قال صاحب الکفایة (رحمه الله) هنا ما حاصله: إنّه قد ظهر ممّا ذکرنا عدم الفرق بین الإخبار والإنشاء لا فی الموضوع له ولا فی المستعمل فیه، بل الفرق فی کیفیة الاستعمال وغایته، فالموضوع له والمستعمل فیه فی جملة «بعت» حال الإخبار والإنشاء واحد، إلاّ أنّ «بعت» الخبریّة وضعت لأن یراد منها الحکایة عن الخارج و «بعت» الإنشائیّة وضعت لأن یراد منها إیجاد البیع وإنشائه فی عالم الاعتبار.
أقول: قد ظهر ممّا سبق ما هو الحقّ فی المسألة أیضاً، وهو أنّ الإنشاء والإخبار أمران مختلفان، ذاتاً وجوهراً کما هو مقتضى حکمة الوضع، أمّا الإخبار فهو فی الواقع بمنزلة التصویر من الخارج بآلة التصویر من دون تصرّف من ناحیة المصوّر. وأمّا الإنشاء فهو إیجاد معنى فی عالم الاعتبار من دون أن یکون بإزائه فی الخارج شیء یحکى عنه، لأنّ ید الجعل لا تنال عالم التکوین بل هی مختصّة بالاُمور الاعتباریّة، ویأتی إن شاء الله تعالى فی مبحث الأمارات فی مقام بیان حقیقة حجّیة الأمارات أنّه لا معنى لکون الحجّیة هناک بمعنى جعل صفة القطع کما قال به المحقّق النائینی(رحمه الله)، لأنّ القطع أمر تکوینی لا یقبل الجعل التشریعی وبالنتیجة لا شباهة بین ماهیّة الإنشاء وماهیة الإخبار، والفرق بینهما هو نفس الفرق بین الاُمور التکوینیّة والاعتباریّة، وأمّا نحو جملة «بعت» التی تستعمل فی الإخبار والإنشاء کلیهما فإنّها من قبیل الألفاظ المشترکة التی وضعت لمعنیین مختلفین ولا بأس بالالتزام به.
تکملة: فی ما أفاده بعض الأعلام فی المقام. وحاصله: إنّ ما ذکره المحقّق الخراسانی(رحمه الله)مبنی على ما هو المشهور بینهم بل المتسالم علیه من أنّ الجمل الخبریّة موضوعة لثبوت النسبة فی الخارج أو عدم ثبوتها فیه، وإنّ الجمل الإنشائیّة موضوعة لایجاد المعنى فی الخارج الذی یعبّر عنه بالوجود الإنشائی. والصحیح أنّ الجملة الخبریّة موضوعة للدلالة على قصد الحکایة والإخبار عن الثبوت أو النفی فی الخارج، ولم توضع للدلالة على ثبوت النسبة فی الواقع أو نفیها عنه وذلک لسببین:
أحدهما: إنّها لا تدلّ ولو ظنّاً على ثبوت النسبة أو عدمه مع قطع النظر عن حال المخبر (من حیث الوثاقة) وعن القرائن الخارجیّة مع أنّ دلالة اللفظ لا تنفکّ عن مدلوله الوضعی بقانون الوضع وإلاّ لم یبق للوضع فائدة، فإذا فرضنا أنّ الجملة بما هی هی لا تدلّ على تحقّق النسبة فی الواقع ولا کاشفیة لها عنه أصلا ولو ظنّاً، فما معنى کون الهیئة موضوعاً لها؟ بل یصبح ذلک لغواً فلا یصدر من الواضع الحکیم.
ثانیهما: إنّ الوضع عبارة عن التعهّد والالتزام النفسانی، ومن الواضح أنّ التعهّد والالتزام لا یتعلّقان إلاّ بالفعل الاختیاری، إذ لا معنى للتعهّد بالإضافة إلى أمر غیر اختیاری، وبما أنّ ثبوت النسبة أو نفیها فی الواقع خارج عن الاختیار فلا یعقل تعلّق الالتزام، به فالذی یمکن أن یتعلّق الالتزام به هو إبراز قصد الحکایة فی الإخبار.
والنتیجة: أنّ الجملة الخبریّة وضعت لإبراز قصد الحکایة والإخبار عن الواقع ونفس الأمر.
وأمّا الجملة الإنشائیّة فهی موضوعة لإبراز أمر نفسانی غیر قصد الحکایة، ولم توضع لایجاد المعنى فی الخارج، والوجه فی ذلک هو إنّهم لو أرادوا بالإیجاد الإیجاد التکوینی فبطلانه من الضروریات. وإن أرادوا به الإیجاد الاعتباری کإیجاد الوجوب والحرمة أو الملکیّة والزوجیّة وغیر ذلک، فیردّه إنّه یکفی فی ذلک نفس الاعتبار النفسانی من دون حاجة إلى اللفظ والتکلّم به. نعم اللفظ مبرز له فی الخارج لا إنّه موجد له.
ومن هنا یعلم إنّه لا فرق بینها وبین الجملة الخبریّة فی الدلالة الوضعیّة والإبراز الخارجی: وإنّما الفرق بینهما فی ما یتعلّق به الإبراز، فإنّه فی الجملة الإنشائیّة أمر نفسانی لا تعلّق له بالخارج، ولذا لا یتّصف بالصدق أو الکذب، بل یتّصف بالوجود أو العدم، وفی الجملة الخبریّة أمر یتعلّق بالخارج فإن طابقه فصادق وإلاّ فکاذب(1) (انتهى ملخّصاً).
لکن یرد علیه اُمور:
الأمر الأوّل: إنّه یستلزم کون جملة «بعت» الإنشائیّة والجملة المعادلة لها (بناءً على ما ذهب إلیه) وهی «اعتبرت فی نفسی ملکیّة هذا لزید مثلا» کالمترادفین فیصحّ حینئذ جعل إحدیهما موضع الاُخرى، مع أنّه خلاف الوجدان، لأنّا نجد بوجداننا إیجاد الملکیّة أو الزوجیّة مثلا بجملة «بعت» أو «زوّجت» ولا نجده فی جملة «اعتبرت فی نفسی ملکیّة هذا» (بعنوان الحکایة عمّا فی ضمیره).
الأمر الثانی: إنّه لو کان حقیقة الإخبار إبراز قصد الحکایة فانه یستلزم أن لا تکون الجمل الخبریّة بنفسها مصادیق للحکایة عن الخارج، وهو خلاف الوجدان، لأنّا ندرک بصریح وجداننا إنّها حاکیات عن الخارج، وأمّا ما ذکره من أنّها لا تدلّ على ثبوت النسبة فی الخارج ولو ظنّاً إلاّ بعد وثاقة المخبر والقرائن الخارجیّة فهو من قبیل الخلط بین الدلالة التکوینیّة کدلالة الدخّان على وجود النار، والدلالة الوضعیّة الالتزامیّة کدلالة الألفاظ على معانیها، والمنفی هو الثانی لا الأوّل.
وإن شئت قلت: الألفاظ کالصور المرتسمة، فإنّها بأجمعها تحکی عن الخارج سواء کان هناک إنسان قصد الحکایة أم لا، ومع ذلک هذه الصور قد تکون مطابقة للواقع واُخرى مخالفة له.
الأمر ثالث: إنّ لازم کلامه قبول الإنشاء للصدق والکذب، فإنّ من قال: «بعت داری» یحکی عن أمر نفسانی خاصّ بناءً على ما ذکره من أنّه لإبراز ما فی النفس، وهذا قد یکون مطابقاً للواقع وقد یکون مخالفاً إذا لم یکن فی نفسه من هذا الأمر الاعتباری عین ولا أثر.
الأمر الرابع: (وهو العمدة) إنّ الإنصاف کون حقیقة الإنشاء إیجاد أمر اعتباری بأسبابه المعتبرة عند العقلاء، وبعبارة اُخرى: حقائق هذه الاُمور (الملکیّة والزوجیّة وغیرهما) اعتبارات عقلائیّة وقد جعلوا للوصول إلیها أسباباً، ومن توسّل بهذه الأسباب فقد أوجدها فی وعائها، ولا ینافی ذلک أن یکون له شرائط مختلفة ممّا یعتبر فی البائع والمشتری والعوضین، فمن تعدّاها لم یصل إلى هذه الاعتبارات. وهو نظیر إمضائه فی دفتر الأسناد فیما إذا أراد انتقال ملکه إلى الغیر، فإنّ إمضاءه هذا یوجب اعتبار العقلاء الملکیّة للمشتری ویترتّب علیه آثار خاصّة عندهم، وبه یوجد مصداق من مصادیق سبب الملکیّة الذی اعتبره العقلاء سبباً.
وعلى هذا فیصحّ أن نقول: إنّ حقیقة الإنشاء إیجاد الاُمور الاعتباریّة لا إبراز الاعتبارات النفسانیّة، والاعتبارات النفسانیّة الشخصیّة بمجرّدها غیر کافیة فی حصول هذه العناوین عند العقلاء إلاّ أن یکون بأسباب خاصّة عندهم.
هذا تمام الکلام فی الفرق بین الإنشاء والإخبار.