إنّ الأصالة والتبعیّة تارةً: تلحظان بالنسبة إلى مقام الدلالة والإثبات کما لاحظهما المحقّق القمّی وصاحب الفصول(رحمهما الله)، فعرّفهما المحقّق القمّی(رحمه الله) بأنّ الواجب الأصلی ما یکون مقصوداً بالإفادة من الکلام، والواجب التبعی ما لا یکون مقصوداً بالإفادة من الکلام، وإن استفید تبعاً، کدلالة الآیتین على أقلّ الحمل.
وعرّفهما المحقّق صاحب الفصول(رحمه الله) بأنّ الأصلی ما فهم وجوبه بخطاب مستقلّ، أی غیر لازم لخطاب آخر وإن کان وجوبه تابعاً لوجوب غیره، والتبعی بخلافه، وهو ما فهم وجوبه تبعاً لخطاب آخر وإن کان وجوبه مستقلا کما فی المفاهیم، فالمناط فی الأصالة والتبعیّة هو الاستقلال بالخطاب وعدمه، فإن کان مستفاداً من خطاب مستقلّ فهو الأصلی، وإن فرض وجوبه غیریّاً تابعاً لوجوب غیره، کما قال الله تعالى: (إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا ...)(1)الآیة، وإن لم یکن مستفاداً من خطاب مستقلّ فهو التبعی، وإن فرض وجوبه نفسیّاً غیر تابع لوجوب غیره، کما إذا استفید ذلک بنحو المفهوم.
فالمدالیل الالتزامیّة اللّفظیّة تبعیّة عنده لعدم کونها واردة بخطاب مستقلّ، وإنّما هی لازم لخطاب آخر، بینما هی أصلیّة عند المحقّق القمّی(رحمه الله) لکونها مقصوداً بالإفادة للمتکلّم.
وتارةً اُخرى: تلحظان بلحاظ مقام الثبوت کما لاحظهما کذلک شیخنا الأعظم(رحمه الله) بناءً على ما فی التقریرات، فیکون الأصلی حینئذ عبارة عمّا تعلّقت به إرادة مستقلّة من جهة الالتفات إلیه بما هو علیه من المصلحة، والتبعی عبارة عمّا لم تتعلّق به إرادة مستقلّة لعدم الالتفات إلیه بما یوجب إرادته کذلک، وإن تعلّقت به إرادة إجمالیّة تبعاً لإرادة غیره کما فی الواجبات الغیریّة الترشّحیّة.
والمحقّق الخراسانی(رحمه الله) اختار التفسیر الأخیر وأنّ التقسیم یکون بلحاظ مقام الثبوت لا بلحاظ مقام الإثبات والدلالة نظراً إلى أنّ لازمه عدم اتّصاف الواجب الذی لم یکن مفاد دلیل لفظی بشیء من الأصلی والتبعی وهو کما ترى.
وهیهنا تفسیر آخر وهو أنّ المراد من الأصلی ما اُرید لذاته، وبالتبعی ما اُرید لغیره، وهو أیضاً تقسیم بلحاظ مقام الثبوت، ولا إشکال فی رجوعهما حینئذ إلى الواجب النفسی والغیری وإنّما الاختلاف فی التعبیر.
أقول: إنّ لازم التفسیر الثالث الذی هو تقسیم للواجب بلحاظ مقام الثبوت عدم جریان هذا التقسیم فی الواجبات النفسیّة وکون جمیعها من الواجبات الأصلیة، لأنّ الإرادة فی الواجب النفسی مستقلّة قطعاً فإنّه لا معنى لکون الواجب نفسیاً ذا مصلحة نفسیة ملزمة ولا یکون منظوراً ومراداً بالاستقلال بل أنّه جار فی خصوص الواجبات الغیریّة، فإنّها تارةً تکون متعلّقة لإرادة مستقلّة للمولى کالوضوء بالنسبة إلى الصّلاة، واُخرى لا تتعلّق بها إرادة مستقلّة کما فی کثیر من الواجبات الغیریّة.
والمهمّ فی المقام أنّ التعبیر بالأصلیّة والتبعیّة لم یرد فی حدیث ولا فی آیة من کتاب الله ولا تترتّب علیه ثمرة لا فی الاُصول ولا الفقه بل إنّهما مجرّد اصطلاح فحسب، وحینئذ لا فرق بین أن یلاحظ بالنسبة إلى مقام الثبوت أو مقام الإثبات فإنّه لا مشاحّة فی الاصطلاح.
ثمّ إنّه لو شککنا فی أنّ الواجب أصلی أو تبعی، فبناءً على التفسیر الأوّل والثالث لا أصل فی المسألة، لأنّهما أمران وجودیان، وبناءً على التفسیر الثانی یکون الأصل العملی الجاری فی المسألة هو استصحاب عدم تعلّق إرادة مستقلّة به، وبه تثبت التبعیّة، ولکن هذا إذا کان التقابل بین الأصلیة والتبعیّة تقابل العدم والملکة، أی کان الواجب التبعی أمراً عدمیّاً وعبارة عمّا لم یتعلّق به إرادة مستقلّة، وأمّا إذا کان التبعی أیضاً کالأصلی أمراً وجودیّاً وعبارة عمّا تعلّقت به إرادة إجمالیّة تبعاً لإرادة غیره فلا تجری أصالة عدم تعلّق إرادة مستقلّة لإثبات أنّ المتعلّق هو إرادة إجمالیّة تبعیّة إلاّ على القول بالأصل المثبت، مضافاً إلى أنّه کما تجری أصالة عدم تعلّق الإرادة المستقلّة تجری أیضاً أصالة عدم تعلّق الإرادة التبعیّة، فتتعارضان وتتساقطان، ونتیجته عدم وجود أصل فی المسألة الاُصولیّة.
هذا کلّه بناءً على تصوّر ثمرة فقهیّة للمسألة، وقد مرّ أنّه لا ثمرة للمسألة أصلا لا فی الاُصول ولا فی الفقه، وحینئذ لا موضوع للأصل العملی الذی یجری فیما إذا کان فی المسألة أثر شرعی، ولذلک لا معنى للبحث عن الأصل بالنسبة إلى المسألة الفقهیّة أیضاً.
إلى هنا تمّ الکلام عن الجهة الرابعة من الجهات التی رسمناها قبل الورود فی أصل البحث عن وجوب مقدّمة الواجب.
الجهة الخامسة: کیفیة وجوب المقدّمة
إذا قلنا بوجوب المقدّمة، فهل هی واجبة مطلقاً أو مشروطة بشرط؟ وعلى الثانی، ما هو ذلک الشرط؟
فیه أقوال عدیدة وتفاصیل مختلفة:
القول الأوّل: ما اختاره المحقّق الخراسانی(رحمه الله) فی الکفایة من أنّ وجوب المقدّمة بناءً على الملازمة یتبع فی الإطلاق والاشتراط وجوب ذی المقدّمة، فإن کان وجوب ذی المقدّمة مطلقاً کان وجوب المقدّمة أیضاً مطلقاً، ولا یعتبر فیه أیّة خصوصیّة، وإن کان مشروطاً کان وجوب المقدّمة أیضاً مشروطاً.
القول الثانی: ما یلوح من کلام صاحب المعالم من اشتراط وجوب المقدّمة على القول به بإرادة ذی المقدّمة، فإن أراد المکلّف الإتیان بذی المقدّمة وجبت المقدّمة وإلاّ فلا، وإلیک نصّ کلامه فی مبحث الضدّ: «وأیضاً فحجّة القول بوجوب المقدّمة على تقدیر تسلیمها إنّما ینهض دلیلا على الوجوب فی حال کون المکلّف مریداً للفعل المتوقّف علیها کما لا یخفى على من أعطاها حقّ النظر».
نعم، قد یقال بأنّ «هذه العبارة ظاهرة بل نصّ فی أنّ القضیّة حینیة لا شرطیّة وأنّ وجوبها فی حال إرادة الفعل المتوقّف علیها لا مشروطة بإرادته»(2) وسیأتی فی القول الخامس إشارة إلیه.
القول الثالث: ما نسب إلى شیخنا العلاّمة الأنصاری (رحمه الله) من أنّ الواجب هو المقدّمة المقصود بها التوصّل إلى ذیها، فإن أتى بها ولم یقصد بها التوصّل فلا تقع على صفة الوجوب أصلا.
والفرق بین هذا وسابقه أنّ إرادة الإتیان بذی المقدّمة بناءً على القول الأوّل شرط للوجوب فلا تجب المقدّمة إلاّ بعد تحقّق إرادة إتیان ذی المقدّمة سواء قصد بإتیان المقدّمة التوصّل إلى ذیها أو أمر آخر کالکون على الطهارة فی الوضوء مثلا، بینما هی بناءً على القول الثانی قیّد للواجب، فالمقدّمة واجبة على أیّ حال سواء أراد إتیان ذی المقدّمة أو لم یرده، ولکن یجب علیه حین إتیان المقدّمة قصد التوصّل إلى ذی المقدّمة فتأمّل.
القول الرابع: مختار صاحب الفصول والذی اختاره فی تهذیب الاُصول أیضاً من أنّ الواجب إنّما هو خصوص المقدّمة الموصلة، أی أنّ الواجب خصوص المقدّمة التی یترتّب علیها ذو المقدّمة، وأمّا إذا لم یترتّب علیها ذو المقدّمة فلا تقع على صفة الوجوب سواء قصد بها التوصّل إلى ذی المقدّمة أو لم یقصد.
القول الخامس: ما اختاره المحقّق العراقی والمحقّق النائینی وشیخنا الحائری(رحمهم الله)وهو نفس ما حمل علیه کلام صاحب المعالم آنفاً من أنّ الواجب هو المقدّمة حال إرادة الإتیان بذی المقدّمة على نهج القضیّة الحینیة لا مقیّداً بها على نهج القضیّة الشرطیّة.
هذا کلّه هو الموقف القولی فی المسألة، وقبل الورود فی أدلّة الأقوال ینبغی التنبیه على أمرین:
الأمر الأوّل: أنّ المنهج الصحیح فی البحث یقتضی تأخّر هذا النزاع عن النزاع فی أصل وجوب المقدّمة لأنّه من فروعه، فکان ینبغی أن یتکلّم أوّلا عن أصل وجوب المقدّمة، وبعد إثباته یتکلّم ثانیاً عن کیفیة وجوبها وأنّه هل هو مطلق أو مقیّد بخصوصیّة، ولکن حیث إنّ القوم قدّموه علیه فنحن أیضاً تبعاً لهم وتأسّیاً بهم فی منهج البحث نقدّمه علیه وننتظر تصحیح هذه المواقف فی المستقبل إن شاء الله.
الأمر الثانی: أنّ کثرة الأقوال المزبورة وشدّة النزاع فی المسألة ترشدنا إلى وجود معضلة هامّة فیها، وهی معضلة المقدّمة المحرّمة کالدخول فی الأرض المغصوبة الذی هو مقدّمة لانقاذ الغریق، حیث إنّ لازم القول بوجوب المقدّمة مطلقاً من دون أی قید وخصوصیّة (کما ذهب إلیه المحقّق الخراسانی(رحمه الله)) هو جواز الورود فی الأرض المغصوبة ولو لم یقصد به انقاذ الغریق، وسواء تحقّق بعد ذلک انقاذ الغریق أو لم یتحقّق مع أنّه مخالف للوجدان الفقهی والارتکاز المتشرّعی.
فلحلّ هذه المعضلة والتخلّص عنها تمسّک کلّ واحد من المحقّقین بذیل قید کما لاحظت فی بیان الأقوال المزبورة.
هذا ـ مضافاً إلى أنّ هیهنا مشکلة اُخرى، وهی ما اُشیر إلیه فی کلام صاحب الفصول من مسألة الضدّ الخاصّ، حیث إنّ القول بوجوب المقدّمة مطلقاً لازمه بطلان الضدّ الخاصّ الذی یکون ترکه مقدّمة لإتیان واجب أهمّ فیما إذا کان الضدّ أمراً عبادیّاً کالصّلاة بالنسبة إلى إزالة النجاسة عن المسجد، فحیث إنّ ترک الصّلاة مقدّمة لفعل الإزالة فبناءً على وجوب المقدّمة مطلقاً یجوز ترک الصّلاة (بل یجب) فیما إذا وجب علیه إزالة النجاسة سواءً قصد به التوصّل إلیها أو لم یقصد، وسواء تحقّق بعد ذلک الإزالة أو لم تتحقّق، وسواء أراد الإزالة أو لم یردها مع أنّه أیضاً مخالف للوجدان والارتکاز الدینی.
إذا عرفت هذا فنقول: استدلّ المحقّق الخراسانی(رحمه الله) على القول الأوّل (أی أنّ وجوب المقدّمة مطلق إن کان ذو المقدّمة واجباً مطلقاً ومشروط إن کان ذو المقدّمة واجباً مشروطاً) بالبداهة والضرورة وقال: «إنّ نهوض حجّة القول بوجوب المقدّمة (على تقدیر تسلیمها) على التبعیّة واضح لا یکاد یخفى وإن کان نهوضها على أصل الملازمة لم یکن بهذه المثابة».
ویبدو کلامه هذا جیّداً فی بادىء النظر ولکن سیأتی عند التعرّض لأدلّة سائر الأقوال عدم مقاومته لها فانتظر.
وأمّا القول الثانی: وهو ما ذهب إلیه صاحب المعالم من أنّ وجوب المقدّمة مشروط بإرادة ذی المقدّمة، فهو لم یستدلّ له بشیء، وإنّما قال بأنّ حجّة القول بوجوب المقدّمة لا تنهض على أکثر من ذلک، ولذلک فجوابه واضح لأنّ حجّة القول بوجوب المقدّمة تدلّ على وجود الملازمة بین وجوب ذی المقدّمة ووجوب المقدّمة، والملازمة تقتضی تبعیّة أحدهما عن الآخر فی الإطلاق والاشتراط وأن یکون أحدهما مثل الآخر فی القیود والخصوصیّات إلاّ ما قام الدلیل على خلافه، هذا ـ مضافاً إلى أنّ لازمه کون وجوب المقدّمة تابعاً لإرادة المکلّف ودائراً مدار اختیاره وعزمه وهو باطل قطعاً، بداهة أنّ لازمه عدم الوجوب عند عدم الإرادة.
هذا کلّه مع قطع النظر عمّا مرّ من بعض الأعاظم من أنّ المستفاد من کلمات صاحب المعالم فی مبحث الضدّ أنّ مراده إنّما هو القول الخامس وأنّه لیس شیئاً مستقلا عنه.
وأمّا القول الثالث: (وهو ما نسب إلى الشّیخ الأعظم(رحمه الله) من أنّ الواجب هو المقدّمة التی قصد بها التوصّل إلى ذی المقدّمة) فقد اختلف فی صحّة انتسابه إلى الشّیخ الأعظم(رحمه الله)أیضاً، فقال بعض بأنّ مراده اشتراط قصد التوصّل إلى الواجب فی مقام الامتثال والطاعة وترتّب المثوبة، أی لا بدّ فی مقام الإتیان بالمقدّمة والتقرّب بها إلى الله تعالى من قصد التوصّل بها إلى ذی المقدّمة حتّى یترتّب علیها الثواب، ولکن على فرض صحّة الانتساب یستدلّ لهذا القول بأنّ الواجب إنّما هو الفعل بعنوان المقدّمة لا ذات الفعل فحسب، وعلیه فلابدّ فی الإتیان بها من لحاظ هذا العنوان وإلاّ لم یأت بالواجب، ولحاظ العنوان یساوق قصد التوصّل بها إلى ذی المقدّمة، فثبت المطلوب.
إن قلت: لازم ذلک عدم حصول الغرض فیما إذا أتى المکلّف بالمقدّمة من دون التوصّل مع أنّه لا شبهة فی حصوله فیما إذا کانت المقدّمة من التوصّلیات.
قلنا: ربّما یسقط الغرض من المأمور به بما لیس بمأمور به، فینتفی الواجب بانتفاء موضوعه، وهذا ممّا یتّفق کثیراً ما فی الواجبات التوصیلیة کما إذا حصل تطهیر المسجد بنزول المطر أو بماء مغصوب لم یکن التطهیر به مأموراً به قطعاً، ولکنّه لا ینافی اختصاص الوجوب بحصّة خاصّة من المقدّمة وهی الحصّة المقیّدة بقصد التوصّل.
وقد أورد علیه بما حاصله: إنّ الواجب إنّما هو ذات المقدّمة التی هی مقدّمة بالحمل الشائع، وأمّا عنوانها فهو من الجهات الباعثة على وجوبها کالمصالح والمفاسد الکامنة فی متعلّقات الأحکام (فهو فی الواقع من الجهات التعلیلیة لوجوب المقدّمة لا من الجهات التقییدیّة له) فلو أتى بالمقدّمة بدون قصد التوصّل فقد أتى بالواجب، وإلاّ لو لم یکن الواجب مطلق المقدّمة لم یجتز بما لم یقصد به التوصّل ولم یسقط به الوجوب قطعاً، فلابدّ من نصب السلّم مرّة اُخرى مثلا بقصد التوصّل مع أنّه ممّا لم یقل به أحد ویخالفه حکم العقل القطعی، ولا یقاس ذلک بمثل تطهیر المسجد بمقدّمة محرمة کماء مغصوب أو بنزول المطر لأنّ عدم اتّصاف المقدّمة فیهما بالوجوب لیس إلاّ لأجل المانع عنه، وهو الاتّصاف بالحرمة فی المثال الأوّل، والخروج عن القدرة فی المثال الثانی لا لفقد المقتضی فیه، أی الملاک من التوقّف والمقدّمیّة، فلولا المانع لأتّصفا أیضاً بالوجوب قطعاً کغیرهما من الفرد المباح والفرد الداخل فی القدرة.
ثمّ إنّ المحقّق الإصفهانی(رحمه الله) فی حاشیة الکفایة تصدّى إلى توجیه مراد الشّیخ(رحمه الله) بما حاصله: أنّه فرق بین الواجبات العقلیّة والواجبات الشرعیّة، فإنّ الجهات التعلیلیة فی الثانیّة غیر الجهات التقییدیّة فیها، فإن الصّلاة مثلا تکون الجهة التعلیلیة فیها النهی عن الفحشاء مثلا، وهو لیس قیداً لها حتّى یکون الواجب الصّلاة الناهیة عن الفحشاء، بخلاف الأحکام العقلیّة فتکون الجهة التعلیلیة فیها بعینها هی الموضوع لحکم العقل، فحکم العقل بحسن ضرب الیتیم للتأدیب مثلا حکم بحسب الواقع والحقیقة بحسن التأدیب، کما أنّ حکمه بقبح الضرب للایذاء حکم فی الواقع بقبح الایذاء، فتکون الجهة التعلیلیة فیها بعینها هی الجهة التقییدیّة والموضوع للحکم، وعلى هذا الضوء فبما أنّ مطلوبیّة المقدّمة لیست لذاتها بل لحیثیة مقدّمیتها والتوصّل بها، فالمطلوب الجدّی والموضوع الحقیقی للحکم العقلی إنّما هو نفس التوصّل(3).
وقد ناقش فیه بعض الأعلام «بأنّ رجوع الجهات التعلیلیة فی الأحکام العقلیّة إلى الجهات التقییدیّة وإن کان فی نهایة الصحّة والمتانة إلاّ أنّه أجنبی عن محلّ الکلام فی المقام، وذلک لما تقدّم فی أوّل البحث من أنّ وجوب المقدّمة عقلا بمعنى اللابدّیّة خارج عن مورد النزاع وغیر قابل للانکار، وإنّما النزاع فی وجوبها شرعاً الکاشف عنه العقل، وکم فرق بین الحکم الشرعی الذی کشف عنه العقل وحکم العقل، وقد عرفت أنّ الجهات التعلیلیة فی الأحکام الشرعیّة لا ترجع إلى الجهات التقییدیّة، فما أفاده (رحمه الله) لا ینطبق على محلّ للنزاع»(4).
أقول: الأولى فی مقام الدفاع عن مقالة الشّیخ (رحمه الله) أن نقول: أنّه قد وقع الخلط فی المقام بین العناوین القصدیّة التی لا تتحقّق بدون القصد کعنوان التأدیب الذی یحصل بالضرب
المقصود منه التأدیب (وإلاّ یکون ظلماً وإیذاءً) وبین غیرها من العناوین کعنوان الغصب الذی یحصل بالتصرّف فی مال الغیر من دون طیب نفسه وإن لم یقصد به الغصب، والمقدّمة فی ما نحن فیه إنّما تکون من القسم الأوّل، فلابدّ فی تحصیلها إلى قصد المقدّمیّة، وهو یساوق قصد التوصّل بها إلى ذیها.
لکن الإنصاف أنّه لا دلیل على کونه من القسم الأوّل بل المقامات مختلفة، فلذا ینتقض بمثل نصب السلّم الذی یحصل بلا قصد التوصّل أیضاً، فالإشکال باق على حاله فإنّه لا یجب نصبه مرّة اُخرى بقصد التوصّل قطعاً.