجد الأکثر هو الأکثر لا الأقلّ الذی فی ضمنه، أی کان لجمیع أجزائه دخل فی حصول الغرض، والمحصّل له فیما إذا وجد الأقلّ هو الأقلّ کذلک، أی کان کلّ منهما بحدّه محصّلا للغرض، وعلیه فلا محیص عن التخییر بینهما، إذ تخصیص الأقلّ بالوجوب حینئذ یکون بلا مخصّص.
وقد اُجیب عنه: بأنّ هذا خارج عن مفروض الکلام وهو التخییر بین الأقلّ والأکثر، وذلک لأنّ ما فرضه وإن کان تخییراً بینهما صورة إلاّ أنّه بحسب الواقع تخییر بین المتباینین، وذلک لفرض أنّ الماهیة «بشرط لا» تباین الماهیة «بشرط شیء».
أقول: الصحیح هو التفصیل بین ما إذا یحصل الأقلّ ضمن الأکثر دفعة واحدة کما إذا أردنا إلقاء المیّت الغریق (الذی لا یمکن إیصاله إلى ساحل البحر) إلى قعر الماء بشیء ثقیل، فتخیّرنا عقلا بین أن یکون وزن ذلک الشیء الثقیل عشرین کیلو مثلا أو أربعین کیلو، وبین ما إذا یحصل الأقلّ ضمن الأکثر تدریجاً کما فی مثال الصّلاة، فإنّ إشکال اللغویّة المزبورة لا تتصوّر فی القسم الأوّل لأنّ الغرض فیه لا یحصل بخصوص الأقلّ إذا اختار المکلّف الأکثر بل
یکون المحصّل للغرض حینئذ تمام الأکثر (وفی المثال تمام الأربعین کیلو) فیکون التخییر بین الأقلّ والأکثر فیه بلا إشکال، نعم أنّها تتصوّر فی القسم الثانی، ولا یمکن التفصّی عنها بما ذکره المحقّق الخراسانی(رحمه الله) لنفس ما ذکرناه من الجواب.
هذا فی التخییر العقلی، وکذلک فی التخییر الشرعی، فلا إشکال فیه أیضاً فیما إذا أتى بالأکثر دفعةً کما إذا أمر المولى بإدخال ثلاثة رجال أو خمسة فی الدار فأدخل العبد الخمسة دفعةً.
وبما ذکرنا یظهر أنّ التخییر بین الواحد والثلاث فی مثل التسبیحات الأربعة ممّا لا یمکن المساعدة علیه، لأنّ الأقلّ یتحقّق ضمن الأکثر تدریجاً، فلابدّ أن یقال أنّ الواجب فیها هو الأقلّ، وأمّا الأکثر وهو التسبیح مرّة ثانیّة وثالثة فیحمل على الاستحباب.
وبما ذکرنا ظهر الجواب عن الشبهات التی طرحناها فی أوّل البحث:
أمّا الاُولى منها: وهی أنّ الوجوب ینافی جواز الترک ـ فجوابها أنّا لا نقول بوجوب کلّ من الطرفین، بل الواجب عندنا عنوان أحدهما، وهو لا یجوز ترکه بکلا مصداقیه.
وأمّا الثانیّة منها: وهی أنّ الطلب التشریعی وزانه وزان الطلب التکوینی فلا یمکن تعلّقه بعنوان أحدهما اللاّمعین، فالجواب عنها ما أفاده المحقّق النائینی فی بعض کلماته وإن کان مغایراً من بعض الجهات للمختار (کما مرّت الإشارة إلیه فی أوائل البحث تحت عنوان «لا یقال») وإلیک نصّ کلامه: «أنّه یمکن تعلّق إرادة الآمر (الإرادة التشریعیّة) بأحد الشیئین وإن لم یمکن تعلّق إرادة الفاعل (الإرادة التکوینیّة) بذلک، ولا ملازمة بین الإرادتین على هذا الوجه، مثلا لا إشکال فی تعلّق إرادة الآمر بالکلّی مع أنّ إرادة الفاعل لا یعقل أن تتعلّق بالکلّی مجرّداً عن الخصوصیّة الفردیّة، والوجه فی ذلک أنّ الإرادة الفاعلیة إنّما تکون مستتبعة لحرکة عضلاته ولا یمکن حرکة العضلات نحو المبهم المردّد، وهذا بخلاف إرادة الآمر فإنّه لو کان کلّ من الشیئین أو الأشیاء ممّا یقوم به غرضه الوجدانی، فلابدّ أن تتعلّق إرادته بکلّ واحد، لا على وجه التعیین بحیث یوجب الجمع، فإنّ ذلک ینافی وحدة الغرض، بل على وجه البدلیّة، ویکون الاختیار حینئذ بید المکلّف فی اختیار أیّهما شاء، ویتّضح ذلک بملاحظة الأوامر العرفیّة، فإنّ أمر المولى عبده بأحد الشیئین أو الأشیاء بمکان من الإمکان»(1).
وأمّا الشبهة الثالثة: وهی قضیّة تعدّد العقاب فسیأتی الجواب عنها فی البحث الآتی، وهو البحث عن الواجب الکفائی فانتظر.