اختلف الأعلام فی وجوب المقدّمة على أقوال، فذهب المشهور إلى وجوبها وتبعهم المحقّق الخراسانی(رحمه الله) فی الکفایة والمحقّق النائینی(رحمه الله)، وذهب جماعة إلى عدم الوجوب وهو مختار تهذیب الاُصول والمحاضرات، وقد یکون هناک بعض التفاصیل فی المسألة.
ولا بدّ قبل بیان أدلّة القولین أو الأقوال بیان الفرق بین الوجوب الشرعی واللابدّیة العقلیّة، فنقول أمّا اللابدّیة العقلیّة، فمعناها واضح، بل هی من قبیل القضایا قیاساتها معها فإنّ معنى کون شیء مقدّمة لشیء آخر توقّفه علیه تکویناً وخارجاً عند العقل، أی أنّ العقل یدرک هذا التوقّف الخارجی ویکشف عنه بنحو القطع والبتّ من دون أن یعتبر شیئاً، وأمّا الوجوب الشرعی فهو أمر اعتباری وعبارة عن قانون یجعله الشارع ویعتبره فی عالم الاعتبار، فیکون الفرق بین الأمرین حینئذ هو الفرق بین الجعل وعدم الجعل، وبین الأمر الاعتباری والأمر التکوینی.
إذا عرفت ذلک فاعلم أنّه استدلّ لوجوب المقدّمة باُمور عدیدة:
الأمر الاوّل: ما أفاده المحقّق النائینی(رحمه الله) من مقایسة الإرادة التشریعیّة بالإرادة التکوینیّة وإلیک نصّ کلامه: «لا ینبغی الإشکال فی وجوب المقدّمة لوضوح أنّه لا یکاد یتخلّف إرادة المقدّمة عند إرادة ذیها بعد الالتفات إلى کون الشیء مقدّمة وأنّه لا یمکن التوصّل إلى المطلوب إلاّ بها، وإن أردت توضیح ذلک فعلیک بمقایسة إرادة الآمر بإرادة الفاعل، فهل ترى أنّک لو أردت شیئاً وکان ذلک الشیء یتوقّف على مقدّمات یمکنک أن لا ترید تلک المقدّمات؟ لا، بل لا بدّ من أن تتولّد إرادة المقدّمات من إرادة ذلک الشیء قهراً علیک، بحیث لا یمکنک أن لا تریدها بعد الالتفات إلى المقدّمات، وإلاّ یلزم أن لا ترید ذا المقدّمة، وهذا واضح وجداناً، وإرادة الآمر حالها حال إرادة الفاعل»(1).
ولکن قد اُورد علیه:
أوّلا: بأنّ «البرهان لم یقم على التطابق بین التشریع والتکوین لو لم نقل بقیامه على خلافه، وتوضیح الفرق أنّ تعلّق الإرادة بالمقدّمات من الفاعل المرید، لملاک أنّه یرى أنّ الوصول إلى المقصد وإلى الغایة المطلوبة لا یحصل إلاّ بإیجاد مقدّماته، فلا محالة یریده مستقلا بعد تمامیّة مقدّماتها، وأمّا الآمر غیر المباشر فالذی یلزم علیه هو البعث نحو المطلوب وإظهار ما تعلّقت به إرادته ببیان واف، بحیث یمکن الإحتجاج به على العبد، ویقف العبد به على مراده حتّى یمتثله، وأمّا إرادة المقدّمات فلا موجب له ولا غایة، بعد حکم العقل بلزوم إتیانها، والحاصل أنّه فرق بین المباشر والآمر فإنّه لا مناصّ فی الأوّل عند تعدّد الإرادة، لأنّ المفروض إنّه المباشر للأعمال برمّتها فلا محالة تتعلّق الإرادة بکلّ ما یوجده بنفسه، وأمّا الآمر فیکفی فی حصول غرضه بیان ما هو الموضوع لأمره وبعثه، بأن یأمر به ویبعث نحوه، والمفروض أنّ مقدّمات المطلوب غیر خفی على المأمور، وعقله یرشد إلى لزوم إتیانها فحینئذ لأیّ ملاک تنقدح إرادة اُخرى متعلّقة بالمقدّمات؟»(2).
وثانیاً: بأن ترشّح إرادة من إرادة اُخرى بمعنى کون إرادة الواجب علّة فاعلیة لارادتها من غیر احتیاج إلى مبادىء اُخر کالتصوّر والتصدیق بالفائدة ممّا لا أصل له، لأنّ الحاکم بوجوب المقدّمة على الفرض هو الشارع الفاعل المرید المختار، وإنّ سبب الوجوب إنّما هو نفس المولى وإرادته، فتوقّف ذی المقدّمة على المقدّمة یکون حینئذ داعیاً لایجابه المقدّمة، لا أن یکون سبباً بنفسه لوجوبه(3).
ولکن یمکن الجواب عن کلا الوجهین:
أمّا الوجه الثانی: فلأنّه یمکن أن یقال بأنّ مراد المحقّق النائینی (رحمه الله) ومن یحذو حذوه من الترشّح إنّما هو أنّ المولى الحکیم یرید المقدّمات عند إرادة ذیها لا محالة، أی إذا تعلّقت الإرادة بذی المقدّمة تعلّقت مبادئها من التصوّر والتصدیق وغیرهما بمقدّماتها أیضاً، غایة الأمر أنّها إرادة غیریّة تبعیّة، مع کونها فی نفس الوقت مولویّة لا إرشادیّة، فلیس المقصود من الترشّح التولّد القهری غیر الإرادی حتّى یقال بأنّه لا أصل له، بل المراد منه التلازم بین الإرادتین، بمعنى أنّ المولى الحکیم إذا التفت إلى توقّف ذی المقدّمة على مقدّماتها یتولّد فی نفسه مبادىء إرادتها بمقتضى حکمته.
إن قلت: لیس الکلام فی الإرادة وتولّدها فی نفس المولى بل الکلام فی جعل قانون واعتبار حکم على المقدّمة، والإرادة لا تکفی فیه، بل یکون جعل الحکم لغواً.
قلنا: وجود حکم العقل فی مورد لا یوجب لغویّة حکم الشارع فی ذلک المورد، کما نلاحظه فی حکم الشارع بوجوب الاحسان أو استحبابه وحرمة الظلم ونحوهما، ولذلک قیل (ونعم ما قیل) «إنّ الواجبات الشرعیّة الطاف فی الواجبات العقلیّة» وبعبارة اُخرى: حکم الشارع فی موارد حکم العقل یکون تأکیداً لحکم العقل ولا لغویّة فی التأکید، هذا أوّلا.
وثانیاً: لا حاجة فی وجوب المقدّمة إلى جعل واعتبار فعلی من طریق الخطابات الأصلیّة بل یمکن کشف حکم الشارع من ناحیة کشف وجود الشوق والإرادة، أی من ناحیة کشف مبادىء الحکم ووجود ملاکه فإنّه یساوق الحکم نفسه کما سیأتی بناءً على قول المنکرین للترتّب من أنّ تزاحم المهمّ مع الأمر بالأهمّ یوجب عدم فعلیّة الأمر بالمهم، ولکنّه مع ذلک لا یوجب بطلان المهمّ العبادی بعد ترک الأهمّ لوجود الملاک، فتدبّر جیّداً.
وأمّا الوجه الأوّل: فالجواب عنه أنّه لا إشکال فی أنّ الفعل التسبیبی أیضاً یعدّ فعلا للمولى کالفعل المباشری ویستند إلى المولى، وإذاً کیف یمکن أن یتسامح الفاعل فی مقدّمات فعلیه، فإن أراد المولى صعود العبد إلى السطح حقیقتاً فلا محالة یرید نصب السلّم وغیره من المقدّمات أیضاً، وإن أراد أمیر العسکر من عسکره فتح بلد حتماً وتعلّقت إرادته به حقیقة فسوف تتعلّق إرادته بمقدّماته من تهیئة التدارکات وإیجاد النظام بین أفراد العسکر وتهیئة طرح للعملیّات بلا ریب، نعم قد یکون وضوح الإتیان بالمقدّمات للعبد بحیث لا یحتاج المولى إلى مزید بیان، ولکن لا بمعنى أنّه لا یریدها بل بمعنى أنّه لا یحتاج إلى بیان هذا الأمر لوضوحه.
هذا کلّه فی الدلیل الأوّل على وجوب المقدّمة، وقد ظهر أنّه تامّ فی محلّه.
الأمر الثانی: ما ذکره بعضهم من أنّ الوجدان أقوى شاهد على أنّ الإنسان إذا أراد شیئاً له مقدّمات، أراد تلک المقدّمات لو التفت إلیها بحیث ربّما یجعلها فی قالب الطلب مثله، ویقول مولویّاً: «ادخل السوق وإشتر اللحم» مثلا بداهة أنّ الطلب المنشأ بخطاب «ادخل» مثل المنشأ بخطاب «اشتر» فی کونه بعثاً مولویّاً، فحیث تعلّقت إرادته بشراء اللحم ترشّحت منها له إرادة اُخرى بدخول عبده السوق بعد الالتفات إلیه وأنّه یکون مقدّمة له کما لا یخفى.
أقول: قد ظهر ممّا ذکرنا فی مقام الدفاع عن الوجه الأوّل ضعف ما أُورد على هذا الوجه فی المحاضرات من أنّ الوجدان حاکم على الخلاف للزوم اللغویّة فتدبّر، فإنّک قد عرفت:
أوّلا: أن الأوامر الشرعیّة کثیراً ما تکون تأکیداً للواجبات العقلیّة.
وثانیاً: أنّ عدم الحاجة إلى البیان فی بعض الموارد لا یکون دلیلا على عدم إرادة المولى، ویکفی فی هذه المقامات وجود الإرادة ولو فی نفس المولى.
الأمر الثالث: ما ورد فی لسان الشارع من الأوامر الغیریّة التی تعلّقت ببعض المقدّمات فإنّها صدرت من جانب الشارع إمّا لوجوب خصوصیّة فی تلک المقدّمات غیر کونها مقدّمة، أو من باب أنّها مقدّمة لبعض الواجبات، والأوّل ممنوع بالاتّفاق، فلا إشکال فی أنّ وجوبها إنّما هو بملاک المقدّمیّة، فنتعدّى منها إلى سائر المقدّمات من باب تنقیح المناط.
ومن هذه الأوامر:
منها: قوله تعالى فی باب الغسل: (وَإِنْ کُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا)(4).
ومنها: قوله تعالى فی باب التیمّم: (... فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَیَمَّمُوا صَعِیداً طَیِّباً)(5).
ومنها: قوله تعالى فی باب الوضوء: (إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَکُمْ وَأَیْدِیَکُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ)(6).
ومنها: قوله تعالى فی آیة النفر: (فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ کُلِّ فِرْقَة مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِیَتَفَقَّهُوا فِی الدِّینِ وَلِیُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَیْهِمْ)(7).
ومنها: قوله تعالى فی باب الجهاد: (انفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالا)(8).
ومنها: قوله تعالى فی آیة السؤال: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّکْرِ إِنْ کُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ)(9).
ومنها: قوله تعالى فی آیة النبأ: (إِنْ جَاءَکُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإ فَتَبَیَّنُوا)(10) (حیث إنّ التبیّن لیس واجباً نفسیّاً لإمکان الاحتیاط).
ومنها: قوله تعالى فی باب صلاة الجمعة: (إِذَا نُودِی لِلصَّلاَةِ مِنْ یَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِکْرِ اللهِ)(11).
ومنها: قوله تعالى: (إِذَا جَاءَکُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَات فَامْتَحِنُوهُنَّ)(12) (حیث إنّ الامتحان واجب مقدّمة لتشخیص الإیمان والکفر) إلى غیر ذلک من الأوامر الغیریّة الواردة فی الکتاب الکریم، ففی جمیع ذلک وأشباهها أمر الله تعالى بالواجبات الغیریّة المقدّمیّة.
وقد توهّم بعض انحصار هذا القبیل من الأوامر فی ما تعلّق بالطهارات الثلاث ثمّ استشکل على الاستدلال بها فی المقام بأنّها لیست أوامر مولویّة بل إرشادیّة ترشد إلى شرطیّة الطهارات الثلاث فقط.
ولکنّه قد ظهر عدم انحصارها فی ذلک، مضافاً إلى أنّه سیأتی إن شاء الله تعالى فی باب استصحاب الأحکام الوضعیة من مباحث الاستصحاب من أنّ الشرطیّة والجزئیّة أمران منتزعان من الأحکام التکلیفیة کغیرهما من الأحکام الوضعیة، وبعبارة اُخرى: أنّ الشرطیّة أو الجزئیّة متأخّرة عن الأمر رتبة، وهی تنتزع من الأمر المولوی المتعلّق بالمأمور به، فکیف یمکن أن یکون الأمر إرشاداً إلیها؟ فتدبّر فإنّه حقیق به.
الأمر الرابع: ما نسب إلى أبی الحسن البصری الأشعری من أنّ المقدّمة لو لم تکن واجبة لجاز ترکها، وحینئذ فإن بقى الواجب على وجوبه یلزم التکلیف بما لا یطاق وإلاّ خرج الواجب المطلق عن وجوبه.
واُجیب عنه: بأنّا نلتزم بالشقّ الأوّل فی کلامه، وهو بقاء الواجب على وجوبه ولکن لا یلزم التکلیف بما لا یطاق، لأنّا لا نقول حینئذ بوجوب ترک المقدّمة حتّى تکون ممتنعة شرعاً ویصیر ذو المقدّمة غیر مقدور، بل نقول بعدم وجوبها شرعاً، أی المراد من جواز ترکها عدم المنع الشرعی عن ترکها، فتکون باقیة على وجوبها العقلی ولا إشکال فی أنّه لا یلزم حینئذ محذور عقلی فی الأمر بذی المقدّمة.
هذا تمام الکلام فی أدلّة القائلین بوجوب المقدّمة، وقد عرفت تمامیّة الوجوه الثلاثة الاُولى بلا إشکال، وإن کان بعضها کالأخیر قاصراً عن إثبات المطلوب.
وأمّا القائلون بعدم وجوبها فاستدلّوا بلزوم اللغویّة مع وجود اللابدّیة العقلیّة.
ولکن الإنصاف أنّه فی غیر محلّه لأنّه أوّلا: إنّ اللغویّة على تقدیر لزومها تختصّ بما إذا کان وجوب المقدّمة ملازماً لجعل الشارع واعتباره إیّاه حیث یقال حینئذ: لا حاجة إلى جعله واعتباره من جانب الشارع مع وجود اللابدّیة العقلیّة، ولکن الملازمة ممنوعة، لأنّه یکفی فی وجوب شیء فی الواقع کونه محبوباً للمولى ومتعلّقاً لشوقه وإرادته واقعاً، وهو حاصل فی ما نحن فیه، وبعبارة اُخرى: اللغو فی المقام إنّما هو جعل الحکم واعتباره، ولا حاجة إلیه فی إثبات الوجوب الشرعی لکفایة إحراز الملاک فی ذلک.
وثانیاً: اللغویّة ممنوعة جدّاً، لما عرفت من کفایة کونه تأکیداً، فکم من واجب شرعی یکون تأکیداً فی واجب عقلی!